بكري : الجماعات الإرهابية تقود حملة لتشويه اتحاد القبائل العربية    رئيس دفاع النواب يهنئ البابا تواضروس والأقباط بعيد القيامة المجيد    الغرف التجارية: مصر تستهلك 175 طنا من الرنجة يوميا.. وتراجع الفسيخ ببورسعيد ل190 جنيها    مراعاة للأغنياء.. الحكومة تؤجل ضريبة أرباح البورصة للسنة العاشرة    مجلس مدينة العريش يشن حملة لإزالة المباني المخالفة    نميرة نجم: أي قرار للمحاكم الدولية سيؤثر على الحراك بالولايات المتحدة    روسيا تعلن تدمير قاعدتين للمسلحين في سوريا    بعد التتويج ببطولة إفريقيا لسيدات الطائرة.. الزمالك يتأهل لمونديال الأندية    عمر وردة: تزوجت من فتاة جزائرية منذ شهور لكي استقر    صلوات وزغاريد وفرحة.. آلاف الأقباط يحتفلون بعيد القيامة بقنا| فيديو    مصرع سيدة صدمها قطار ب سوهاج    بعد شائعات الانفصال.. مها الصغير تستعيد ذكرياتها مع أحمد السقا في الجونة (فيديو)    دعمتم مناقشة هذا الأمر | رمضان عبد المعز يوجه الشكر ل المتحدة    عرض قطري.. أول تعليق من مستشار الرئيس على تأجير المستشفيات الحكومية    مختلف عليه..ما حكم أكل الفسيخ في الإسلام؟    محافظ القاهرة يشهد احتفال الطائفة الإنجيلية بعيد القيامة نائبا عن رئيس الوزراء    أسامة كمال يُحيي صحفيي غزة: المجد لمن دفعوا أعمارهم ثمنا لنقل الحقيقة    قرار من القضاء ضد ممرضة ووالدها بتهمة قتل عامل بالمقطم    قتل «طفل شبرا الخيمة».. أوراق القضية تكشف دور تاجر أعضاء في الواقعة    تعرف على شروط التقديم لمدرسة فريش الدولية للتكنولوجيا التطبيقية 2024-2025    وزير الخارجية الأسبق: نتنياهو لا يريد الوصول لاتفاق مع حماس    قصواء الخلالي: العرجاني وأسرته وأهل سيناء يتباهون بمشاركتهم في تنمية أرض الفيروز    71 مليار جنيه لقطاع التعليم المدرسي والجامعي خلال 24 /25    حكم الصلاة على الكرسي وضوابط الصلاة جالسًا.. اعرف الشروط والأحكام    بدء قداس الاحتفال بعيد القيامة المجيد في المنيا (صور)    لجين عبد الله تفوز بكأس أفضل سباحة في البطولة الإفريقية بأنجولا    أحمد موسى عن شم النسيم: «باكل فسيخ لحد ما يغمى عليا.. وأديها بصل وليمون»    طارق إمام للشروق: المعارض الأدبية شديدة الأهمية لصناعة النشر.. ونجيب محفوظ المعلم الأكبر    مطران إيبارشية أسيوط يترأس صلاة قداس عيد القيامة المجيد 2024    وكيل صحة القليوبية: استقبال 180 شكوى خلال شهر أبريل    تسويق مغلوط للأولويات سيكون له ما بعده..    بالصور.. أهالي قرية عبود بالفيوم يشيعون جثمان الحاجة عائشة    المقاولون 2005 يفوز على أسيوط بثلاثية في دوري الجمهورية للناشئين    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    سفير فلسطين في تونس: مصر تقوم بدبلوماسية فاعلة تجاه القضية الفلسطينية    غدا وبعد غد.. تفاصيل حصول الموظفين على أجر مضاعف وفقا للقانون    القس أندريه زكي يكتب: القيامة وبناء الشخصية.. بطرس.. من الخوف والتخبط إلى القيادة