انطلاق حملات التوعية بالممارسات الخاطئة في ذبح الأضاحي وكيفية التعامل مع المخلفات في الجيزة    بعد الارتفاع الأخير.. خبير اقتصادي يكشف توقعات أسعار الذهب الفترة المقبلة (فيديو)    تراجع سعر الجنيه الذهب في ختام تعاملات اليوم الجمعة (آخر تحديث)    إسرائيل تهدد حماس بقبول صفقة المحتجزين أو مواجهة التصفية    ثلاثي بشتيل يقترب من الدوري الممتاز    مقتل شاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالصف    محمد ممدوح وطه الدسوقي في فيلم "دافنينه سوا" بعد العيد    إكسترا نيوز تطلق تجربة جديدة.. مذيعات بالذكاء الاصطناعى عن مستقبل السينما    وزير التعليم يبحث مع «جوجل» تعزيز دمج التكنولوجيا في تطوير المنظومة التعليمية    "قبل نهائي الأبطال".. تاريخ مواجهات إنتر ميلان وباريس سان جيرمان    أحمد عاطف يعلن رحيله رسمياً عن مودرن سبورت    13 لقبا في 35 ظهور.. ريال مدريد يعلن رحيل فاييخو    بتواجد ثلاثي ليفربول.. محمد صلاح يتصدر فريق الجماهير في الدوري الإنجليزي    زيادة ثقة المستثمرين الأجانب فى الاقتصاد المصرى    مصرع شابين وإصابة 3 آخرين في حادث تصادم دراجتين بخاريتين ببني سويف    "مصر وبوينج" تبحثان تعزيز السلامة الجوية والتحول البيئي في الطيران المدني    تطرق أبواب السياسة بثقة :عصر ذهبى لتمكين المرأة فى مصر.. والدولة تفتح أبواب القيادة أمام النساء    من هو أحمد زعتر زوج أمينة خليل؟    العشر من ذى الحجة    بالمجان| الكشف الطبى على 800 مواطنًا خلال قافلة طبية بعزبة 8 في دمياط    حسام موافي يحذر من أعراض الأنيميا.. وعلاجها بشكل فعّال    وزير الخارجية يلتقي بسفراء الدول الأوروبية المعتمدين في القاهرة    المفتي مكرما حفظة القرآن بالشرقية: لا ينبغي أن يقتصر الحفظ على التكرار والترديد    محمد شريف: وقعت للزمالك سابقًا.. ولكن الأهلي حسم الصفقة في 48 ساعة    ضوابط صارمة لمنع الإخلال بالنظام خلال امتحانات الشهادة الإعدادية في شمال سيناء غدا    4 مشاهدين فقط.. إيرادات فيلم "الصفا ثانوية بنات"    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة «بلدك معاك» لدعم الأسر الأولى بالرعاية    برنامج توعوي مخصص لحجاج السياحة يشمل ندوات دينية وتثقيفية يومية    حملة مكبرة لرفع الإشغالات بشارع 135 بحي غرب شبرا الخيمة - صور    عالم بالأوقاف: كل لحظة في العشر الأوائل من ذي الحجة كنز لا يعوض    وفد من مسئولي برامج الحماية الاجتماعية يتفقد المشروعات المنفذة بحياة كريمة في الدقهلية    سوريا تُرحب بقرار اليابان رفع العقوبات وتجميد الأصول عن 4 مصارف    ألمانيا تربط تسلم أسلحة إسرائيل بتقييم الوضع الإنساني بغزة    ماكرون: إذا تخلينا عن غزة وتركنا إسرائيل تفعل ما تشاء سنفقد مصداقيتنا    شعبة مواد البناء: أسعار الأسمنت ارتفعت 100% رغم ضعف الطلب    الحدائق والشواطئ بالإسكندرية تتزين لاستقبال عيد الأضحى وموسم الصيف    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    الأعلى للجامعات: فتح باب القبول بالدراسات العليا لضباط القوات المسلحة    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    أزمة تايوان تتفاقم.. واشنطن تعيد تشكيل الردع وبكين تلوّح بالرد    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    وزير الزراعة يستعرض جهود قطاع تنمية الثروة الحيوانية والداجنة خلال مايو الجاري    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    ديو "إهدى حبة" يتصدر التريند.. ديانا حداد والدوزي يشعلان الصيف    نائب وزير الصحة يتفقد عددا من المنشآت الصحية فى البحر الأحمر    مصرع طفل بصعق كهربائى داخل منزل أسرته بجرجا فى سوهاج    طقس مائل للحرارة اليوم الجمعة 30 مايو 2025 بشمال سيناء    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    فرنسا تحظر التدخين في الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال بدءًا من يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كاتب ومدينة
