ناصف عزمى لم تكن أبلة فاهيتا هي الحالة الأولي لعروسة تقف في خصام مع السلطة. كتب مسعود شومان في العدد السابق عن الأراجوز وفن "تجريس السلطة". هنا نقدم حواراً مع ناصف عزمي الذي استطاع مع فرقة الكوشة التي أسسهاانطلاقاً من قرية تونس في الفيوم - تقديم عروس مسرح عرائس في الشارع بدءاً من العام 2012 عروض الفرقة تحمل بعداً ثورياً ومعادياً للسلطة بالطبع، ولكن خلف العروض تقف حكايات كثيرة. درس ناصف عزمي الهندسة في مصر. سافر إلي فرنسا عام 1977 وبدأ هناك في دراسة المسرح ثم عمل كسينوجراف لمخرج كبير في باريس. حظي ببعض الشهرة في باريس، كما يقول. واكتشف مشاكل المسرح الحقيقية، الغيرة والوشاية، بالإضافة إلي فرض الممثلين الكبار طريقة آدائهم عليه، هو المخرج المصري الشاب: "بدأت في اكتشاف أن الموضوع ليس رومانسيا كما كنت أتخيله، مسرح الشايوه القومي كان يتكلف 135 ألف فرانك في اليوم، إيجار وكهرباء وصيانة والعمال، هذه مؤسسة كبيرة. اكتشفت أيضاً أن هناك كلاسيكيات لا تستطيع تغييرها باستثناء لو كنت مخرجاً كبيراً. كان الزمن وقتها هو زمن النظريات الحديثة وكل مخرج يريد أن يجرّب. ثم عملت مع بيتر بروك، في محاضرات بيتر بروك قال إن الفنان في العالم الثالث حظه سيء، لأنه لا يملك المعدات، وهذه المعدات تمتلكها الأنظمة الرأسمالية المستبدة، ولذلك فعلي الفنان أن يعمل مثل الثعبان ويستطيع التصرف. وضرب مثلا بفنان أرجنتيني يصنع عرائس، عندما تحدث عن العرائس دق جرس الإنذار بداخلي. هنا ببساطة قررت العمل بالعرائس". وقتها كيف كان يبدو فن العرائس في فرنسا؟ أساس تطوير فن المسرح هو العرائس، هذا هو المكان الذي يقوم فيه كبار المخرجين بالتجريب، لا تنس أن شعراء كباراً ألفوا للعرائس أيضاُ، مثل بول إيلوار ولوركا، وهناك فنانون كبار رسموا العرائس ونحتوها. في بدايات القرن العشرين كانت هناك موجة للتجريب في المسرح التقليدي، الشكسبيري، والآداة التي ساعدت الفنانين في التجريب كانت العرائس. أنا كنت قد تعلمت حرف كثيرة، كنت أعمل سينوجراف، أي "ميكانيكي مسرح"، مثل الصنايعي، لذلك وافق فن العرائس هواي. اكتشفت العرائس وعملت مع ثلاث أو أربع فرق كبار وسافرنا مهرجان شارلييه للعرائس. كنا نقوم بالعرض ونجول به. فن العرائس فن جوال أصلاً، ولذ1لك لابد أن تستثمر العرائس التي تصنعها لأطول وقت ممكن. لماذا هو فن جوال؟ لابد لنا من التفريق بين أنواع المسرح. هناك المسرح الفلورنسي الإيطالي العادي. هذا يقوم علي المبني. فن المسرح في عمومه مرتبط أكثر بالمسرح الفلورنسي. حتي عندما تتحرك الفرقة من مدينة لأخري تكون هناك اعتراضات خاصة بشكل المبني في المدينة. المسرح أصلاً مرتبط بتحضير المتفرج. تذهب وتقف في طابور لحجز تذكرة وتظلم القاعة بالتدريج وتفتح الستارة بالتدريج. أنت جاهز للاستقبال. وهناك مسرح الغرفة. أنا أعرض عرضاً في شقة بعينها وأدعو أصدقائي للمجيء. يحضر الأصدقاء ثم تليهم الفرقة. هنا أيضاً يتم تجهيز المتفرج. وهناك المسرح الذي يفاجئ جمهوره ويذهب إليه في أماكنه الطبيعية، وهو المسرح الجوال. الأراجوز يتحدي الموت اكتشف عزمي اللعبة كما يقول في فرنسا. كان يعمل في تصنيع العرائس ونحتها وتحريكها: "هو بالأساس فن تشكيلي متحرك، والحركة هي الأساس، لو لم تتحرك العروسة ستكون أشبه بقطعة ديكور، وستدب فيها الحياة بمجرد تحركها. النحت ليس وحده المهم هنا. المهم اكتشاف