منذ أوائل الألفية فتحْ أمامي كنز تجارب الإمام الموسيقية ولم أفهم حتي الآن كيف يمكن أن يكون مودي وحسين لهما هذا الإنتاج المختلف، ولم يلتفت له إلا فيما يخص علاقة الثنائي بأحمد عز، أمين التنظيم السابق للحزب الوطني المنحل، الذي كان عازفا للطبول بفرقة طيبة؟ طيبة في السبعينيات وتحديدا أواخرها شكل حسين ومودي فرقتهما الموسيقية الأولي، كانت طيبة تجربة فريدة سرعان ما تمّ نسيانها، لينخرط الشابان، بعدها، في بحور الإنتاج الفني التجاري، وإن كان تأثيرها ومدي انتشارها لم يبدأ إلا بعد ثلاثة عقود. خلال مسيرة غنيّة صار كل إمام منهما صانعاً للمزاج الشعبي المصري بمفهومه الواسع، حيث إن علاقة المصري بالموسيقي علاقة صعبة جدا، وأن يعرف أحد صنّاع الموسيقي ويصير مشهوراً أمر نادر الحدوث، لكن حسين ومودي استطاع كل واحد منهما تحقيق ذلك، بل وصناعة البهجة بأسلوبه الخاص. كيف حدث ذلك؟ لا أعرف، لكن غالباً نحن نحس بذلك نوقن به دون أن نفهم لماذا حدث ذلك، لكن سأحاول هنا بحث أسباب الغضب والحزن علي رحيل حسين الإمام مؤخراً، حتي أن أغنية سمير غانم في وداع الضيف أحمد لم تكن صالحة، كما هي العادة، لاحتواء هذا الغضب..هذا الحزن. دون مبالغة يمكن اعتبار الثنائي الإمام يضم مؤلفيّن موسيقيين قدما العديد من التجارب، التي تنوعت بين إعداد الموسيقي التصويرية وألحان الأغنيات والحفلات، لكن النشأة، أو للدقة لحظة التعارف مع المستمع المصري، سواء وقت تأسيس فرقة طيبة أو عملية إعادة إكتشافها عن طريق الإنترنت، كانت عن طريقة بطاقة تعارف بفرقة خاصة يمكننا اعتبارها جزءا من تجربة الفن المستقل، أو للدقة أيضاً، الفن غير المُكرّس مشهدياً وتجارياً، والدليل أن ما تلي طيبة كان احتراف مودي وحسين كل علي حدة كمؤلف موسيقي تجاري..كما سيكون ذلك دليلا دامغا، فيما بعد، أن النجاح الجيّد هو الذي كان في بدايته مستقلا، لكن فرق الزمن ونظرة الثنائي لفكرة الاستقلال ربما هما ما يشكلان الفارق! الاستقلال ليس المعيار الأفضل مؤخراً بدأت أصل لتصور خاص بي، لا أسعي للتأكيد علي صحته أو بحث دقته، لكنه يتزايد مع المواقف والمتابعة لما يجري علي الساحة الثقافية، لهذا من الممكن القول أن الطًلًعّة المستقلة هي أس مشكلة الفن المستقل في مصر. لأسباب عديدة مرتبطة بظروف الإنتاج الثقافي وطبيعة كل فنان ورغبته في أن يكون مستقلاً ومثقفاً وصاحب رؤية فردية كلية مختلفة حسبما يفترض فإن الطَلَعة الأولي أو لحظة التعارف مع الجمهور، يجب أن تكون مستقلة، ويشترط لحدوث ذلك أن تكون هذه اللحظة غير جماهيرية بشكل كاف، وألا تكون مرتبطة بنجاح كبير، لتؤكد نخبوية هذا الفنان، وأنه له تصوره العام الشامل عن العالم وموقف محدد في الخريطة المجازية الخاصة بعلاقة الثقافة بالمجتمع والناس بشكل أكثر عمومية. الإنتاج المستقل، دائما يتمّ تقديره كإنتاج أفضل، مترفع عن آليات السوق، وهذا أمر جيد بالتأكيد، لكن الاستقلال يجب ألا يكون الهدف الدائم للفنان، لكن هناك العديد من التعقيدات التي تجعل الفنان مستقلاً للأبد..