زقازيق طفولتي.. عجوز تنام مبكراً
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 09 - 2014

قصر ثقافة الزقازيق
الطفولة بطبيعتها بريئة، ولكن ليست قليلة هي المرات التي تميل فيها إلي المخادعة، كأن تدفع الطفلة المتبقية داخلي إلي تصدير ذكرياتها الدافئة عن المدينة باعتبارها المدينة ذاتها فتضع أمامي صورة حنطور "عم علي"، حنطور المدرسة "الناصرية الابتداية بالزقازيق"، حيث صيحات فرح وهمهمات تسابُق ثم شجار غض حول من يركب فوق: بجوار "عم علي"؟ من يطرقع الكرباج في الهواء ويفوز برؤية الحصان وهو يصهل مسرعًا خوفًا من أن تستهدفه الطرقعة أو اللسعة التالية. الصغار الذين جمعهم الحنطور وفصل أولي أول وحتي ستة أول "فصل المتفوقين" ثم تفرقوا بعد ذلك إلي مدارس الإعدادي والثانوي صاروا كبارًا في أولي جامعة ما يكفي لكي يتولي فريق صغير منهم مهمة البحث عن الباقين، ويتحمل عناء الاتصال بمن غادر الزقازيق ويجمعهم في حفل بديع، ضم "أسامة" المتحفظ ذا الأصول الصعيدية و"ليلي" المنفتحة مع حياتها الجديدة بالاسكندرية وكلية الهندسة، و"سامية" التي يعمل أبوها المهندس بقناة السويس، ثم بقيتنا الملتصقين بالزقازيق وأولنا صاحب الفكرة: "أمجد" رائد الفصل؛ الجميع "طلاب كليات القمة" يمرحون في حضور أبلة "وداد" الوحيدة من مدرساتنا التي استطاعت أن تستجيب للدعوة ويغنون ويتقاذفون البالونات الملونة ويتفقون علي اللقاء في العام التالي، وفي.. كل عام.
يمكنني أن أنسي خيزرانة "الشيخ عبدالفتاح" مدرس العربي تنزل، عشر مرات، فوق كفيّ لأني نسيت كراسة الواجب، أنسي الدموع التي زرفتها ليس من ألم الضرب بل من خيبة أملي في الشيخ الذي حسبته ملاكًا ثم انتبهت لكون الملائكة لا تميز بين الناس فتستثني ابن رئيس مجلس المدينة من الضرب رغم أنه لم يعمل الواجب وأتذكر سماحة "أبلة عطيات" الناظرة صاحبة الصورة الشهيرة لنساء مصر في ثورة 1919 والأم المثالية لكل تلاميذ المدرسة "رغم أنها لم تتزوج قط". أنسي الرذائل التافهة كالتلصص من وراء الشبابيك، ووشوشات النميمة ومصمصات الشفاه ودس الأنوف في شئون الآخرين وأتسامح مع كل ما تسبب فيه ودفع إليه خواء وسأم الزمان والمكان حتي أن الصبية المحظوظين بأجواء أسرية تكتنفها الثقة والطمأنينة لن يمكنهم بسهولة النجاة من المخاوف من القيل والقال، من التأنيب والاجتناب؛ سأفكر فقط بالمدينة الجميلة التي شُيدت، كما يقال، بين مدينتين فرعونتين لا تزالان تحملان نفس الاسم وهما "بلبيس" و"فاقوس"، لتصبح هي أشهر مدينة فرعونية بشرق الدلتا، وعاصمة لعبادة الالهة "بست"، ثم تأتي الأتربة وتطمرها فتتحول الي خرائب، يبقي منها فقط أطلال معبد "بست" الذي يطلق عليه اليوم: تل بسطة قبل أن تدب فيها الحياة مرة أخري باسم "الزقازيق" الذي يقال إنه يرجع لأسرة المقاول "أحمد زقزوق الكبير"، الذي أنشأ هذه البلدة وعندما رآها محمد علي باشا رفع يده عاليا وقال بإعجاب: فلتكن الزقازيق. بعد عقود، حسب نفس الرواية أنشأ "إبراهيم باشا زقزوق الكبير" من ذرية أحمد زقزوق الكبير نزلة الزقازيق بجوار القناطر التسعة ومسجد الأثرية المعروف لتصبح المدينة التي سيتم استخدامها كمركز حكومي لتجميع الفلاحين وإرسالهم لحفر قناة السويس بالسخرة في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، والمدينة التي سيخرج من إحدي القري التابعة لها "هرية رزنة" أحمد باشا عرابي زعيم ثورة المطالبة بالكرامة والمساواة.