والتأثير    «صحة الفيوم»: قافلة طبية مجانية لمدة يومين بمركز طامية.. صرف الأدوية مجانا    السعودية تصدر بيان هام بشأن تصاريح موسم الحج للمقيمين    خاص| زاهي حواس يكشف تفاصيل جديدة عن مشروع تبليط هرم منكاورع    خبير اقتصادي: الدولة تستهدف التحول إلى اللامركزية بضخ استثمارات في مختلف المحافظات    وكيل صحة الشرقية يتفقد طب الأسرة بالروضة في الصالحية الجديدة    وزير الشباب يفتتح الملعب القانوني بنادي الرياضات البحرية في شرم الشيخ ..صور    لوبتيجي مرشح لتدريب بايرن ميونيخ    مفاجأة- علي جمعة: عبارة "لا حياء في الدين" خاطئة.. وهذا هو الصواب    موعد ومكان عزاء الإذاعي أحمد أبو السعود    لاعب تونسي سابق: إمام عاشور نقطة قوة الأهلي.. وعلى الترجي استغلال بطء محمد هاني    محمد يوسف ل«المصري اليوم» عن تقصير خالد بيبو: انظروا إلى كلوب    جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 والثانوي الأزهري    استعدادًا لفصل الصيف.. محافظ أسوان يوجه بالقضاء على ضعف وانقطاع المياه    الانتهاء من 45 مشروعًا فى قرى وادى الصعايدة بأسوان ضمن "حياة كريمة"    رويترز: قطر قد تغلق مكتب حماس كجزء من مراجعة وساطتها بالحرب    ما حكم تلوين البيض في عيد شم النسيم؟.. "الإفتاء" تُجيب    ماريان جرجس تكتب: بين العيد والحدود    التموين: توريد 1.5 مليون طن قمح محلي حتى الآن بنسبة 40% من المستهدف    القوات المسلحة تهنئ الإخوة المسيحيين بمناسبة عيد القيامة المجيد    هل بها شبهة ربا؟.. الإفتاء توضح حكم شراء سيارة بالتقسيط من البنك    برج «الحوت» تتضاعف حظوظه.. بشارات ل 5 أبراج فلكية اليوم السبت 4 مايو 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"تعليمات سيادتك" الوجوه المتناقضة للداخلية
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 03 - 2014


الأنسنة مفتاح فهم كل شيء.
يخوض الناس حروبهم لأسباب منطقية أو غير منطقية. في الحالتين هناك فريقان، فريق ننتمي إليه وفريق ينتمي إليه العدو، وغالباً ما يتمتع فريق العدو بميزات شيطانية تجعله غير قابل للتخيل. هناك مثلاً العدو الإسرائيلي الذي لا نعرف عنه غير كونه شديد القوة والذكاء والشر ويتحدث لغة غريبة ولا قبل لنا به. حتي انتصاراتنا عليه تكون أحياناً جزءاً من مخططه هو. هل يمكن الانتصار علي الشيطان؟ مستحيل، لأنه شيطان ونحن بشر.
أنسنة العدو علي الناحية الأخري ترد العدو إلي حدوده الطبيعية. وفوق هذا تعلمنا شيئاً، أكثر تعقيداً ولكن أكثر منطقية، عن الصراع. هذا يسري أيضاً علي الشرطة في صراع التيارالثوري في مصر معها.
في كتابه "تعليمات سيادتك"، الصادر عن دار ميريت، يقدم لنا محمد حسني أبو العز قصة النقيب محمد محمود، النقيب ذي الميول الأدبية الذي دخل كلية الشرطة كما يدخلها الآلاف غيره، ولكنه يتميز عنهم بشيء واحد، إيمانه الشديد بالثورة، ذلك الإيمان الذي دفعه للاستقالة من عمله كضابط شرطة يوم اندلاع أحداث محمد محمود.
