أي دور بالضبط يمكن أن تلعبه قصص ماركيز القصيرة في الكشف عن عدد من قوانين عالمه الروائي؟ إنه، ربما، سؤال كبير تلزمه إجابات مدققة بحجمه. فماركيز، "القاص الشهير" كان دائماً يسير بمحاذاة ماركيز "الروائي الشهير"، بخلاف روائيين كثيرين مهمين وفارقين لا يكاد المرء يتذكر لهم قصة قصيرة واحدة إن أراد. بالتأكيد يحظي العالم القصصي لجابرييل جارثيا ماركيز بقوام خاص ينأي به عن أن يكون محض "سنيد" للعالم الروائي أو "مقتات" علي فرادته، حتي أن أعمال ماركيز الشهيرة تشتمل علي عدد من القصص القصيرة التي نهضت كأعمال فارقة يتذكرها قارئ ماركيز مثلما يتذكر رواياته، مثل "عينا كلب أزرق"، "أجمل غريق في العالم"، "جنازة الأم الكبيرة"، "ليس في هذه البلدة لصوص"، "أثر دمك علي الثلج" وغيرها. علي جانب آخر، ثمة بالطبع قصص كانت لبنات لروايات أو لشخصيات روائية أتت لاحقاً، فماكوندو نفسها وعدد من شخصياتها تجسدت في قصص قبل أن توسع "مائة عام من العزلة" من قماشتها وتعيد الاشتغال عليها في بنية روائية كبيرة. لكن، وعلي جانب آخر، أعتقد أن عدداً من قصص ماركيز لعبت دوراً أبعد من استثمارها روائياً أو تجريب عدد من شخوصها وأمكنتها وأحداثها فيها قبل توسيعها. أقصد القصة الماركيزية باعتبارها تمثيلاً لعدد من القوانين الجوهرية التي يمكن، بتتبعها، العثور علي مشتركات عميقة تخص البنية العميقة، الأكثر تجريداً، قبل أن تكتسي بالغطاء التجسيدي الذي يمنح "الرواية" ألقها وقدرتها علي "الإيهام بالواقع". إنه "النحو" السردي الذي ينظم عدداً من أبرز روايات ماركيز، ويمكن الوقوف عليه وهو يعلن عن نفسه، بشكل أكثر وضوحاً في القصة، كون غابة التجسيد فيها، إن صح التعبير، تكون أشد خفوتاً لصالح الخطوط المجردة الواضحة والأكثر عرياً، وبحيث يمكن الوقوف علي عدد من السمات العميقة التي حكمت طبيعة البني الدرامية والحبكات وشكل العالم وتكوينه، وطرق تحريك الشخصيات الروائية كوظائف أو أدوار أو كتمثيلات للأفكار وإدارتها روائياً ، بالاشتباك مع المكان الفني وشروطه بخاصة. ومن بين قصص عديدة لماركيز، دالة في هذا الاتجاه، مثلت "رجل عجوز بجناحين كبيرين"، بالنسبة لي، "نموذجاً" يتعدي قوامه كقصة (بديعة في ظني) ليعمل كنص كاشف، يلخص عدداً من العناصر الأصيلة في العالم الماركيزي الروائي. تنفتح القصة علي أسرة فقيرة، يرسمها مثلث: الزوج "بيلايو"، الزوجة "أليسندا"، وطفلة رضيعة تعاني من الحُمي، مهددة بفقدان حياتها. هذا المثلث، المهدد بفقدان ضلعه الثالث، يستقبل، لحظة ذروة الأزمة بالذات، ضلعاً جديداً (علي مستوي التأويل الرمزي)، قد يضاف للأضلاع الثلاثة، أو يقلصها لاثنين، كونه أقرب لملاك قد يكون ملاك الموت. الطارئ هنا رجل عجوز ساقط من السماء بجناحين ضخمين. يأتي الضيف السماوي كنقيض كامل للطفلة الأرضية: إنه عجوز للغاية في مقابل سنها الصغيرة، ساقط من السماء لحظة اقترابها من الصعود لها كروح، معمر أمام حداثة عهدها بالحياة. في الحقيقة، اتكأ ماركيز كثيراً كروائي علي فكرة "المثلث" الذي يتوتر ضلعه الثالث مشبعاً بدلالات الغياب والموت.. ليشتغل علي الثالوث الذي يواجه طارئاً يتسبب في تحوله لثنائية، أو لتكثيره. في واحدة من روايات ماركيز المبكرة، وهي » الكولونيل لايجد من يكاتبة« "لا أحد يكتب للكولونيل"، ينفتح العالم الروائي علي الزوج "الكولونيل المغدور" والزوجة والابن الميت الذي يستعاض عن غيابه رمزياً بحضور ديك المصارعة. إنه مثلث أسري أيضاً، فقد ضلعه الثالث الذي يمثل، مثلما تمثل الرضيعة المهددة بالموت، فكرة الامتداد المبتسر. ويكون البحث عن مخلِّص، معجزة، هو الموضوع السردي الذي يكرس له النص سياقه المقبل. في القصة