زقازيق طفولتي عجوز جهمة
لأول وهلة تبدو زقازيق طفولتي عجوزًا جهمة، بيوتها قديمة كالحة، تحب النوم مبكرا ولا تبدو نشيطة عندما تصحو، لكن من يبذل جهدًا لمعرفتها يميل للاعتقاد بأن هذا هو "الوش الخشب" فأهلها طيبون، وسواء "الشراقوة عزموا القطر" بالفعل أو لم يعزمونه فقد ندر، تلك الفترة، تشييد الفنادق بالمدينة وظلت استضافة الغريب واجبا علي أبناء البلد وليس عملا استثماريا، لكنه واجب يزداد مشقة مع ضيق الظروف الاقتصادية فيعيد للأذهان المثل الشعبي: يا بخت من زار وخفف.؛ يميل شراقوة هذه الفترة للشجن دون سبب واضح اللهم إلا إذا كان تأثرا بابن البلد عبقري الموهبة "عبدالحليم حافظ" وأغانيه الشجية: أو تدري بما جري! أو تدري دمي جري! لست قلبي لكنهم عندما يضحكون ينسون أنفسهم ويكركرون مثلما يحدث بالأعياد واحتفالات شم النسيم التي تجتذب أبناء المراكز والقري التواقين للمرح، كما يهيمون وجدًا بالمناسبات الدينية "مولد سيدي أبوخليل: قطب الزمان ومعدن العرفان" أحد أساطين الدعوة الذين قيل فيهم:
أهل اليقين لهم بالعلم تيجان
والدين حصن وهم للحصن أركان.
في المولد الذي تستعد له السلطات الإدارية وينتظره الأرزقية والمجاذيب، وكذلك الباعة الجوالون وبعربات الحرنكش والنبق وحب العزيز، كما ينتظره صغار التجار توقعا لرواج تجاري ويرتاده نفر من كبار رجالات الدولة يؤمنون ببركته في تحقيق مآربهم، ويتجمع المريدون بعشرات الخيام، تحت الخيمة الربانية الزرقاء، مهللين صاخبين فيصعب تفريق هيام الذاكرين الخاشعين من رقص المتدروشين من تمايل المازحين، خاصة مع تجاوزهم عشرات الآلاف، ما جعل لمشايخ الطريقة ثقلا في الانتخابات البرلمانية وغيرها.
