يعد كتاب "الضفة الثالثة" لمؤلفه الموسوعي كمال حمدي بمثابة سيمفونية نقدية بدايةً من سطره الميلودرامي الأول وهو مقولة هوراس الشهيرة " الحياة قصيرة والفن باق" التي تذكرنا بإحدي أشهر مآثر جوتة في رائعته "فاوست" علي لسان الشيطان مفيستوفيليس " الصناعة طويلة والعمر قصير" وتمتد هذه المعزوفة النقدية حتي نفاد المداد في الحروف الأخيرة من الكتاب الذي يعد بمثابة رحلة للبحث عن القيمة الموضوعية للفن في شتيت أثوابه. لكن ما الفن الذي يتحدث عنه كمال حمدي ؟ .. الفن هو استجارة بالخيال لتحقيق المحال، هذا هو التعريف الذي قدمه الكاتب في أكثر من مقام خلال ثنايا الكتاب، والواقع أن الفن معضلة ترمنولوجية معقدة. وسبب ذلك أن الإنسان لسوء الحظ- يفكر باللغة. واللغة ليست نقية اليدين. وهذا ما أوقع كولنجوود، الفيلسوف البريطاني، في هاوية التناقض. وجعل نظريته في الاستاطيقا ضرباً في الهواء. وهو ما سبق وحذر منه كانط، عندما رفض تأطير الفن في مفهوم. ولكن حسبنا هنا زاوية واحدة من زوايا الفن التي أثارها الكاتب بشكل جيد وهي نسبية الفن ونسبية الجمال. ففلسفة الفن وثيقة العري بفلسفة الجمال، يقول" في الفن لا تكون مطروحة أحكام القيمة، لا يتطور أو ينتكس وإن تغيرت أساليبه بمعني أن فنا كما يري أحدنا، انتجه عصر فج، هو حقيقة فن أصيل له قيمته التي لا قياس لها، إننا لو أصدرنا حكما بتخلف فن انتجه عصر قدديم نكون قد اعتمدنا ما ينتجه عصرنا نقطة للقياس، فماذا لو بدلنا الاتجاه، ليحكم الأقدمون علي مدارسنا الحديثة قياسا إلي ماكانوا يبدعونه؟، ألا يصفونها بالتردي والتخلف المهين ". والكاتب هنا يفتح جدلية " معيارية الفن " هل للفن معيار؟ ماهو؟ هل تطور الفن البشري مثلما تطورت العلوم والتكنولوجيا أم أنه آخذ في الضمور والاضمحلال أم عساه مثل البورصة يغلب عليه الطابع المتذبذب؟ وغيرها من التساؤلات التي تفني دون إجابتها السجلات . إن قضية الفن هي قضية تعريف الطبيعة. فالطبيعة هي كل ما تحويه الطبيعة. وهي بذلك تكون محور العمل الفني. إن أروع اللوحات تجنح للمدرسة الواقعية؛ وهذا لأن الانسان يصبو لمحاكاة الطبيعة لا التعالي عليها؛ لأنه هو نفسه جزء منها. لكن هل الطبيعة هي الكمال الذي ينبغي نشدانه؟ هي المثال الأسمي في الفن؟ هذا السؤال الوجودي لا يملك أحد ممن يقفون علي ساقين من الفخار الإجابة عليه. لأننا لا نعرف كل موجودات الطبيعة لنجزم أن الطبيعة تتضمن كل ما هو ممكن وليس فقط كل ما هو موجود. هذا فضلاً عن ضلالات الفنان والمتلقي نتيجة أوهام الأورجانون الأربعة. فالفنان والمتلقي كذلك- ليس باحثاً أكاديمياً يتحري التجرد وإنما هو متحيز أشد ما يكون التحيز. وبالتالي فإن بضاعته لن تباع إلا في أسواق الجَمال، أما جمال بضاعته فلن يعترف به في مختبرات العلم. لهذا وكما ضرب الكاتب مثلاً جيداً. فالموناليزا رائعة ليس لأنها جميلة فيزيقياً وإنما استاطيقياً. وهكذا نجد أن الجمال المصّنع يتفوق علي جمال الطبيعة؛ فالموناليزيا فتاة حقيقية تدعي مادونا ليزا دي أنتونيو، ومن مفارقات الحياة أنها لم تحظ في حياتها مثقال حبة خردل من الاهتمام واللهف الذي حظته بعد وفاتها من خلال عبقرية دافنشي، هنا تغلبت عبقرية الإنسان علي عبقرية الطبيعة، فدافنشي بموهبة موسوعية استخرج قوة استاطيقية عظيمة من فتاة متوسطة الحسن الفيزيقي. لكن