إذا كان الأدب بمثابة زوجته المحبوبة "مرسيدس"، فإن السينما كانت دائما عشيقة جابريل جارثيا ماركيز المتخيلة التي لم يحصل عليها أبدا. لم يخف ماركيز، مثلما يفعل الكثير من أهل الكتابة، حبه للسينما وسعيه خلفها، وإنما أعلن هذا الحب أمام الجميع، ولم يكتف بذلك، بل راح أمام الملايين من قراءه والمعجبين بأدبه، يتقدم بالهدايا والعطايا تقربا من معشوقته في محاولات شبه يائسة للوصول إلي قلبها ونيل وصالها. تكلم الأديب الراحل وكتب عن السينما ربما أكثر من أي أديب آخر. لم يتكبر عليها يوما كعادة أهل الحرف علي أهل الصورة، ورأي دائما أنها أكبر اختراع شهده عصرنا الحديث. أعطاها الكثير من اهتمامه ووقته وجهده، ومع ذلك لم تمنح السينما ماركيز فيلما عظيما واحدا يرقي ولو بعض الشيء إلي مستوي رواياته. علاقة ماركيز بالسينما لها أكثر من جانب. الأول يتعلق بتحويل رواياته وقصصه إلي أفلام، والثاني يتعلق بالسيناريوهات التي قام بكتابتها أو ساهم في كتابتها مباشرة للسينما، والثالث يتعلق بورش كتابة السيناريو التي أشرف عليها وساهم من خلالها في تخريج أجيال من السينمائيين الشباب في أمريكا اللاتينية والعالم. في حوار أجرته معه مجلة Paris Preview الفرنسية عام 1981، قبل حصوله علي جائزة نوبل بعامين تقريبا، يجيب ماركيز ردا علي سؤال عن الأعمال الأدبية التي تصلح للسينما قائلا: " لا يمكنني التفكير في فيلم واحد أضاف إلي رواية جيدة، ولكن يمكنني التفكير في أفلام جيدة كثيرة صنعت عن روايات سيئة". هذا الرأي لا يتعارض مطلقا مع رغبة ماركيز في أن يصبح مخرجا، أو علي الأقل كاتبا سينمائيا. من المعروف أنه في بداية حياته العملية ذهب لدراسة السينما في إيطاليا، وهو يروي في خاتمة كتاب "كيف تحكي حكاية" الذي يحتوي علي نصوص مناقشات ورشة ماركيز لكتابة السيناريو ( ترجمة صالح علماني- طبعة "دار المدي" 2008) جزءا من هذه التجربة: " قلت أن كتاب السيناريو يجب أن يقوموا بممارسة المونتاج عمليا، وأن يتعلموا استخدام المافيولا...هذه القناعة تعود إلي المرحلة التي كنت فيها طالبا. لقد ذهبت إلي المركز التجريبي للسينما في روما كي أتعلم مهنة كتابة السيناريو. ووجدت أنه ليس هناك دورات لتعلم السيناريو: فمادة السيناريو هي واحدة أخري من مواد الدراسة في اختصاص الإخراج...لم يكن ذلك سيناريو ولا أي شيء آخر: إنها دروس نظرية بحتة، يقدمها بعض السادة ذدكاترة القانون الحكماء- المقتنعون قناعة راسخة بأنه ليس هناك في هذا العالم ما هو أكثر أهمية بالنسبة لكاتب السيناريو المستقبلي من علم الجمال السينمائي، أو التاريخ الاجتماعي- الاقتصادي للسينما، أو نظرية اللغة الفيلمية. وكانوا يقولون كل ذلك بتفخيم وتشديد- وهكذا كان أولئك الدكاترة الحكماء يقضون ساعات وساعات وهم يتكلمون ويسمعون أنفسهم، بينما نبقي نحن الطلاب، جامدين أو مترنحي الروؤس من النعاس...كنت أقضي فترة بعد الظهر بطولها في قاعة السينماتيك أو إلي جانب بروفيسورة المونتاج..