خلال هذه الفترة، نقترب أكثر من جهاز الداخلية، نراه بعيني شرطي ثوري، شرطي حاول الاعتصام بميدان التحرير في ال18 يوماً ومنعه جنود وضباط الجيش، باعتباره حالة غريبة، وطرحوا أمامه الحجة التي لا تخيب: "الناس هنا ممكن تموتك لو عرفت إنك ظابط". نحن نحميك من الناس.
كل التصورات عن جهاز الداخلية ملفقة، أو ساذجة في أفضل الأحوال. الداخلية فاسدة طبعا مثل كل شيء في البلد، ولكنها، بخلاف كل شيء في البلد، فاسدة تحمل سلاحاً، والفساد بالطبع غير معلن ولا مكتوب. يبدأ الكاتب بالمنطق التقريعي الذي يلقيه أمام السذج:
"ومن الجدير بالذكر أنه بعد الثورة، وجدت الناس في وسائل الإعلام يتحدثون بلا وعي عن ضرورة تغيير المناهج في كلية الشرطة، علي اعتبار أنها هي المشكلة، ويرددون هذا دوماً دون فهم، فكنت أتعجب، هل يعتقدون حقاً أن المشكلة تكمن في المناهج؟! هل يعتقدون مثلاً أن هناك مادة تدرّس في الكلية اسمها: "مقدمة في فن التعذيب"، أو "الضرب في أقسام الشرطة"، أو "فن الكهرباء"، أو مادة "الشعب الكلاب"، أو أن هناك معجماً يوزع علينا اسمه "قاموس مصطلحات الوقاحة"!! والغريب أن من بين هؤلاء ناس عاقلون وكمّل، ومن بينهم خبراء وأساتذة كبار، وهم بذلك لا يختلفون كثيراً عن أولئك السذج، الذين يسألون دوماً ذلك السؤال المستفز: "هما بيعلموكوا في الكلية قلة الأدب؟"
المشكلة إذن ليست في المناهج، وإنما في شيء آخر، يتعلمه الإنسان فور دخوله الكلية. هذا الشيء مثل كل قيم حياتنا يتم إيراثه فيما بين السطور، في غير المعلن وغير المكتوب. لم يكن النقيب محمد محمود يرغب في دخول كلية الشرطة، ولكنه دخلها كما يدخلها أي شاب مصري، في أثناء دراسته تعلم كل ما يميز ضابط الشرطة، وواصل تعلمه بعد دراسته أيضاً. ومن أول الأشياء التي تعلمها "التظبيط"، حيث يتقرب الجميع من ضابط الشرطة لعدة أسباب، للحفاظ علي مصالحهم المباشرة، تحسباً من أي طارئ قد يطرأ، أو لمجرد التباهي بصداقة ضابط شرطة. كل هذا بالطبع يخلق إحساسا بالأهمية لدي ضابط الشرطة. "زبائن الشرطة" أو "أصدقاؤها"، كما يسميهم الكاتب، أنواع، الكبار يتعاملون مع الكبار، إذا كنت في منطقة شعبية فزبائنك "معلمين"، ولو كنت في منطقة سياحية فزبائنك أصحاب شركات سياحية، ولو منطقة راقية فزبائنك رجال أعمال. وما إن تصل منطقة حتي يبدأ هؤلاء الزبائن في التودد إليك من تلقاء نفسهم، يبدأون في غمرك بالهدايا. والهدايا طبعا لا ترد. مع ملاحظة ذكية يقولها الكاتب: "إن هذا الأمر آخذ في الانحسار تدريجيا مع الأجيال الجديدة.. ربما لأنهم في السنوات الأخيرة قصروا القبول في الكلية غالباً علي أبناء الأسر ذات المستوي المادي المرتفع ولو نسبيا، في إطار ما كان يسمي بسياسة تزاوج المال بالسلطة، أو ربما لأن الأجيال الجديدة بشكل عام أنظف".
