يرن جرس النقال اثناء بدء سيره فوق الرصيف المحاذي لنهر ايست ريفر، الرقم يعني أن والده لم يخرج اليوم، مقيم في البيت، يتحدث من الهاتف المتصل بشبكة الانترنت. «صباح الخير يابابا.. سبقتني. يبدو صوته محايداً. هكذا يكون عندما يستغرق، يمضي إلي داخله، من الصعب استنتاج ما يدور عنده، هكذا هو. أحياناً يثير الصوت قلقه عندما يجده واهناً، مرهقاً. يستدل علي حالته من النبر. الإيقاع، دائماً يتصل به عند تجاوزه الشارع السادس والثلاثين، إذا طالت المكالمة يتوقف قرب المقر. الساعة الآن التاسعة إلا ربعاً. مستهل يوم جديد. في القاهرة الآن الثالثة الا الربع، ست ساعات فارق التوقيت. في الوضع نفسه، في التوقيت عينه يتصل به. مكالمة سريعة، الإصغاء إلي الصوت يعني أن الاستمرار مستمر، لايغيب الهدف عن الوالد. لكنه لاينطق به، أحياناً يستبق هو لكنه لايفصح عن الأسباب، إذا ظهر رقم الهاتف الامريكي فهذا يعني مكثه في البيت، إذا كان المحمول المصري فهذا يعني أنه متأخر في الصورة لسبب ما، يقلق عليه، يخشي البواغت، قال له مرة إن الأدوار تتبدل، يصير الأب ابناً. ويصبح المولود أباً مع الزمن. «تبدو الأحوال مضطربة في مصر. صوته محايد، مشغول بأمر آخر. .. تبدو الأحوال مبالغاً فيها من بعد.. لكن الاحوال ليست علي ما يرام..» بعد لحيظات قال إن تكرار انقطاع الكهرباء والماء يدفع الناس إلي احتلال الطرق وإيقاف المواصلات. ربما كان هذا شكلا من المقاومة، قال إنه مع أي قوة. أي جهة تزيح الإخوان من السلطة التي اغتصبوها، حكم ديني يعني نهاية الدولة.. لو أنه وقت آخر لخشي عليه، ربما يتم تسجيل المكالمة. حذر أمني ورثه عن ابيه المطارد منذ الستينيات، بعد الثورة لم يعد يعبأ. ليس بسبب ضعف الأجهزة وتدمير أمن الدولة. إنما لتحدد داخلي غامض المصدر. يثق أن الحال عينه مائل لدي الوالد. فجأة يتساءل: هل تذكر يوم أظهرت الغضب عندما خرجنا ذات جمعة؟؛ بوغت بالاستفسار: أي جمعة يا بابا؟ قال إنها خَرْجة بقصد النزهة رغم تعكر حاله، تطلع إليه دافعا، متسائلا: "بتكرهني ليه يابابا.. يقول إنه توقف مصغيا وقتئذ. التساؤل حقيقي. نابع من معاناة وأغوار لاتعرف تماهي الالوان، كان عمره وقتئذ تسع سنوات تقريباً. هل تذكر؟ يبدو التساؤل غريباً. ثمة شيء لم يستطع تفسيره أرسل إليه رعباً مشقة، حاول أن يحيد إلي السخرية مخففاً، تماما كما يقدم أبوه أحيانا يقول: هو أنا فاكر كلنا أيه امبارح؟ ثم يقول: جري ايه يابابا.. ايه اللي فكرك.. يجيء الصوت مصاحبا لصدي غامض: علي أي حال لو تذكرت.. سامحني.. ابنة يبدأ بالمرح، يبدل صوته، ينطق اسمها منغماً، كأنها ما تزال طفلة مع أن الحفيد يوشك علي بلوغ عامين، تعرف أن نموه بعيداً عنه يكدمه. غير أنه لايفصح ولايبين، يخشي أن يؤلمها خلال مكالمة عابرة، إنها بعيدة، جد نائية، في الطرف الآخر من الكوكب. تعرف ما عنده، تحاول أن تقص عليه أدق التفاصيل، ما ظهر منه. ما بدر عنه، إذا تصادف وكانت بصحبته في الحديقة، أو علي شاطيء النهر تحكي له عن مداعبات الناس له، عن تجاوبه معهم، ابتسامته التي أصبحت معروفة حتي أن مهاجرة روسية تجيء خصيصاً عصر كل يوم لتراه وتبادله الإشارات. تعرف أنه متأثر للبعد، آخر زيارة أمضي بصحبته وقتاً، اتصلا ببعضهما، حتي أن الحفيد يتعرف علي تكه المفتاح عندما يضعه في القفل، يطلق تلك الصيحة التي تعني «جدو...»، في ذلك العصر بدر منه ما أوجعها، قال وهو يتابعه: بعد أيام مس سفري سينساني.. انتبه إلي مس ابنته بما يكدرها، أجابت إنه متعلق بك.. أراد أن يشير إلي ذاكرة الأطفال، يردد دائماً أن أول صورة متبقية عنده من بدايات العام الثالث، من حرب ثمانية وأربعين، غير أنه صمت. ألا يكفي اغترابها؟، كلاهما يحرص علي تجنب مشاعر الآخر خاصة بعد هجرتها. تثق هي أنه يبكي بعد انفراده وانتهاء المكالمة الهاتفية يصدر عنه أحياناً ما يصدم، ما يبدو كأنه خلل مباغت، أو تصرف صادر عن شخص آخر لايمت بصلة إلي ذلك الاب الهاديء، الحنون، الرقراق، يقول أحياناً مداعباً: في الأمر مس.. اليوم سكت فجأة خلال وصفه أحوال البلد، وما يروي عن تصرفات الرئيس الإخواني الجديد. فجأة قال متمهلاً مغيراً إيقاعه: " فاكره يا حبيبتي عودتنا من المطار، لما نسيت الشنطة بتاعتي؟» " ياه.. تاني يابابا.. "أصلي كنت سخيف.. " المهم الشنطة رجعت.. «لا.. المهم ما يكونش عندك زعل مني.. وحد يزعل من أبوه يابابا.. "يعني مش شايلة في قلبك مني.. "جدي ايه يابابا النهاردة.. ألو.. مالك يا حبيبي.. "طيب، قولي: سامحتك" صاحب عندما أصغي حسن إليه، صاح: إيه اللي فكرك بينا؟ لسنوات اتصل به مراراً، كرر كثيراً ضرورة اللقيا، إذا كانت ظروف الحياة فرقت بينهم، كل منهم في جهة، إلا أن شقة جارة سيدي معاذ التي جمعتهم في الطفولة حتي الشباب ماتزال، حافظ عليها رغم كل شيء، غير أنه تعلل دائماً بالضغوط. المشاغل، معه حق، قبل القيام بأدوار أخذت منه ولم تضف إليه، كان ممكناً تخصيص ساعة كل أسبوع، لنقل كل شهر، كثير هذا؟، كان المفروض أن يولي أصدقاء الطفولة بعضاً من مودة واهتمام، يحاول التخفيف عن نفسه مجادلاً: قصرت في حقوق من هم أقرب. غير أن الذنب يتقل عليه، يردد بصوت مرتفع، لم تمض الحياة كما يجب.. لا لم تمض كما يجب، منذ حوالي ثلاث سنوات لم يسمع صوت حسن أقدم رفقته. انتقل للسكني في حي الرحاب الجديد، بعيد. يقيم حسن باستمرار، لا ينزل إلي الجمالية إلا نادراً. يبدو صوته مغايراً، يقول بأسي: «حتي العتاب لم يعد ينفع..» يقول بحرارة إنه مقصر، لكن يجب ألا ينتهي كل شيء هكذا، الأمور تتبدل، ولكن..، يقول حسن إنه يدعو له براحة البال: لا.. لن تنهي المكالمة هكذا.. انا مخطيء. سامحني".. شقيق