كانت تقول أنه دون معرفة قوانين المونتاج- وهي بمقام علم النحو السسينمائي- لا يمكن لكتاب السيناريو أن يكتبوا مشهدا واحدا صحيحا. عندما تعرفت علي هذه السيدة لم أعد أذهب إلي الدروس الأخري، فقد صرت أبقي معها لأدرس ظاهرة التوالي المستمر، أو ما يقول عنه كوليتشوف "فن صياغة جمل مونتاجية جيدة.. أقول مثلما كانت تقول معلمتي العزيزة: "يجب تعلم النحو أولا". لماذا قرر أن يدرس السينما ولماذا لم يصبح مخرجا أو كاتبا سينمائيا؟ يقول ماركيزعن ذلك: " شعرت أن السينما وسيط ليس له حدود وأن كل شيء ممكن فيه..ولكن هناك عائق كبير واحد في السينما وهو أنها صناعة، وهذا العائق يجعل من الصعب جدا أن تعبر في السينما عن ما تريد أن تقوله فعلا". تحطيم هذا العائق وتجاوزه بشتي الطرق هو الشاغل الأول لورشة ماركيز الإبداعية التي كانت تحاول حل المعضلتين الأساسيتين المرتبطتين بفن السينما: الأول هو التوفيق بين الإبداع الجماعي والإبداع الفردي، والثاني هو التخلص بقدر الإمكان من أعباء الشروط الإنتاجية والسوق. يفخر ماركيز في حواراته دائما بعشرات الأفلام القصيرة -30 دقيقة تقريبا- التي تم انتاجها داخل ورش السيناريو التي أشرف عليها، بالرغم من أنها تحمل أسماء كتاب آخرين، ربما أكثر من افتخاره بالأفلام الروائية الطويلة التي صنعت عن رواياته وتحمل اسمه بوضوح. أول نص أدبي لماركيز تحول إلي فيلم سينمائي هو "عزيزتي ماريا" إخراج خايم همبرتو همبرسيلو، المكسيك، عام 1979، وهو مأخوذ عن إحدي قصصه القصيرة، وقام ماركيز بكتابة سيناريو الفيلم بنفسه. تدور القصة حول علاقة الحب التي تجمع بين لص وساحرة، في عالم فانتازي ينتمي إلي الواقعية السحرية التي ميزت معظم أعماله. حقق الفيلم نجاحا محدودا ولم يخرج تقريبا عن حدود البلد الذي صنع فيه. الفيلم الثاني الذي صنع عن نص أدبي لماركيز هو "إيرنديرا" إخراج روي جويرا، المكسيك، عام 1983، والمأخوذ عن رواية قصيرة بعنوان "إيرنديرا البريئة". الطريف أن ماركيز كتب القصة كسيناريو سينمائي أولا، قبل أن يعيد كتابتها كرواية. وقد فقد هذا السيناريو مما تطلب من ماركيز أن يحاول تذكره بالكامل أثناء جلسات العمل مع مخرج الفيلم. الفيلم لعبت بطولته الممثلة اليونانية الكبيرة إيرين باباس في دور الجدة القاسية التي تجبر حفيدتها علي امتهان الدعارة، بينما لعبت الممثلة البرازيلية كلاوديا أوهانا دور إيرنديرا البريئة. يتميز الفيلم بجوه السيريالي الذي يليق بعالم ماركيز، خاصة مواقع الأحداث وأسلوب التصوير، وأيضا الأداء التمثيلي الرائع لباباس وأوهانا، كما يتسم بطابعه الحسي المثير والمخيف في الوقت نفسه، خاصة في مشاهد الجنس والعنف، وهو ما يمكن تحمله فقط بفضل مسحة من الفكاهة والسخرية تغلف الفيلم كله. "إيرنديرا" هو واحد من أفضل الأعمال السينمائية المأخوذة عن ماركيز من ناحية التقاط الروح الغرائبية التي تقف بالضبط علي الخط الفاصل بين الواقعي والفانتازي...