هناك الفساد، وسنتحدث لاحقاً عنه أكثر بوصفه أيضاً "مركباً إنسانياً"، وهناك الجهل. لم يكن النقيب محمد محمود حتي قضية خالد سعيد يعرف أن هناك ما يسمي بقانون الطوارئ، وكذلك أغلب ضباط الداخلية كما يؤكد الكاتب: "حتي أنهم فوجئوا بأن الإعلام يهاجمهم ويتهمهم بشدة بسوء استخدام قانون الطوارئ، وهم لا يعلمون أصلا ما هو قانون الطوارئ هذا، وما الفارق بين وجوده من عدمه! وهذا علي سبيل المثال وليس الحصر".
وهناك أيضاً ذلك المزيج المصري بين الجهل والفساد والاستهبال. في يوم 26 يناير 2011، وعلي أحد كمائن طريق القاهرة الصحراوي، يدخل النقيب علي العميد "شِريف المستكاوي". يدور بينهما حوار شيق:
شفت يا باشا اللي بيحصل
ايه اللي بيحصل؟
اللي بيحصل في البلد!
إيه اللي بيحصل في البلد؟؟ آه.. قصدك المظاهرات؟... يا عم دي عالم فاضية.
وصمت قليلا ثم قال:
شفت انت الراجل مدير الإدارة ابن ال... مش عايز أغلط بس أستغفر الله العظيم.
ماله؟!
قال مش عاجبه قصرية الزرع اللي أنا حاططها علي أول الكمين.
هكذا، وعلي يد هؤلاء، كانت البلد تدار إذن.
الأمين حاتم
يتهم الكاتب معظم الأعمال الدرامية بالسذاجة لدي تحليل شخصية ضابط الشرطة، سواء كانت الصورة التي تحرص علي نقلها صورة سلبية أم إيجابية، باستثناء فيلم واحد، "هي فوضي" ليوسف شاهين، وشخصية درامية واحدة، "الأمين حاتم" في نفس الفيلم.
قوبل الفيلم برد فعل عجيب داخل جهاز الداخلية كما يحكي الكاتب. أثار استياء ضباط الشرطة مشهد يزعق فيه وكيل النيابة للمأمور ورئيس المباحث، صحيح أن هذا المشهد غير واقعي بالمرة، ولكن سائر "البلاوي" بحسب تعبير الكاتب، لم تلفت نظرهم في الفيلم. هذا غير رد فعل أمناء الشرطة، والذين "جاء رد فعلهم علي العكس تماماً من رد فعل الضباط، فقد أثار الفيلم إعجابهم بشدة، حتي صار الواحد منهم يشاهده أكثر من مرة، وظلوا لفترة طويلة ليس لهم حديث عن غيره، فهم لم يروا أن الفيلم يحمل لهم أي إساءة! بل علي العكس تماما رأوا أنه قد أنصفهم!! فقد رأي كل منهم في شخصية حاتم حلمه ومثله الأعلي!!"
مشكلة أمين الشرطة كما يخبرنا الكتاب تتلخص في ثلاث، أولاها المرتبات الضعيفة التي تدفعهم دفعا لامتهان مهنة أخري غير الشرطة، وبالتالي يسعي أمين الشرطة لنوبة حراسة يمكنه النوم فيها إذا كانت ليلية، أو يمكنه "عمل مصلحة" من ورائها إن كانت صباحية، وهناك من يقترب في أدائه من قطاع الطرق وهناك من هو أقرب للمتسولين. ثانياً، نظرة الضباط الدونية لهم، حتي تسمع جملة مكررة دائما يقولها الضباط عنهم: "يا باشا دي عالم وسخة.. يبيعوا ابوهم عشان القرش"، والمشكلة الثالثة أنهم في الغالب آتون من بيئة ريفية، ونادراً ما تجد منهم من هو من العاصمة أو المدن الكبيرة، والبيئة الريفية تقدس السلطة، بحسب تحليل الكاتب. يدلل أهل القرية ابنهم أمين الشرطة علي الدوام ب"الباشا راح، الباشا جا"، وهذا كله كفيل بإفقاده صوابه في المدينة ذات الأضواء المبهرة.