عند مراعاة كل ما كتبْ في هذه الفقرة يمكننا نعتبر أن تجربة طيبة كانت مشغولة بأن تكون نخبوية مستقلة، وكذلك لا تحمل عناصر تدفعها للمثابرة والاكتمال، كما أنها قدمت تصورها المختلف عمّا هو سائد. خاصة أن المزاج الذي تطرحه التجربة الآن هو مزاج لا يزال مختلفا. هناك نخبة معينة جمهور متفهم لخصوصية التجربة، وقد ساعدت المدة الزمنية بين إنتاج ألبومي طيبة ورواجهما بين مستمعي الإنترنت فرصة لصناعة تصور نخبوي وغير واضح ساهم بالتأكيد في صناعة خصوصية وأسطورة ما حول تجربة كانت أكثر نضجاً، وتتسم بمعامل إختلاف عن تجارب مشابهة مثل الأصدقاء والمصريين، حيث كانت أغنيات الفريقين علي سبيل المثال في إطار الأغنية المصرية خلال العقود الأخيرة، بينما يبدو الجهد المبذول لإنتاج طيبة لموسيقي روك مصرية، تنحو للتعبير عن دوامات وجودية واضطرابات الصوت المختلف. مع مودي في قاعة الأي ماكس قابلت مودي الإمام ذات مرة، كنت مع مجموعة من الأصدقاء وترددنا في الحديث مع "النجم" الذي أراه بسبب تعرفي واكتشافي الجديد له من خلال أغنياته، أي إنتاجه الموسيقي القديم، الذي يعد أقرب للاندرجرواند من صورته وإنتاجه التجاري..أي أنني كنت في هذه المقابلة العابرة مهتم اومحبا لتجارب مودي السرية، و قد كان هو مخلصاً لهذا الجانب السري حيث واظب حتي وقت قريب علي تنظيم حفلات بساقية الصاوي، يقدم بها هذه الأعمال. خلال الحديث الممتد أمام قاعة السينما التي كانت تعرض "حياة باي" تحدث مودي عن هذه التجربة، عن أحمد عز، الذي كان عضوا في فرقتهما وكان عازف طبول "هايل" حسبما وصفه. وعن فترة عمله بشيكاجو، في الأندية، وفترة مماثلة هنا في مصر، بالكباريهات وولعه بالموتسيكلات، وولع الإمام بالمغرب. "هو بينبسط هناك". مودي حدثنا عن استعداده للهجرة، "ببيع عربياتي وبيوتي ورايح شيكاجو". زوج خالة صاحبنا كان حسين يفعل ما يحب، برامج المقالب في رمضان، التمثيل العفوي بالسينما، مرتكزاً علي شخصيته الأساسية أكثر من موهبة التمثيل، أو توليفته الخاصة للخفة، إلا أنه كان سعيداً، يفعل ما يسبب له السعادة. زمان كان واحدا من الشلة صديقنا عمر خورشيد، والذي حمل اسم عمه الموسيقار الراحل. عمر كان دائما ما يحدثنا عن طبيخ زوج خالته، وخفة دمه. عمر لم يكن يخبرنا بالكثير عن عائلته، لكننا كنّا جميعاً نعلم أنه ابن الفنانة علا رامي، وزوج خالته الطباخ هذا لم يكن إلا حسين الإمام. بعدها بفترة قدم زوج خالة صاحبنا فقرة خاصة بالطبخ بقناة أوربت، بشكل منتظم. "كلام مش مفهوم وبهجة" أنتج الإمام عدة أفلام كانت رهانات بالغة الدقة علي المزاج السائد وصناعة السينما وقتها. كابوريا (1990) مثلا وهو من الأفلام المحببة بالنسبة لي، يعد توليفة مُعبرة عن آثار العالم الجديد، وقت انتشار قصة الشعر، وآثار سقوط حائط برلين.