السؤال أليس دافنشي - ونحن معه - جزء من الطبيعة. وأفكاره لا تنفصل عنها. وهو أولاً وأخيراً ملوث بأوهام الأورجانون الأربعة، لذلك لا يمكننا تحديد ماهو الأنموذج الأسمي في الجمال ومن ثم الفن ولا وضع معايير وضوابط لماهية الجمال والفن. يقول كمال " الذين أرادوا ان يريحوا انفسهم من عناء التفكير في سر معاناة الجمال قالوا إن مصادره أما بصرية وأما ذهنية الموناليزا تملك دفقا مخيفا من ذلك " الجمال الذهني " لا البصري واعتمادا علي هذا راح الفن الحديث في أغلب نماذجه يعبث داخلنا دون أن تدري ، يريد بكل وسيلة أن يغير داخلنا "مواقع الاحساس" بالجمال . يريد أن يحفز شعاع التواصل بين المتلقي والعمل وهو خارج من الذهن لا القلب ، لكي يستطيع أن يستغل في ذلك العقل كل قدراته التي لا حدود لها بدلا من القلب الثابت علي فطرة لا تتغير الا قليلا ". و هذا امتداد لنزعة الكاتب الشعرية في تناول اللوحات لأن كل الجمال ذهني. والقلب ماهو إلا مضخّة دم. وإنما المشكلة كلها هو ما سبق وعبر عنه نيتشة من اختلاق الغرض. فالإنسان هو الذي اختلق مفهوم الغرضية. واخضع لذلك كل شيء. حتي الجمال؛ فالفتاة جميلة لأن عيونها واسعة، رغم أن سعة العين في حد ذاتها قد تكون مخيفة. والواقع أن اتجاهات الفن الحديثة نحو السوبرماتية والتعبيرية التجريدية والانطباعية ليست غير وليدة النزعة العدمية. هي ثورة علي المعني في حد ذاته. هي النقد باللاتقيد لغياب المعايير. فإذا لم يكن هناك مطلق فالكل سواء. ولم يغفل الكاتب في معرض ذلك الإشارة إلي نسبية الجمال، فيقول " الجمال ليس صفة موضوعية كامنة في الشيء قدر ماهو استجابة ذاتية لمن يراه". إنه يقود لمفهوم نسبية الجمال كما أسلفنا. هذا يعني أن ليس هناك جمال مطلق . إنه ينزع الروح القدس من الأشياء. ويقوم بعلمنة الجمال. بتجريده من الطابع الثيوصوفي الذي يقعي علي عرشه. ويطرح ضمنياً السؤال: هل الشيء جميل لأننا نحبه أم نحبه لأنه جميل؟ هذا يعيد الي الأذهان الجدل الاقتصادي القديم هل اللؤلؤ نفيس لأننا نقدره أم نقدره لأنه نفيس؟ البيضة أم الدجاجة؟ وتجيب الكابالا اليهودية علي ذلك بأنه حيثما كانت البيضة كانت الدجاجة داخلها وحيثما كانت الدجاجة كانت البيضة داخلها. وهكذا فإن ثنائية الجمال والتقدير أو الفن والقيمة أو الجمال والفن ليسا منفصلين؛ فالاثنان ينشآن معا. ويقول أيضاً " لا شيء جميل بشكل مطلق ، لأنه لكي يكون جميلا يجب ان يكون هناك المثال الذي يقاس عليه " . لكن نسبية الجمال لا تعني أن الشيء إما أن يكون قبيحاً أو جميلاً أو أن الشيء في حين يكون جميلاً وفي حين آخر قد يكون مذموماً وإنما نسبية الجمال تعني أن القبيح في كنهه قد يكون موضوعاً جميلاً ، لقد دلف الكاتب إلي هذا المغزي بنباهة في صورة "بربارة دورر" أم الفنان البريخت دورر فرغم أن السيدة العجوز قبيحة المحيا لكن صورتها من زاوية فنية تكاد تكون في روعة صورة "ليدا" لدافنشي! كذلك في صورة التاجر اليهودي لرامبرانت - الذي افتقده الكتاب- قد تكون معادياً للسامية لكنك لا تملك سوي الإعجاب بهذه اللوحة الجميلة للحاخام اليهودي الذي رسمه رامبرانت! الحقيقة أن هناك عناصر كثيرة للجمال. قد يكون الطفل جميلاً لبراءته، والعجوز الدميم قد يكون جميلاً لحكمته، ربما لا يكون الجمال نسبياً فقط بل أنواع أيضاً. وفي ذلك يقول بتأمل فلسفي " قيمة