يأتي المخلص من السماء، بينما ينتظر الكولونيل في الرواية قدومه من البحر، ممثلاً في الرسالة التي ستعيد إليه اعتباره وستحل جميع مشاكله بعد أن أصبح وزوجته، كبطلي قصتنا، من الفقراء. هدية السماء ستأتي بالثراء قبل أن تختفي، بينما ستتبخرهدية البحر إلي سراب ( لاحقاً سأتطرق إلي طبيعة دوري السماء والبحر في رؤية ماركيز للوجود). العنصر الطارئ الذي يقلب شروط الحياة المستقرة ظاهرياً لتنطلق الحكاية المراد سردها من تدخله، متحولةً من حكاية عادية لأخري استثنائية أو لا تُصدق: إنه دائماً ما يطرأ ب"صدفة" غير متوقعة ليصير محركاً لحتمية ما بعده. وإذا كانت رواية قصيرة ك"الكولونيل" توقفت عند هذا المثلث ممسكةً عبره بأطراف المأزق الوجودي لأبطاله، فإن "مائة عام من العزلة"، أرست قواعدها عليه أيضاً منطلقةً من الأسرة الصغيرة التي تتحول بالتدريج إلي سلالة، فبمجئ الابن الأول، يرفض مؤسس سلالة بوين ديا مغادرة ماكوندو. ورغم مجادلة أورسولا بأن الأرض تصبح وطناً بوجود ميت تحت ثراها، إلا أنه يرد بأن وجود الابن أدعي للبقاء.. ليتحول المثلث إلي أجيال متعاقبة تتناسل مكرسةً للعنات متعاقبة. وهنا يحضر الغجركتمثيل للحضور الطارئ، وهو دائماً حضور مفارق يصعب تصديقه، لتبدأ الرواية، عبر ملكيادس، الطارئ المؤثر، صاحب المخترعات السحرية، تكريسها لعالم يفارق الفكرة الاعتيادية لحلول أسرة في أرض شبه مهجورة. كذلك يحضر المثلث نفسه في "الحب في زمن الكوليرا" بتركيبة مختلفة، فنحن هنا أمام المثلث الدرامي الشهير: الزوج والزوجة والعشيق القديم. بموت الزوج "أوربينو" يجد الطارئ "فلورنتينو إريثا" مكانه في الواجهة الروائية.. ليتحول العالم الروائي إلي علاقة ثنائية يصفو لها السياق. إن موت الزوج في "الكوليرا" يأتي، أيضاً، كمفاجأة عبثية، رغم الإمكانات المتاحة لماركيز في إماتته بشكل طبيعي خاصة وأنه شخص ثمانيني، فضلاً عن حل أسهل، كان يُمكِّنه إن ركن إليه، أن يبدأ الرواية نفسها عقب موت الزوج. وبدورها تجسد "سرد أحداث موت معلن" سرديتها من المثلث المتوتر: سانتياجو نصار، الأم بلاسيدا لينيرو، والأخوان فيكاريو. حيث يطرأ نبأ عبثي أيضاً، تسببت الصدفة وحدها في منحه مرارة الحقيقة، ويسرده ماركيز ببراعة عندما تراجع الأخت المتهمة في جريمة شرف قائمة بالأسماء التي تعرفها، لتنطق، في لحظة، وبشكل عشوائي، اسم "نصار" محولةً إياه في لحظة لضحية. بدوره، يواجه مثلث الشخصيات مثلثاً آخر تبسطه الأبعاد المكانية التي يتوفر عليها عالم ماركيز السردي بوضوح: الأرض ( سواء كانت بلدة غير مسماة علي الإطلاق، كما في هذه القصة، أو بلدة مخترعة كماكوندو، أو مدينة قائمة في الواقع ككارتاخينا أو غيرها)، الماء(سواء تجسد كبحر أو نهر أو حتي كمستنقع)، والسماء. هذه العناصر الثلاثة كانت دائماً شغفاً لدي ماركيز، حد أنها لعبت أدواراً محورية في حبكاته الروائية.. فاليابسة، في الحقيقة، لم تكن أبداً البطل الوحيد مكانياً في أعمال ماركيز. في هذه القصة تتجسد الأمكنة الثلاثة مجلوة، في طبيعة أدوارها التي تلعبها عادةً في العالم الماركيزي. الأرض في القصة مجردة، بلدة صغيرة بلا اسم (وإن بدت متسقة للغاية مع صورة ماكوندو الروائية) لكنها تلخص أيضاً الشخوص الرئيسية التي طالما اتكأ عليها ماركيز في رسم عالمه: الهامشيون الفقراء الذين يستأثرون بالمعجزات (في العالم السردي لماركيز لا تأتي الهدايا للأثرياء أو رجال السلطة). هناك أيضاً "الأب" رجل الدين (وهو هنا أيضاً غير مسمي، في تعميق للمنحي الذي يجرده في دوره أو وظيفته)، إنه السلطة الكنسية التي يندر أن تختفي في أعمال ماركيز.. وهو الوسيط بين الأرض والسماء، لذا، توكل إليه مهمة تفسير