ولكنه للأسف فقير انتاجيا وإخراجيا. بعد حصول ماركيز علي جائزة نوبل واشتهاره عالميا قام المخرج الإيطالي الشهير فرانشيسكو روزي بتحويل روايته "سرد أحداث موت معلن" إلي فيلم كبير شارك في بطولته عدد من الممثلين الإيطاليين واللاتينيين المعروفين، منهم إيرين باباس وأورنيللا موتي وروبرت إيفرت وجيان ماريا فوفونتي وقام بدور البطل المقتول سانتياجو نصار الممثل أنطوني ديلون ابن النجم الفرنسي آلان ديلون، كما قام بكتابة السيناريو له الإيطالي تونينو جيراو الذي كتب من قبل لمخرجين بحجم فلليني وأنطونيوني وأنجلوبولوس وغيرهم. بالرغم من الجهد الكبير المبذول في فيلم "سرد أحداث موت معلن" والذي يجعل منه عملا جيدا بمقاييس السينما الواقعية الاجتماعية إلا أنه يفتقد لأهم ما في رواية ماركيز، وهو بنائها السردي المركب الذي حقق فيه أمنيته بأن يكتب عملا متعدد الأبواب يمكن الدخول إليه من أي فصل، أو أي صفحة ( وهي أمنية أعرب عنها في حواراته مع بيلينو ميندوزا المنشورة في كتاب بعنوان " رائحة الجوافة"). رواية "سرد أحداث موت معلن" تم تحويلها أيضا إلي فيلم روماني قصير عام 2007. المخرج المكسيكي الشهير أرتورو ريبشتين الذي قام بتحويل رواية " بداية ونهاية" لنجيب محفوظ إلي فيلم عام 1993 قام بعدها بتحويل رواية "ليس لدي الكولونيل من يكاتبه" إلي فيلم عام 1999. الفيلم يحول رواية ماركيز القصيرة جدا إلي فيلم طويل يتجاوز الساعتين ونصف الساعة، ينجح فيه ريبشتين في نقل روح الرواية وشخصياتها بدرجة تجعله واحدا من أنجح الأفلام المأخوذة عن ماركيز. علي مدار كل هذه السنوات تجنب ماركيز بيع حقوق تحويل أعماله إلي أفلام لشركات انتاج كبيرة غربية في الوقت الذي كان يوافق فيه أحيانا علي منح هذا الحق مجانا لمخرجين شبان مستقلين من أمريكا اللاتينية. الاستثناء الوحيد كان رواية "الحب في زمن الكوليرا" التي بيعت لهوليوود مقابل مبلغ كبير، ويقال أن وراء بيعها زوجته مرسيدس التي كانت تلح عليه من أجل توفير مبلغ مالي ينفع الأسرة، وأيضا لأنها صاحبة حق معنوي في الرواية بما أن ماركيز كان قد أهداها إليها. فيلم "الحب في زمن الكوليرا" أخرجه مايك نويل عام 2007 ولعب بطولته النجم الأسباني خافيير بارديم والجميلة جيوفانا ميزوجيورنو، وهو أكبر فيلم "ماركيزي" من الناحية الإنتاجية، ولكنه في رأي الكثيرين ذ ومنهم كاتب هذه السطور- واحد من أفشل الأفلام المأخوذة عن أعمال أدبية. ليس ما سبق حصر شامل بكل الأعمال السينمائية التي تحمل اسم ماركيز، ولكن بعض من أهمها. الرواية الوحيدة التي رفض ماركيز تماما أن يبيع حقوقها السينمائية كانت "مئة عام من العزلة" لاقتناعه الكامل باستحالة تحويلها إلي فيلم. في النهاية ورغم غرامه الشديد للسينما، فإن ماركيز كان يعرف جيدا أن "نزوات" السينما العابرة لا تصنع بيتا مستقرا وعلاقة عميقة بحجم "مئة عام من العزلة".