يحكي النقيب المتقاعد حكايته علي الكمين بمنطقة عبود بالقاهرة. يقترب منه الأمين عادل، وهو أكثر من عرفهم تعقلا. ليطلب منه طلبا غريبا: "العيال عايزة تقف تشتغل ع الطريق شوية". تفسير هذا أن الجنود يريدون ابتزاز الركاب وأخذ أموالهم. يرفض النقيب في البداية إعطاءه الإذن، لأن الناس "اللي بتتقلب ذنبهم في رقبتي أنا"، وهنا يلقي الأمين عادل بحجة دامغة: "تصدق وتآمن بإيه... أنا والله العظيم ما فيه في بيتي عشرة جنيه علي بعض، أربع عيال وأمهم سايبهم في البلد مامعهمش عشرة جنيه.. والأفراد دي كلها كدا، ده أنا لو حكيت لك قصة كل واحد فيهم هانكدك.. هاقولك إيه بس ما أنت فاهم يا باشا اللي فيها!!"
الجنود الغلابة الذين لا يملكون ثمن الطعام يقفون علي الكمين ويرون سيارات تجار المخدرات البي إم والمرسيدس تمر أمامهم. يتفق الأمين مع الضابط علي ساعة واحدة يتم فيها "تقليب المارة"، ساعة واحدة، مع وعد من الأمين عادل يردده: "وانا هاقف معاهم مش هاخليهم ييجوا علي حد غلبان".
إذن، هنا، من المذنب ومن البريء؟ صحيح أن الداخلية بلطجية، ولكنها ليست بلطجية من فراغ. هذا ما يسمي ب"أنسنة العدو"، ما زال العدو عدواً ومازال إنساناً في نفس الوقت.
ما فعله حبيب العادلي بالشرطة
يخصص الكاتب جزءاً كبيراً من كتابه لسرد حكايات وزراء الداخلية المتعاقبين، بدءا من الوزير الأسطوري زكي بدر، المرعب وسليط اللسان الذي لم يتورع عن ضرب أحد أعضاء مجلس الشعب بالحذاء علي رأسه أمام الكاميرات، وحسن الألفي الذي تباهي بدحره الإرهاب فقضت الحادثة الإرهابية بالأقصر علي مستقبله السياسي، ثم حبيب العادلي المزواج الحريص علي الاستجمام بالعين السخنة كل أسبوع، والذي ابتدع إدارة خاصة مهمتها تأمين خط سيره من المنزل إلي الوزارة "تسأله سيادتك شغال فين؟ يقولك بفخر شديد: في خط سير الوزير".
ولكن أهم ما فعله العادلي كما يحكي الكاتب هو اهتمامه المطلق بالأمن السياسي، وتقديمه الدعم الكامل لجهازين فقط، الأمن المركزي وأمن الدولة، في مقابل تغاضيه التام عن الأمن الجنائي، وهو القطاع الذي يعمل به العدد الأكبر من الضباط والأفراد، والذي كان له استخدام واحد فقط، وهو الانتشار، أو ما كان يسميه هو ب"التواجد الأمني".
