تعرف المدينة في اللغة اللاتينية بأنها Civitas من الحضارة ذ أي المكان المتحضر ذ وال Polis (بوليس) أي المكان الذي يفرض فيه النظام ذ كما عرف ليون باتيستا ألبرتي Leon Batista Alberti مهندس عصر النهضة الفذ ذ المدينة بأنها الراحة والجمال Comoditas et Voluptas . أما معني المدينة في اللغة العربية فإن البحث اللغوي أشار كما يقول د. محمدعبد الستار عثمان إلي أن كلمة مدينة ترجع أصلاً إلي كلمة "دين" وأن لهذه الكلمة بهذا المعني أصلاً في الآرامية والعربية أي أنها ذات أصل "سامي" . وعرفت المدينة عند الأكاديين والآشوريين بالدين أي القانون ، كما أن "الديان" يقصد بها في اللغة الآرامية والعبرية "القاضي" ، وإضافة إلي ذلك فإن مصدرها في الآرامية "مدينتا" وتعني القضاء . وفي تفسير آخر فإن كلمة مدينة ترجع إلي الأصل "مدن" أو استقر . علي أية حال فإن دلالة الكلمة في اللغات اللاتينية والعربية والعبرية والآرامية علي حد السواء تعبر عن : الاستقرار ، النظام ، تحقيق الصيغة القضائية ، الحضارة ، الراحة والجمال . أي هي المكان الجميل الذي تتحقق فيه راحة الإنسان في ظل نظام يفرض بقوة القانون وهي قبل كل شيء مركز إشعاع حضاري يقوم بدور تحديثي من خلال نشر أفكار العصر فهل تحقق القاهرة كل تلك المهام ؟ سوف نكتفي ببعض المشاهد في أماكن متفرقة : مشهد 1 : المجلس الأعلي للآثار في ميدان العباسية شرق القاهرة امرأة قروية تجلس أمام مدخل المجلس أمامها مقطف مليء بالسمك البلطي تبيعه للمارة والموظفين . تكرر هذا المشهد أمام القنصلية الفرنسية في وسط البلد ، وفي هذا الوسط ، الذي يضم أكبر تجمع للأنشطة الخدمية العليا من بنوك وشركات التأمين ومحال كبري ومقار الإدارات العليا للدولة ودور المسرح والسينما والعمارات الكلاسيكية ذات القيمة الفنية والتاريخية التي ترجع إلي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وتنتمي إلي طرز معمارية متعددة ومنها علي سبيل المثال الآرت ديكو والآرت نوفو والطراز المختلط والعربي المختلط ، نجد النسوة القرويات جالسات علي الأرصفة في أكبر الشوارع ينظفن الخضار ويغسلنه في أوان مليئة بالماء ويعبئنه في أكياس ! مشهد 2 : ميدان باب الحديد ، أكبر ميادين العاصمة ، امرأة تجلس علي الرصيف وعلي حجرها طفل رضيع وأمامها حلة كبيرة بها جبن قريش يحط عليها الذباب وأخري تحمل سبتاً علي رأسها وتستعد للجلوس بجانبها . مشهد3 : حي معروف في قلب وسط البلد لا تكف الكلاب الضالة عن العواء طوال الليل ويتبعها صياح الديكة في الساعات الأولي من الصباح . مشهد 4 : حي المهندسين الراقي - غرب النيل - فرخة تقطع شارع دجلة بكل طمأنينة - ثم رجل يمتطي حمارا ويأتي في الاتجاة المعاكس للسيارات في شارع عبد المنعم رياض أحد أهم شوارع الحي . مشهد5 : حي المهندسين ، تم تحويل ميدان أسوان إلي موقف عام للسيارات ولكن روعي ترك شارع ضيق يخترقه ويسمح بمرور عربة واحدة في اتجاه واحد . توقفت سيارة فجأة ، ونزل السائق وتركها في وسط الطريق لمدة زادت علي الساعة ، شلت " الحركة" تماماً . مشهد 6 : شارع شامبليون في وسط البلد، الذي كان يحمل أسم عالم المصريات الفرنسي الذي فك طلاسم حجر رشيد كاشفاً للمدينة أسرار حضارة عريقة أضاءت الدنيا نوراً وعلماً وفناً . يقبع في منتصفه مبني قديم - عليه يافطة تشير إلي انه مدرسة الناصرية - مشيد علي طراز عصر النهضة عام 1889 . كان في الماضي قصراً منيفاً أهداه مالكه إلي الحكومة المصرية عام 1932 ليقوم بدور تعليمي بناءً علي طلبه ، العديد من التلامذة القدامي أصبحوا الآن يحتلون أماكن مرموقة في المجتمع المصري . مازال المبني يحمل إلي اليوم بعض شواهد الجمال من أعمدة وكرانيش وزخارف نباتية وتماثيل فقدت رونقها من هول ما تراكم فوقها من أتربة وأوساخ ناهيك عن تهدم وتدهور بعض أجزاؤه وتشويه السور وتهشم الزجاج الملون للشبابيك وتراكم القمامة أمام المدخل ..... إلخ . أما حالة المبني من الداخل فحدث ولا حرج - هنا يتعلم النشيء ! إذا كان هذا هو حال مدرسة إبتدائية في قلب أكبر عاصمة في العالم العربي - فكيف يكون حال المدارس في الأرياف ؟ مشهد 7 : الطريق الدائري الجديد ، إنجاز حضري نقل الحركة الميكانيكية الثقيلة إلي الأطراف يخترق في مساره الذي يربو علي 35 كم التجمعات العشوائية البائسة التي تكون سياجاً متصلاً حول عاصمة "أم الدنيا" . منازل فقيرة من الطوب والأسمنت ، شبه ريفية ، لم تأخذ من الريف بدائيته وشبه حضرية لم تأخذ من الحضر نظمه ذ لا تمت بصلة لفن المعمار ولا للقواعد الإنشائية ذ متراصة في فوضي مروعة تخترقها طرق ترابية ضيقة مفتقدة للحد الأدني لشروط التخطيط والصحة العامة . هجين قبيح هو بحق كما قيل "تابوت للنفس" ذ يقطن فيه نصف سكان القاهرة ويحتل ثلث مساحتها . هذه هي بعض المشاهد في أكبر متروبوليس في العالم العربي . مدينة فاقدة لذاكرتها ، متنكرة لتراثها ، حاضرها تعيس عجزت خلاله عن إدماج وتهذيب ونشر الحضارة المدنية بين الأجيال المتعاقبة للقادمين من الريف ، فهزموها وريفوها . الفوضي ، التدهور ، القبح ، عدم احترام كل القوانين التي تحكم الحضر سواء البنائية أو المعمارية أو التخطيطية أو قوانين المرور ، وقوانين التنسيق الحضري والصيانة ، والترميم والقوانين التي تحكم الكثافات البنائية وقوانين الحفاظ علي التراث المعماري إلخ .... هذه سمات القاهرة فهل يمكن اعتبارها مدينة ؟ وهل يمكن لهذه الغابة الاسمنتية الهائلة التي تنتفي فيها الخضرة ولكن تملؤها الضوضاء والتي تغتال سكانها بالضغط العصبي أو السكتة القلبية أو القهر أو اليأس أن تقوم بأي دور تحديثي ؟ أشك في ذلك .