برحيل المثقف ذو العطاء الكبير قاسم مسعد عليوة، بدأ جيل الآباء بالنسبة لي في الرحيل، في هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن، يتركوننا ونحن في أمس الحاجة لرؤاهم، بالفعل مثل قاسم لجيل من الأدباء والصحفيين معاني الأبوة، فقد كان يتمتع بإحساس عال وقدرة علي التعامل مع الجميع، ونقل خبراته إليهم. تعرفت عليه منذ ما يقرب من العشرين عاما، في إحدي مؤتمرات الثقافة الجماهيرية، كانت الحماسة لا تفارقه طوال أيام المؤتمر، سواء وهو جالس علي المنصة يتلو بحثه أو في مناقشاته مع الأدباء، لديه طوال الوقت منطق يعبر عنه، يجمع بين القوة في إبداء رأيه، وعدم تحويل هذا الرأي إلي معركة شخصية، فمثلاً كانت علاقته بالمسئولين في وزارة الثقافة طيبة طوال الوقت، لكنه لم يداهن أحدا، ولم يكن من المثقفين، الذين يرفضون الإجابة عن سؤال ما، خشية غضب المسئول، لم يمتنع أبدأ عن المشاركة في أي معركة ثقافية، وكان لا يهتم سوي بما يمليه عليه ضميره. 1 هو من جيل يدرك المعني الفعلي لكلمة " مثقف"، وأن الثقافة هي نتيجة لتراكم خبرات متنوعة، لذا ما من مرة رأيته فيها في القاهرة، إلا وأجده محملا بالعديد من الكتب، سواء التي أتي بها من بلده بورسعيد أو التي أقتناها من العاصمة، وهو ما دفعني ذات مرة لسؤاله عن كيفية تكوين مكتبته الخاصة، ففوجئت أنه بدأ في تكوينها وهو إبن السابعة من عمره، وقتها كان والده يشتري له مجلة السندباد للفنان الرائد بيكار، ثم توالت قراءاته في هذه المرحلة لمجلات الأطفال الأخري. فللمكتبة وضعها الخاص وسحرها ليس فقط في تكوينه، ولكن لأنها شاهدة علي أحداث سياسية مر بها الوطن وكيف دفع هو شخصيا الثمن غاليا، فقد أعتقل عام 1974 ، وما ترتب علي هذا الاعتقال من ضياع مكتبته الأولي، التي كونها علي مدار ما يقرب من 28 عاما، إذ فقد أمهات الكتب التي حرص علي تكوينها من كلاسيكيات الأدب العربي والروسي والإنجليزي والهندي والأسباني والإيطالي، وغير ذلك من كتب الفلسفة ومن أهمها كتاب " هكذا تكلم زارادشت"، بالإضافة لمؤلفاته هو الشخصية، إلا أن هذه المكتبة تبخرت في الهواء عقب اعتقاله، وقد روي لي هذه الحكاية وكيف أن أسرته هي التي أبادت المكتبة خوفا عليه: من صفاته المميزة أن اليأس لا يعرف الطريق إليه، فلديه دائما القدرة علي تجاوز المحن، ومحاولة البناء دائما، فالهدم لم يكن من صفاته " كنتُ فرحًا سعيدًا بالمكتبة الضخمة التي كونتها في سن مبكرة..في أسرة لم يمتلك أيٌ من أفرادها مكتبة مماثلة، إلي أن وقعتْ الفاجعة عندما اعتقلني السادات لأسباب ثقافية وسياسية في الشهر الأخير من عام 1974م. هي فاجعة بحق، كاد نبؤها يقتلني عقب الإفراج عني، فمن فرط خوف أهلي عليّ، ومن رعبهم من المخبر الرابض أمام المنزل، أخذوا ينقلون كتبي في حقائب إلي الحمَّام، ثم يمزقونها ويسكبون عليها الكيروسين ويحرقونها ويدسون الرماد في المرحاض ويضغطون علي صندوق الطرد. عشرة أيام بلياليها ظلوا يمارسون عملية الحرق هذه حتي سُدَّت أنابيب الصرف. كدتُ أموت لمَّا علمتُ. أفقدتني هذه المحرقة أصول أغلب أعمالي وما أكثر تنوعها وقتذاك: مسرحيات، روايات، قصص، قصائد البدايات، تمثيليات إذاعية، مقالات، رسائل ومذكرات. قليل القليل ما تمكنتْ زوجتي من إنقاذه". ولحسن حظه أن من صفاته المميزة أن اليأس لا يعرف الطريق إليه، فلديه دائما القدرة علي تجاوز المحن، ومحاولة البناء دائما، فالهدم لم يكن من صفاته، لذا أستطاع أن يعيد مكتبته مرة أخري للحياة: " بتحفيز من الروائي فؤاد حجازي وإمدادات من المرحوم الشاعر محمد يوسف تمكنتُ من تكوين الطوْر الثاني من مكتبتي. بطيئًا بطيئًا أعدتُ تكوينها. الآن أمتلك مكتبة ذاخرة عناوينها تقارب العشرين ألف عنوان أو تتجاوزها ، وهي موزعة علي التراث العربي والمصري القديم والكلاسيكيات الهندية والفارسية واليونانية وعيون الأدب الأوربي والكتب الحديثة والمعاصرة عربية، وأجنبية مترجمة، ومع أن للكتب السياسية وجودها الأصيل في مكتبتي، فقد زادت أعداد هذه الكتب وتنوعت بعيد ثورات الربيع العربي، وفي القلب منها ثورة 25 يناير 2011م المصرية". 