في الزقازيق مدينتي الأولي أعتبر نفسي محظوظة بدخول الجامعة في فترة شديدة الحيوية في عمر بلدنا، استمعت إلي مناقشات ومناظرات ضارية!! "علي الأقل بذلك الوقت بدت هكذا" وشاركت إقامة ندوات وتحرير مجلات تشارك فيها الكتابة الطلبة والأساتذة معا، وفي عمل معارض فنية، ومسرحيات حظي بعضها بمشاهدة عالية بينما لم يحالف الحظ بعضها الآخر، فكنا نصبر أنفسنا بشعار: يكفينا شرف الإنجاز، وحتي من قبل دخولي الجامعة كان هناك كشك الكتب "الفجر الجديد" الذي أدمنت، بتفانٍ ساذج، إنفاق مصروفي كله لديه، كما التقيت عنده طلبة مثقفين أثروا معارفي، منهم السوداني والفلسطيني والنيجيري وليس فقط المصري، وجدتهم في الجامعة بعد ذلك؛ وجود النادي أيضا كان محسوسًا: نادي رياضي أو اجتماعي، نادي للأحياء الموسرة وآخر للفقيرة؛ تعرفت في النادي إلي محبين للفنون وفنانين بدوا لي وقتها عظماء ثم ارتبت في هذه العظَمة عندما لم أجدهم معروفين إعلاميًا، عدا أنني لمت نفسي علي معياري المعيب، وراح يتردد بذهني السؤال: كيف سيكون الحال لو أن كل كاتب أو فنان ترك مدينته الصغيرة وذهب للعاصمة أما ستصبح هذه العاصمة وحدها مضيئة وسيغطي الظلام بقية البلاد؟ قضايا شائكة لكونها تخضع للاختلافات الشخصية، فما من قاعدة واحدة تطبق علي الجميع في كل الحالات. غير أن "هؤلاء الفنانين المحليين" ظلوا للأسف "فنانين نص لبة" أو ربع موهبة بنظر الكثيرين الذين رأوا في عزوفهم عن المجازفة القاهرية بمخاطرها وطموحاتها وأضوائها هربا من المواجهة واختباء في "الظلمات: خارج العاصمة". يكتب "حسام النمر" طالب الطب في مطلع ديوانه الشعري:
يا الزقازيق لا أنتِ قرية
ولا أنتِ في عتبات المدينة.
تبدو مركزية السلطة في المجتمعات التي تهبها الحياة أنهارا عظيمة كنهر النيل، حسب علم الاجتماع السياسي، متسببة بخلق تباين فاحش بين المراكز والتخوم؛ أمر يبدو غبيًا أكثر منه سيئًا، خاصة مع الإذعان له كقدر محتوم، وللعلم فالزقازيق مدينة متوسطة فما بالنا بمعاناة المدن
الصغيرة والقري والكفور والنجوع!! وتري ابن قرية الفُلانية بالمركز العِلّاني يحتاج ثلاثة أو أربعة مواصلات ليصل إلي جامعة الزقازيق، أحدها حمار يخرج به من قلب المزارع إلي طريق العربات، لم يقل المسئولون: كلهم أبنائي. بل تركوا التفاوت يتفاقم بمستوي الخدمات حتي عن الزقازيق التي هي بالنسبة لابن القرية مدينة كبيرة جدا، أكبر مما تبدو القاهرة بالنسبة لابن الزقازيق. هذا التشوه بالفعل لم يكن كل شيء، فالعام ينعكس علي الخاص، ويتمكن من الشخصية ذاتها فيتفاقم بداخلها التحقير للزراعة كمهنة أدني، ويصبح الفرار من الريف حلمًا لا خلاص منه، فينعكس الخاص علي العام وتتدهور الزراعة وبالتالي الاقتصاد.. هلم جرًا.