الحياة فيما تنطوي عليه من تجربة .. هذا ما يراه كفافيس في إيثاكا بالنسبة لأوديسيوس في متاهة السنوات العشر في عودته من طروادة التي احترقت الي مملكة ايثاكا .. صادفته كل حظوظ الدنيا فهرب منها ليعود الي وطنه الفقير، ليس من أجل ايثاكا بحد ذاتها إلا لما تمثله من دافع للرحيل " . أي أن الانسان لا يهوي الجمال المطلق لأنه سيقيده أما القبح الجميل فسيجعله يتنقل من جمال لآخر ! كما فتح الكاتب جدلية كبري وهي جدلية الرمز والمعني، أيهما علة للآخر ويقول في معرض ذلك "جمال الزهرة في لوحة ليس في انها شبيهة بالزهرة بل في أنها ممتلئة بالتفاؤل والامل والحب والخير " لكن من أين تأتي معاني التفاؤل والأمل والحب والخير أليس من الزهرة الحقيقية، إن زهرة اللوحة ما كان لها أي دلالة تذكر لولا الزهرة الحقيقية. فاللغة في منشئها ترميز للمحسوسات. ثم تطورت لتشمل المجردات. هذا يفسر لماذا كلمة مثل (حبظلم) ليس لها معني لأنه ليس في الوجود محسوس يشار إليه بالبنان بهذا الاسم. هذا يقودنا لمسألة أخري هل الواقعية هي الفن المثالي في التصوير ؟ أليست أوضع الكاميرات شأناً يمكنها تصوير الواقع أفضل من أفضل فنان؟ إن قيمة الفنان يجب ألا تكون في مدي ألمعيته في محاكاة الطبيعة وإنما في القدرة علي إنتاج الخيال، الكاميرا يمكنها أن تلتقط صورة دقيقة لمنظر خلاب لكنها لا يمكنها أن تلتقط صورة دقيقة لمنظر خلاب غير موجود في الواقع ولكن الفنان يمكنه! هذا يعزز فرضية آينشتاين في أن " آية النبوغ ليس المعرفة وإنما الخيال " .. وهذا ما عبر عنه جوزيف تيرنر عندما علقت إحدي السيدات علي لوحة من لوحاته، بأنها لم تر شجرة مثل شجرته فرد عليها بقوله " هذا هو المقصود تماما !" .. الخيال أهم من الرسم الفوتوغرافي. يري الكاتب أن العمل الفني قد يكون مرآة لسيكلوجية الكاتب . الفن كمرآة للفنان، مثلما الحال في صورة "حانة فولي برجر" لإدوارد مانيه والتي ترجمها الكاتب "مقهي فولييه برجر" نظراً لطبيعة المجتمع السعودي المحافظ الذي يقرأ هذا النقد، وقد وفق حمدي في ذلك أيما توفيق فسبْر أغوار الفنان سيسقط الكثير من أوراق التوت عن اللوحة وبلا شك سيساعد الناقد في استقراء دلالات وشفرات العمل الفني الذي يقعي بين يديه، وسيجعل المتذوق ملماً بكل أطراف العمل وكل أبعاده. وقد عرج كمال حمدي في كتابه علي كثير من الحركات والمدارس الفنية وقطف منها ألذ ما أشتهته نفسه من اللوحات ثم حملها معه في سلته النقدية. وهو في ذلك قد استجاب - ولو بدون قصد - لنصائح روبرت روزنبلوم ورينيه ريكارد وروزليند كاروس، عندما كتب عن اللوحات التي أطاحت بلبه فقط، متجنباً الأعمال الفنية التي لم تعجبه، فالناقد في مثل هذه الحالات كرئيس الطهاة الذي يتعامل مع وجبة شهية هو نفسه يحبها وبالتالي سيتفنن في صياغتها والتعامل معها بروح انبساطية عالية، وهو ما بدا من الحماس الذي كانت تقطر به سطور الكاتب بدءاً من كلاسيكية دافنشي وباروكية فيلاسكيز ومروراً برومانسية تيرنر وانطباعية مانيه ورينوار وتعبيرية فان جوغ حتي تكعيبية بيكاسو ودوشامب وانتهاءً بتجريدية خوان ميرو. لكنه اصطفي لصورة الغلاف "لوحة مدام شاربنتييه وصغيرتاها" لأوجست رينوار والتي من شدة اعجاب رينوار نفسه بها حاول استلهامها مرة أخري بعد اثنين وثلاثين عاما في لوحة مدام دوبرفيل وابنها هنري لكنه أخفق؛ ففي اللوحة العبقرية الأولي كان يبلغ 37 ربيعاً عندما كان ممتلئاً بوهج الشباب وفي أشد أوقات اشتعال جذوته أما في الثانية كان قد بلغ 69 عاماً بعدما أوشكت ذبالة عبقريته علي الانطفاء وهو ما حدث في وفاته بعدها بتسع سنوات فقط. أما في لوحة الوصيفات la meninas لأحد أقطاب الباروك دييجو فيلاسكيز يلتفت حمدي للفتاة محور اللوحة " تلبس هذا الطوق تحت الملابس. لا اعرف ما اسمه ، ولكننا نراه في الافلام التي تصور تلك الفترة القرن السادس عشر يمد "فستان" المرأة حولها مترا كاملا من كل جانب ولذلك لم تكن المرأة تستطيع ان تعبر بتملق- عن مشاعرها الحميمية لصديقتها بأن تلاقيها بالأحضان وبينهما استحالة مترين .. تسلمان بالكاد بأطراف الأصابع ". وقد أسهب بشكل يفاجئ القارئ غير المجرب في ذكر تفاصيل دقيقة ذات دلالات ذكية تنم عن عبقرية الفنان وحصافة ونفاذ بصيرة الناقد. وربما قصد الكاتب بالطوق حزام العفة الذي عرفته أوروبا في القرون الوسطي لكنه في الواقع لم يكن يشمل الأطفال الصغار كما أنه لا يمتد متراً كاملاً، ولكن الأرجح أن هذا الانتفاخ جزء من تصميم أحد الأنواع القديمة من ال ball gown أو فستان حفلة الرقص، وهو لا يبدو في اللوحة أيضا متراً كاملاً علي الإطلاق، كما أن الفتيات اللائي يتحلقن الفتاة الصغيرة لسن صديقاتها وإنما وصيفاتها، كذلك فإن الفتاة ووصيفتها لا تتصافحان بالأصابع وإنما الوصيفة تدرم أظافر الفتاة الصغيرة. وهو يقول " وربما صباغة الأظافر لو أنها عرفت في ذلك الزمن البعيد " وبالفعل فإن النساء كن يعرفن تدريم الأظافر في هذا العصر بل وقبله بنيف من العقود. وقدم الكاتب كعادته نظرة بانورامية عميقة للوحة أشار لعناصرها وحكاها كعادته استخلص منها عبقريات فيلاسكيز الذي تميز بفوازيره البصرية، لم يتغافل عن شيء فكل شيء مهما صغر مهم طالما حاز شرف الوجود في اللوحة، فالكلب كان له قسطه والوصيفة التي تجلس في قعر الهرم الاجتماعي نالت نصيبها من اهتمام الناقد الذي لم تفته ملوحظة أنها من الأقزام رغم أن اللوحة ملأي بالفتيات وهن في مثل طولها أو يكدن لكن فيلاسكيز جعل لها وجها ناضجا يقعي علي جسم طفل وهو ما لم يعزب عن بصيرة الناقد، والواقع أن هناك سراً ما خلف اهتمام فيلاسكيز بالأقزام فهناك أكثر من لوحة لهم، كلوحة سيباستيان القزم ، ولوحة المهرج دون دييجو دي أكيدو، ولأن اللوحة الأخيرة لا تبرز نهاية جسم هذا القزم، فلقد لجأ فيلاسكيز إلي تغيير تكنيكه في ابراز تقزم الشخصية من الوجه إلي اليدين، ففي لوحة الوصيفات كان كامل جسم الوصيفة القزمة في اللوحة لذا فكان علامة تفريقها عن الأطفال الرأس الكبيرة واليدين الكبيرتين أما في حال ابن العم دون دييجو فإن باقي جسمه غير ظاهر لذا فقد احتال فيلاسكيز علي ذلك بأن جعل له يدين قزمتين . وختاماً الفن يختزل الحياة. هو حياة ترانزستور.كما ذهب كمال حمدي وبحق هذا يعيد للذاكرة مقولة العقاد " اقرأ الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني" كذلك قال كمال بشكل ضمني " اتذوق الفن لأعيش طويلاً" كان ذلك في معرض تعليقه علي رباعية توماس كول " الطفولة الشباب الرجولة الشيخوخة " التي عرضها كشريط سينمافلسفي يتحري فيه حياة الإنسان وهي تتوثب بانسيابية عجيبة من مرحلة عمرية لأخري حتي يستأذن الانسان في الانصراف من هذا العالم ميمماً شطر المجهول.