2 هو- أيضا- صاحب مبادرات لا تنتهي وشجاعة نادرة في تحمل المسئولية، وأذكر في التسعينيات من القرن الماضي، كان دائما منصب أمين عام مؤتمر الأدباء، محجوز للأدباء الموظفين في هيئة قصور الثقافة، لكن مع مرور الوقت تساءل الأدباء لماذا لا يكون الأمين من الأدباء الخلص ممن لا يعملون في الثقافة الجماهيرية، وهنا برز إسم قاسم مسعد عليوة، ليكون أمينا عاما للمؤتمر، وتمكن أن ينجح في انتخابات الأمين ويتولي هذه المهمة الثقيلة، وقد أدار جلسات الأمانة بمهارة فائقة، ولأدبه الجم ولرغبته في خدمة المثقفين، خرج المؤتمر في أبهي صوره، وتعاون معه الموظفون من داخل الهيئة بروح الفريق، وكانت هذه الدورة من المؤتمر من الدورات الفارقة في مسيرته، واستمر هذا التقليد حتي الآن. ومن مبادراته الهامة، المساهمة في تشكيل جماعة " نحن هنا الأدبية" عقب ثورة 25 يناير، وكان لها برنامج ثقافي نفذته في مختلف الأقاليم، فضلا عن إصداراته البيانات المتلاحقة التي تعبر عن نبض الشارع، وليس الأدباء فقط. 3 كان قاسم من المدافعين بقوة عن الحريات في المجتمع، خاصة حرية التعبير، ولم تثار قضية تمس الحريات، إلا كان المدافع القوي عنها، لذا كان من أوائل المشاركين في ثورة 25 يناير 2011 ببورسعيد، وأصدر عن الثورة وأحداثها في هذه المدينة الباسلة كتابا توثيقيا، سجل فيه بدقة الوقائع لحظة بلحظة، وأسماء الشهداء والمصابين، كما ساهم في جولاته المتعددة بالأقاليم علي تأييد الثورة التي آمن بها بلا حدود، وعكف علي التأريخ لها، راصدا كيفية تحول غضبة الشباب إلي ثورة مكتملة الأركان : " لم يطلق أحد ممن رتبوا لهذه الهبة التي طافت بشوارع العواصم المصرية في هذا اليوم وصف الثورة علي ما رتبوا له. كانت فقط حالة من الغضب؛ لذا أطلق علي هذا اليوم قبل حلوله بمدة (يوم الغضب)، ثم ما لبث أن تحول في ذات اليوم إلي (انتفاضة)، وبانضمام الشعب إلي الغضابي والمنتفضين لم ينتصف ليل هذا اليوم إلا وقد تحول إلي (ثورة).. ثورة سلمية توفر فيها شرطا الأوضاع علي مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، يضاف إليها بشكل مباشر التزوير الفاضح المفضوح في انتخابات 2010م. النيابية، قتل الشاب خالد سعيد علي أيدي الشرطة، حادثة تفجير كنيسة القديسين بالأسكندرية، ثم مقتل شاب آخر علي أيدي الشرطة هو سيد بلال؛ ولا ننسي تأثير الثورة التونسية، ولا انتشار ظاهرة الانتحار حرقا علي غرار الظاهرة البوعزيزية، ولا التأثير الهائل للتكنولوجيا الرقمية (الفيس بوك والتويتر واليوتيوب، والمدونات والتليفونات المحمولة) في عمليات الحشد والتوجيه ومواجهة زيف الإعلام الرسمي وكشف أكاذيبه". 4 إذا تحدثنا عن مواقفه بالتأكيد نحتاج الي الكثير من الوقت والصفحات، فقد مثل قاسم مسعد عليوة بالنسبة لي قيمة إبداعية وثقافية كبيرة، وكان من سماته أنه إذا وعد وفي، فكثيرا ما كنت أميل إليه، باعتباره " مصدر مضمون" في التحقيقات التي أجريها، فحتي لو كان الوقت ضيقا، ما أن أرسل له الأسئلة، ويتفق علي موعد إرسال الإجابات، كان لا يتأخر، وكثيرا ما جاءني صوته: " طارق يا يبني أنا أنتهيت من الإجابة في الفجر.. علشان خطرك سهرت طوال الليل"، ورغم أنه في أحيان قليلة، ولأسباب متعددة لا أنشر بعض ما يرسله لي رغم إلحاحي عليه إلا أنه لم يسألني عن مبررات عدم النشر، سوي مرة وحيدة، وذلك بعد أن أكتشف أختفاء إسمي- وأسماء زملائي- من