كما يقدم تصوراً كاريكاتوريا أو قل فانتازيا، للدقة، لكنه لا يخلو من تحليل وقدرة علي صناعة مقاربات لاذعة مع واقع الطبقة التي يرصدها، دون إغفال للجو الغنائي لمنتجه، والشريك في صياغة هذا العالم مع خيري بشارة، لأنني لا أتصور أن يكون عصام الشماع، وفقاً لما شاهدناه من أعمال له، هو الصانع لهذا العالم وحده، لمسات الإمام تظهر في كرنفالية الأحداث والتطور الدرامي والموسيقي في الوقت نفسه، وأقصد بذلك أن الأغنيات في الفيلم، وهو أمر نادر ما يحدث في السينما المصرية، ليست ديكورا، هي جزء أساسي من تطور دراما كابوريا. الخفة ليست الوصف الأنسب لوصف جهد الإمام في تقديم هذا الفيلم، وإنما القدرة علي صياغة لحن مناسب لهذه المرحلة أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، يتضح ذلك في تجارب ظهر جهد الإمام وتصوره الفني عن العالم، استاكوزا، ومحاولة إيناس الدغيدي صياغة عالم مشابه حد التطابق مع الفيلم السابق، العنوان المقارب وسيناريو عبد الحي أديب، لكن المنطقة التي جرّ فيها السيناريست الراحل الفيلم تعد عزفاً جديداً علي عالم هذه الفئة نفسها، في بيئة جغرافية أكثر تحرراً، "شرم الشيخ"، لتحقيق معامل الخفة، وإن كانت الموسيقي ليست حاضرة وفاعلة بقوة مثلما كان الأمر في كابوريا، لكن النهج الموسيقي نفسه لم يختف. بعد ذلك قدم الإمام تجربة كانت فارقة بالنسبة له، لكنها كشفت أنه صار بعيداً عن المزاج السائد، فيلم أشيك واد في روكسي، الذي ألفه وأنتجه الإمام عام 1999، كان غارقاً في أوضاع الموسيقي، الموسيقي كمنتج تجاري، معالجة ساخرة، قدم الإمام وهو الموسيقي وصاحب خبرة في إنتاج ألحان مميزة لمحمد منير مثلا شخصية ربيع المغني الذي لا يمتلك صوتا، وهو وصف دقيق لأن ربيع تقريبا صامت طوال الفيلم. في حديث تليفزيوني لحسين الإمام تحدث عن علاقته بالمخرج رأفت الميهي، تحدث حسين بأن رأفت كان كلما تملكته الحيرة عندما يقدم فيلم جديدا، فيما يخص طريقة استخدام الموسيقي كان يلجأ له -أي للإمام- لصياغة الموسيقي وتقديم غنوة تعبر عن الفيلم. ما قاله الإمام نقلا عن الميهي كان، حسبما أتذكر، أن الإمام كان التلبية الفعالة لتقديم توليفة تمزج بين "كلام مش مفهوم وبهجة"، رغم أن هذا الوصف يبدو كمحاولة للتقليل من قيمة الإنتاج الموسيقي لحسين نفسه وكان هو ينقله للجمهور بنفسه، إلا أن هذا الموقف يكشف منطق تفكير الراحل، وأنه لم يكن يتخوف من الاستخفاف المتبع في التعامل مع صناع الخفة/ البهجة، كما توضح أن الإمام وحده الذي كان يفهم ما يفعله، ربما للنشأة كصانع موسيقي بفرقة طيبة..أي الطَلَعة المستقلة، بينما بقية صنّاع الفيلم ومقدمو العمل الفني كانوا يثقون في قدرته علي تحقيق هذا الإنجاز.