أمشي.. أترك العمارات العريقة تتواري خلفها فيللا الأباظية "عائلة البشوات التي يندر أن تخلو منها وزارة" تظللها الأساطير عن ملائكة وشياطين وثروات خيالية وقصص عشق تسكن الحي الذي سمي باسم هذه العائلة: منشاة أباظة؛ أميل مع انحناءة النهر "بحر مويس أو بحيرة سيدنا موسي"، أفكر بالأم وهي تلقي التابوت باليم: كيف لم تخف من أن تبتلعه البحيرة!؟" أجدني عند كوبري المحافظة الذي يقابله المقهي الذي لا ينقطع عنه شدو "ثومة" ولا صخب "زهر لعبة الطاولة"، ثم جِزارة فرج الذي يرفض أن يزن اللحم بدون ورقته السميكة، ثم مكتبة رومني وكنيسة مارجرجس، حتي أجدني عند بوابة فخيمة لبرج سكني ضخم مجاورة للبنك.. كانت قبلها دار سينما "سلمي" المواجهة للبحر، ولا شيء سوي قطع الشارع بالعرض لتجد نفسك عند سينما "مصر". اختفت دارا السينما، وقبلهما سينما قصر الثقافة كما انفض نادي السينما من سنوات، منذ شاهدنا فيلم "ممر إلي الهند" وتناقشنا مطولا عنه. القناطر التسعة التي شيدها محمد علي لتنظيم الري التي كنتَ تشاهد تدفق الماء عبرها والصبيان عراة الصدور بصيحاتهم الطازجة وألبستهم القطنية المتدلية يلقون بأنفسهم في أعماق الماء ويسبحون، لم تختفِ بل صارت موقف لعمال المياومة الأرزقية، مواطنو الدرجة الثالثة أو.. العاشرة. وابور النور الذي شهد علي مدي عقود تجمع الأهالي "بالفسيخ والبصل والبيض والخَس والملانة"، وتنطيط العيال احتفالًا بأحد الزعف وشم النسيم: أُغلق، النادي: افتقد السياق الاجتماعي الذي حافظ علي كيانه طويلا، كما استعذب مسئولوه تسليع الرياضة
والموسيقي ولم تنج حتي يارداته الشاسعة: عرضوها للإيجار.
من سرق مدينتي؟
أتساءل مفجوعة، الذين يقايضوننا علي أمننا بحرياتنا؟ أم الذين يتاجرون بكل شيء ويريدون أن يبيعوننا حتي الهواء الذي نتنفسه؟ أم أولئك الذين يحرِّمون علينا كل شيء حتي الهواء الذي نتنفسه؟
من اعتقل زملاءنا في المظاهرات الاحتجاجية علي إدانة المجند ابن كفر "كياد": "سليمان خاطر"؟ هل خافوا أن يقلب اعتقال البنات الدنيا عليهم؟ فقط اكتفوا بضربهن "علقة موووت.. يشهد عليها أسفلت الشارع". حملنا بطاطين، أطعمة، كتب، سجائر للشباب ولولا صديق قديم "من النادي" صار يعمل بالسجن بعد تخرجه لما أمكننا أن ندخل لهم هذه الأشياء التي رغم أهميتها لم تخفف من آلام زملائنا، آلام منحوتة فوق الوجوه صرت أراها في نفس المكان كلما استدعيت كطبيبة مناوبة بالمستشفي للكشف علي أحد السجناء فأهمس له بالسؤال: ضربوك؟
ومع ذلك لا يمكنني إلا الابتسام وأنا أفكر بالمشاجرات وأحيانا المناجاة التي لا تخلو من مشاكسة بين من بالداخل ومن بالخارج، التي ظللت أسمعها يوميًا لوجود السجن في طريق عملي آنذاك، كلمات لا تثير السخرية أو الشفقة بقدر ما تمنحك، كروائي، معجمًا استثنائيًا للأحاسيس والمعاناة، ألهمتني قصة "الليل لما خلي" ومازال لديّ ما أود كتابته.
المدينة، كما أتصور، ليست مجرد مستوطنة ذات تعداد سكاني كبير، ليست مجرد شوارع مرصوفة فبدون الإحساس بالأمان، بدون سلوك متحضر ستظلِم المدينة؛ هي ليست محطة يتوقف عندها القطار، ليست الذهاب، الإياب، الخروج والعودة بل قدرة علي التواصل، علي فهم معني القطار....
يقول ابن الاسماعيلية "محمد المصري" الطالب بجامعة الزقازيق بالثمانينيات:
أعدو، والقطارات تعدو إلي خارجي.. كأن القصيدة حدي
أول بيت أتذكر أنني دخلته في القاهرة هو بيت ابن خال أبي، كان صحفيا بجريدة الأخبار: استقبلتني زوجته الجميلة بحفاوة صادقة طمأنتني واحتوت دهشتي عندما عرفت أن هذه السيدة مسيحية...
هنا عادي! طب ليه عندنا في الزقازيق مش عادي!!
يبتسم أبي ولا يجيب دهشتي التي لم تستمر طويلا فقد وجدت مثل هذه الزيجة بالزقازيق وإن بشكل أقل وضوحًا.