أخبار الأدب، عقب إعدادي ملف عن 25 يناير 2013، وكان عبارة عن أسئلة محددة وجهت ل11 مثقفا، لكن لم ينشر الملف. وقتها جاءني صوته عبر الهاتف مستفسرا عن الأوضاع في الجريدة، فشرحت له اسباب المنع، وأتذكر كيف تنبأ سواء في كلامه معي أو في حواره بالسقوط السريع للأخوان، ولم أكن أعلم وقتها أنني سأعود لهذه الإجابة بعد رحيله، لتكون شاهدة علي أنه ممن كانوا يؤمنون ببصيرة وبقراءة متعنقة للتاريخ وللأحداث بأن الأخوان في طريقهم للخروج من المشهد: " الأخوان المسلمون ناوروا في كل محطة. صرحوا ووعدوا وأقسموا ثم حنثوا، واعتبروا كل محطة مرحلة في حرب، والحرب خدعة وحيلة. في استفتاء 19 مارس طوعوا السلفيين فكانت قولة "غزوة الصناديق" ليبدأ أول مشاهد التقسيم، واستماتوا معا للإبقاء علي أول مجلس شعب بعد الثورة بعواره الدستوري، وكان قد مارس قبل إلغائه بعض أنشطة أظهرت ما لم يعهده أحد تحت القبة من نوعية عدم توقير السلام الجمهوري، ورفع أذان الصلاة تحت القبة، والكذب، والمخالفات القانونية والأخلاقية، وغيرها من ممارسات نالت استهجان أغلب الطبقات الشعبية. بفعل هذه المناورات، وشنط الزيت والسكر المشهورة، صعد د. محمد مرسي لسدة الحكم بفارق غاية في الضآلة أغلبها اتجه إليه نكاية في شفيق ابن النظام السابق، ونتيجة لممارسات د. محمد مرسي، وأخطرها الإعلان الدستوري الرئاسي المرفوض الذي حاول به تكريس ديكتاتوريته، ارتكبت المجازر في محيط قصر الاتحادية، ومن جراء هذه الممارسات عزف المصريون عن المشاركة في الاستفتاء علي الدستور، الذي أراه وتراه قوي وطنية عديدة دستوراً معيبا، فلم يتوجه إلي صناديق الاستفتاء حسب الأرقام المعلنة سوي 17 مليونا من أصل 51 مليونا، أي أن حوالي 67٪ ممن لهم حق الأداء بأصواتهم لم يشاركوا في الاستفتاء". 5 إن قاسم مسعد عليوة بأرائه وإبداعاته المتميزة وتجاربه الثرية، من الصعب أن نجملها في سطور، وسيظل علامة فارقة ممن أصطلح علي تسميتهم بأدباء الأقاليم، الذين أستطاعوا أن يشار إليهم، وهم قاطنون في مدنهم البعيدة عن القاهرة، إن قاسم صاحب كتاب " المدينة الاستثناء" عن محبوبته بورسعيد، هو بالفعل كاتب استثنائي وسيظل دائما من أبرز الأسماء الثقافية ممن لهم الدور المؤثر، فكثيرا ما قضي الساعات والليالي وهو في سفر من محافظة لأخري، مشاركا في ندوة هنا ومؤتمر هناك، يفعل ذلك في سعادة بالغة، إيمانا بدوره في نشر الثقافة.. فرجل بمثل هذه القيم، من المؤكد أن، تأثيره لا يمكن تجاوزه، رغم رحيله الجسدي. العامة للدولة، والفرق بين الدولة والحكومة كبير، لأن الدولة تضم إليها منظمات المجتمع المدني، وقلنا إن حاله سيكون كحال البرلمان السياسي، وتساءلنا زما الضرر من وجود مجلس ثقافي إلي جوار مجلس للنواب؟س هنا أطل سؤال زألم تكن هناك مجالس قومية متخصصة؟س.. علي أيه حال يظل الأمر للآن في إطار الطرح النظري، وبينه وبين التطبيق العملي بون شاسع وإرادة شعبية ثقافية يجب أن تكون منتبهة، مشحوذة، ومستنفرة. وبهذا الصدد أشير إلي أن من دعاوي الاستقلال ما صدر من داخل المجلس الأعلي للثقافة ذاته، كما حدث وأوضحه بيان لجنة الدراسات الأدبية واللغوية المعلن في ختام الدورة السابقة (يونيه 2011م.)، وفيه شددت علي وجوب استقلال المجلس، وإلغاء منصب وزير الثقافة علي أن يقوم المجلس بمهامه، وكان لي شرف التوقيع علي هذا البيان. كما أشير إلي التوصية الرابعة التي صدرت عن مؤتمر المثقفين الذي عقد بالمجلس في ذات الشهر وأكدت علي ضرورة أن يكون المجلس الأعلي للثقافة هيئة مستقلة يديرها المثقفون بشكل ديمقراطي، وتعبر عن الحقوق العادلة للشعب لمصري في الثقافة وحرية الفكر والتعبير ومدنية الدولة وتحضّرها، بعيدا عن أي تدخل للحكومة في سياساته. مقال لم ينشر من قبل