لاحظنا هذا في الأكمنة التي بلا داع، تأففنا واعترضنا، وضابط الشرطة أيضاً كانت لديه اعتراضاته: "ولك أن تتخيل وقوفك كخيال المآتة لا تفعل أي شيء مفيد أو حتي غير مفيد لشهور 12 ساعة يوميا أمام باب فندق بدعوي تأمينه... أو لك أن تتخيل وقوفك اليوم بطوله في شارع صلاح سالم بدون أي لازمة لكي يمر عليك في لحظة ما موكب الرئيس الفارغ... أو لك أن تتخيل وقوفك يوميا فوق كوبري أكتوبر بدون أي هدف علي الإطلاق تحت مسمي "خدمة ملاحظ حالة". أو لك أن تتخيل وقوفك يوميا طوال اليوم أمام مطعم اسماك! حقيقي!!" في خدمته، تثور لدي النقيب محمد محمود التساؤلات، ما فائدة وجود كمين يعرف الجميع مكانه؟ ما فائدة هذا الكمين سوي في ضبط من لا يعرفون مكانه، هؤلاء المجرمون بالصدفة، الذين هم مثلي ومثلك، وليس التجار الكبار.
القمع يأتي من اتجاهات متعددة. صحيح أن شهوة السلطة لدي ضباط وأفراد الشرطة تدفعهم لقمع المواطنين، ولكن يذكرنا الكتاب بأنهم يؤدون عملاً أيضاً، إذ يطلب منهم توريد مجهود (اي أحراز) كل يوم. والأحراز تأتي بالصدفة. يفشل النقيب ومعه أمناؤه وأفراده في القبض علي تجار مخدرات بدو ببلبيس يضربون النار عليهم بكثافة، فيسيرون بميكروباص "استعاروه" من سائق غلبان، في انتظار الرزق. يلفت نظرهم شخص يسير وحده. يختفطونه بداخل السيارة ويجدون معه لفافة مخدرات، فيلتفت الأمين للنقيب ضاحكاً: "أهي جت من عند ربنا أهه يا باشا".
الثورة
بعد حادثة خالد سعيد، أنشأ النقيب محمد محمود صفحة علي الفيسبوك لمحاولة رأب الصدع بين الشرطة والمواطنين، بعد أن هاله كم الكراهية الموجهة للشرطة. لم يشترك في هذه الصفحة سوي خمسة ضباط فقط، وانضم شباب للحوار، بعضهم، ممن أصبحوا "فلولاً" فيما بعد، تطوعوا للدفاع عن ممارسات الداخلية، وبعضهم هاجم الشرطة ودافع عن النظام، أما "الثوريون" فقد دخلوا للتنفيس عن غضبهم ضد منشئي الصفحة فحسب. هنا حدث التحول: "في البداية كان الهجوم عليّ والشتائم التي توجه لي كثيرا ما تثير التعصب بداخلي (خاصة وأنني لم أفعل لهم شيئاً) فتدفعني إلي مبادلة العنف اللفظي بمثله، وإلي الدفاع الأحمق عن الشرطة بالحق أو بالباطل، ولكن لم ألبث أن اعتدت هذا الهجوم وتمرست علي تجاهله، واهتممت فقط بالحوار مع تلك القلة من الجانب الثوري التي ترغب في تبادل وجهات النظر، والحق أن هؤلاء كان لهم بالغ الأثر في تفكيري ومن ثم انضمامي للجانب الثوري شيئاً فشيئاً، فقد وجدت أنهم في حقيقة الأمر يشكون من نفس ما أشكو منه، وأنهم ببساطة: إن جيت للحق.. معاهم حق".
يفرد الكاتب صفحات لوصف علاقة ضباط الشرطة بالثورة. كان هناك ضباط يعرفون أنفسهم بأنهم "ثورجية"، ثم سرعان ما تحولوا لمعاداة الثورة بشراسة، ولكن مثل كل الشعب، صاروا يفعلون هذا بآليات ثورية. : "كنت أراهم في الاجتماعات الأولي لما سمي بائتلاف العام لضباط الشرطة، يبحثون كيف يثورون علي الوزارة وفي نفس الوقت يهاجمون الثورة! الثورة التي أعطتهم هذه الفرصة الذهبية".