شجعني علي ركوب القطار وحدي دخولي الجامعة واكتشافي أنني لست صغيرة، فهناك بنات أصغر مني بل أيضًا أقصر قامة وأكثر نحافة مني، يركبن القطار قبل شروق الشمس "رحلة الشتاء والصيف" من: بلبيس، ميت غمر، منيا القمح، فاقوس، لأجل الدراسة بالجامعة، وفي القطار يذاكرون ويتناقشون ويضمنون التفوق "عكسي بالطبع".
أسبوع أفلام المخرج الفلاني أو وصول الفيلم الذي حطم الأرقام القياسية عبر العالم هو ما وطد علاقتي بشارع عماد الدين وكثيرا ما أضبط قدميّ الآن تأخذني، عفويًا، إليه. أما معرض القاهرة للكتاب فقد كنا نروحه بأبهي صورة: وجوه مضيئة وملابس آخر موضة وأحذية بكعوب عالية، ثم نعود في صورة أخري "تصلح غلافا لرواية: البؤساء": ظهور محنية، أكتاف ناءت بحمولة الكتب الهائلة: خزين العام كله الذي يرسم الابتسامة العميقة فوق وجوهنا المنهكة، هذا العرس مازلت ألمحه بصفحات الفيس بوك في كتابات عشاق القراءة. الشيء الوحيد الذي ندمت عليه تلك اللحظة هو الكعب العالي:
توبة من دي النوبة. يصيح كعبيّ المتورمين.
وهكذا أخذت معالم الأنوثة الزائفة المعلبة تتساقط من اهتماماتنا.
من وإلي.. الزقازيق والقاهرة:
تمنحك الأماكن أصدقاء متنوعين وحكايات مختلفة، تشعر بالعالم كله مدينتك، مكانك وأمانك وفي راحة يدك، تمد يدك وتقطف القاهرة وتضعها في حِجر الزقازيق: بدعوة أعلام المعرفة: الأدب والفلسفة والاقتصاد السياسي الذين لا أريد أن أذكر أسماءهم خوفا من نسيان أحدهم وأكتفي بالإشارة لندوة د.نصر أبوزيد التي رافقته فيها د.ابتهال يونس قبيل المؤامرة التي دبرت ضدهما بأيام قليلة، التي كانت فاتحة لمرحلة أخري من العنف "قانون الحسبة وغيره" وقبل ذلك استضفنا د.صلاح زكي نخلة، وذهبنا إلي د.حمزة البسيوني بالاسكندرية من أجل "نقابة لكل الأطباء وأطباء لكل الوطن" التي أعتبر "نقابة الاستقلال الحالية امتدادًا لها. وننجح في تأسيس فرع من الجمعية المصرية لحقوق الإنسان، ثم تأسيس لجنة مستقلة تمامًا لدعم الانتفاضة الفلسطينية ظهرت بعدها بفترة لجنة القاهرة، ثم يعمل الأصدقاء بتأسيس فرع من "كفاية". هذه الفروع الممتدة من العاصمة إلي الزقازيق والعكس فقد منحت الزقازيق خيرة أبنائها للقاهرة كانت حصنًا ضد هيمنة أو استكبار أي منهما علي الأخري، وبهذه الندية أسست في وجداننا معني الوطن "مضطرة لاستعمال اللفظة رغم شبهة الادعاء"؛ مددنا هذه الفروع إلي قري صغيرة وبعيدة يعيش أغلب أبناء الزقازيق ويموتون دون أن يروها للأسف مع أنها تابعة لمدينتهم، كان هذا في شكل قوافل طبية تطوعية ثم نشاط حزبي لم يستمر طويلا، فطبيعة المبدع عصية علي التدجين الذي يسمونه: الالتزام.
منحتني الرحلة عبر القطار أو المطار أو حتي علي القدمين ليس فقط معجمًا لغويا أو زخما حكائيًا وفلكلوريًا بل أيضا مرجعًا للخبرات الإنسانية.. نهر الإبداع الحقيقي الذي بدونه لا يفعل الكاتب سوي الدوران بالخواء.