انقسم هؤلاء الضباط الثوريون إلي عدة مجموعات، "ضباط من أجل الثورة"، "ضباط ضد الفساد"، "ضباط ولكن شرفاء"، ضباط ولكن ظرفاء"! لم تكن لديهم أية نية للإصغاء لأي منطق "فتجد العاقل منهم لا يجد الفرصة للحديث، وإن وجد الفرصة فلا يجد من ينصت إليه.. كما وجدتهم يرفضون تماما أي انتقاد دون تفكير، وبالتالي لا تجد لديهم أي رد موضوعي علي أي شيء، وكل ما لديهم كلام عن نباح الكلاب ولا تظن أن الأسد ميت (ده بيريح بس) والواجب الوطني والأعين الساهرة وإلي آخر كل هذه الكليشيهات الفارغة من المعني".
كل هذا دفع النقيب محمد محمود للإحساس بالاغتراب عن زملاء مهنته، ثم دفعه لتقديم استقالته، وبعدها بساعات، عرف أن أحداثاً قد اندلعت، وبعدها بأيام سيعرف أن هذه الأحداث سميت بأحداث محمد محمود.
معضلتان
لا يروي لنا الكاتب كتابه بقلم "الشرطي التائب"، ذلك الذي قطع العلاقة مع ماضيه وتطهر منه دائماً وبدأ قصة جديدة. صحيح أنه استقال من جهاز الداخلية، وصحيح أنه كان شديد الانتقاد لهذا الجهاز، إلا أن الموضوع مركب أكثر من هذا.
معضلتان يطرحهما الكاتب في كتابه. الأولي تقنية والثانية أخلاقية، الأولي هي "أين القناصة"، وترد عليها نظريتان، الأولي أن القناصة هم قناصة الشرطة نفسها، والثانية أنها كانت قناصة الإخوان المسلمين. يميل النقيب لتصديق النظرية الأولي، ولا يجزم بخطأ الثانية. وفي حال صحة النظرية الأولي فالقناصة تابعون إما لقوات العمليات الخاصة التابعة للأمن المركزي، أو قوات مكافحة الإرهاب التابعة لأمن الدولة. أما قوات الأمن المركزي العادية فمسئوليتها تنحصر في الإصابات بالخرطوش وأي وفاة جاءت نتيجة لها. لا يحل لنا الكاتب هذه المعضلة، ومن يتصور أنه سيحلها لنا فهو ساذج، كما ينوه في بداية فقرته.
المعضلة الثانية هي حرق السجون. هذه ليست تقنية تماما، فمن الواضح بالنسبة له أن الشعب الثائر هو من قام بحرق السجون وفتحها، ولكنها أخلاقية بالأساس. يوم 28 يناير كان النقيب معيناً في "خدمة من الخدمات المحدوفة علي أطراف القاهرة". فلم ير ليلتها سوي دبابات ومدرعات الجيش". وقتها كان يعمل علي حماية الأفراد الذين معه من التعرض للقتل، وحماية الأسلحة من السرقة. يطرح سؤاله الأخلاقي الأول: "ربما تراني مخطئاً في هذا وربما تري أنني قد عملت الصح، إلا أنك في الحالتين لم تكن مكاني". السؤال الثاني الأهم هنا، ماذا ستفعل لو كنت مكان الضباط الذين ينتفض ضدهم الشعب الثائر مهدداً بحرق الأقسام. ماذا كان سيفعل هو، هو الذي يؤمن بالثورة من أعماق قلبه ويجد نفسه مهدداً من قبل الثورة نفسها؟ يقول: "مثلما أنك لم تكن مكاني.. فأنا وأنت لم نكن مكان ضباط الأقسام في تلك الليلة والليلة التي تلتها".
لا يمكن حل معضلة ما سوي بالإنصات لجميع تفاصيلها المتشابكة والمعقدة. كتاب "تعليمات سيادتك"، لا يحل لنا معضلة "جهاز الداخلية". هو فقط يجعلنا أكثر انتباها لجوانبها المتناقضة. ومتي فهمنا المشكلة بإخلاص، يصبح الطريق أقصر نحو حلها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.