عندما تكون حياتك رهينة داخل علبة صفيح تدعي سيارة أو طائرة فإن طاقاتك الابداعية تتقد، فلديك دوما كلمة أخيرة في لحظة قد تكون الأخيرة بالفعل أو قد تكون بداية لعمل إبداعي جديد "أبناء العلب الصفيح مثلا". أنتمي لهؤلاء الناس الذين ينجحون خلال الساعة المتوفرة في العلبة الصفيح في وضع أبرع الخطط لمستقبلهم، ثم.. لا ينفذون منها شيئا في الغالب، ومع ذلك لا يكفون عن هذه العادة والمحاولة.
لا الزقازيق دجنتني ولا القاهرة تجاهلتني
لم أشعر قط بأن عليّ أن أقدم نفسي للقاهرة، لم أشعر بأني غريبة عنها، عانيت نفس معاناة أبنائها من أمراض المؤسسات الثقافية الحكومية "بيروقراطية وإهمال، وكذلك محسوبية للبعض يقابلها بالضرورة تجاهل للبعض الآخر، وصولا إلي الفساد ببعض الأحيان"، ولم أجد منها احتفاء ولا اضطهادًا ولم أشعر في أي لحظة بأن لي وضعًا خاصًا لا بالسلب ولا بالايجاب سواء وأنا أفد إليها أو وأنا مقيمة كليًا فيها عدا ما أبلغه بفضل إبداعي.
أغيب عن الزقازيق طويلا ثم أجدني في قسم يوسف بك حيث ورش الأخشاب بعبق الماهوجني والسدر، أعبر إلي شارع وادي النيل، ألتقي بقمته "عم علي" بوجهٍ مضيء أثني عليه، فيمسك خشب الحنطور خوفا من حسدي، ثم يبتسم وهو يمسد رأس حصانه ويعرض علي نزهة قصيرة فأعتذر بلطف فالتاكسيات ملأت البلد من أيام دخولي الثانوي، وبقي الحنطور فقط لنزهة السياح أو لغرباء يسعون للعودة لأبنائهم بحكايات مصطنعة عن أرياف زاروها، وكذلك لبعض العشاق والمسكونين بالنوستالجيا.
يسألني "عم علي" عن زملاء الفصل فأذكر له أسماء من سافروا للعمل بالدول العربية ومن هاجروا لأمريكا وكندا وأذكر أن الباقين يدورون بطاحونة الحياة حتي يصعب التواصل مع بعضهم عنه مع المهاجرين "الانترنت"؛ نمر بدور السينما الجديدة وناطحات السحاب والنادي الجديد الفخيم، أنظر بحسرة للمدينة التي تآكلت بفعل الزحام والفوضي وأفكر بشتي القراصنة الذين يسعون لخطفها ثم أنظر للجالسين بالحديقة الرقيقة بجوار مشتل الورد بالكورنيش، حيث توقف الحنطور، أتأمل لعب الأطفال وفرحهم "وأهاليهم" بالخضرة، فأشعر بالطفلة التي داخلي تشاركهم الفرح فأطمئن لكون المدينة لها عشاقها ولها حُراسها.
الزقازيق التي بداخلي ليست كيانا هادئا، بل أميل لشاكستها ومحاورتها وأتعلم خيانتها وتجاوزها "تجاوزت مبكرا جدا أن أعتبرها سجني أو جنتي"، كما أتهمها بتهم شتي، لكن ليس من بينها أنها حاولت أن تفرض علي رقابة أو أن تدجنني أو تجعلني ضحيتها، بل إنها ألهمتني قسما من "ذاكرة التيه" وبعض قصص "أحب نورا.. أكره نورهان"...إلخ. وأفضل ما في الانتماء لمدينتين: هو العناء، لابد أن تشاكس إحداهما لكي لا تغضب الأخري، وربما يكون هذا الجدل مفيدا للمبدع، يقوده لأن يكتب شيئا أصيلًا متميزًا. تزداد صلتي.. أعيش وأنغمس، أنْعم وأضيق وأتعود علي طبائع القاهرة دون قطيعة مع الزقازيق، لأن الحبل السري الذي يربطني بها من مادة عصية ع القطع!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.