قوانين حركة العروسة وقدرتها علي التعبير. أي عروسة تتحرك بشكل مختلفة عن أختها، مهما بلغ التطابق بينهما. الاختلاف يكمن في المفاصل وعوامل الاحتكاك وغيرها. لو لديك أوركسترا كمنجات فكل الكمنجات ستصدر نفس الصوت وتلعب نفس النوتة. أما هنا فكل عروسة تلعب نوتة وحدها". صانع العرائس هو الفنان الأصلي. في الغالب صانع العرائس هو من يخرج لنفسه ويكتب النص لنفسه. وحتي مع مفاهيم التركيبية والتخصص التي غزت الفن، ظل فمسرح العرائس الحديث يعرف باسم مصنعيه، هناك فرقة فيليب جانتيه وفرقة إيلكا. حتي لو أطلقت علي اسم فرقتك اسما محايداً، سيسمي الجمهور اسم الفرقة باسم صانع العرائس. خاصة في عرائس القفاز أو ما يسمي في مصر ب"الأراجوز". عمل ناصف كثيرا علي موضوع الأراجوز، عمليا ونظرياً. تبدو فكرته ملفتة جدا له: "فكرة الأراجوز موجودة في جميع حضارات العالم بنفس التفاصيل، نفس الصوت النحاسي وتركيبة الشخصية، هو الفهلوي القاسي الغبي الطيب الذي يقتل العسكري والقاضي وزوجته ويدخل في صراع مع الموت ويخدع الموت. يمكننا تسميته "الوعي السيء الجماعي". لهذا يضحك الجمهور. لأن الأراجوز يُظهر الرغبات الشريرة الموجودة فعلا في داخله. الأراجوز يرغب دائماً في هدم النظام حتي لو كان هو المخطئ. يرتكب الأراجوز خطأ فيأتي العسكري ليقبض عليه فيضرب العسكري. هذا عندنا. ولكنه موجود في جميع ثقافات العالم بتنويعات مختلفة. إلي أي حقبة يرجع الأراجوز المصري؟ هو ليس متأكداً، البعض يقولون إن محمد ابن نباتة رئيس وزراء قراقوش عندما تم عزله كتب كتاباً هجائياً بعنوان "الفاشوش في حكم قراقوش"، وأُخذ الكتاب ولعب في الحواري باستخدام العرائس. ومع الوقت تغيرت كلمة "قراقوش" إلي "أراجوز". هناك تفسير آخر يقول إن الكلمة ظهرت في العهد العثماني وكانت "قرة جوز"، أي "العين السوداء". أيضاً، ومن أجل مزيد من التعقيد، يؤكد ناصف أنه كانت هناك عرائس متحركة أيام المصريين القدماء: "هناك كلب في متحف اللوفر يزوره جميع المهتمين بالعرائس. الكلب خشبي ويحرك فكه وله أماكن لليد. والثابت أيضاً أن طقوس تمزيق جسد أوزوريس كان يتم لعبها عن طريق العرائس. القبائل الأفريقية في نفس الوقت كانت تقوم بتحريك الموتي. الموتي كانوا يتخشبون فكان يتم صنع نموذج للميت حتي يصبح من السهل تحريكه". ما هي خصوصية الأراجوز المصري إذن؟ مشكلة الأراجوز المصري أنه اندثر، وبالتالي فمن الصعب جدا التحقق منه، ولكننا نعرف أنه كانت له طريقة لعب ورقص مختلفة. وكان دائما ما يعتمد علي "ملاغي" يردد آخر كلمة وراءه. الأراجوز صوته يشبه الزمارة، وكلامه غير مفهوم للوهلة الأولي، لذا يقول الأراجوز مثلا "صباح الخير يا حماتي"، فترد عليه: "صباح الخير! كمان بتقولي صباح الخير!". هي تردد آخر كلمة وراءه حتي يفهم الناس ما قاله ويألفون صوته. أراجوز الليلة الكبيرة يقول للعمدة "لحد ما تلاقي عمارة"، فيرد العمدة "لحد ما الاقي عمارة"، وهكذا. أما الآن فحالة الأراجوز متدهورة تماماً. يعتمد علي القافية واللغو واللعب بالكلام أكثر مما يعتمد علي الحركة، ومصنوع بأقل الإمكانيات والميكروفون صوته سيء. الأراجوز في مصر يمر بلحظة صعبة الآن، كما يقول ناصف، هناك فقر في الخيال وفقر في التصنيع. فقر الخيال يرجع للرغبة في إعادة التراث بدون أي تطوير. محركو الأراجوز يريدون إحياء شيء ميت. وفقر التصنيع يأتي من "الاستسهال"، لا أحد يبحث أو يبحث عن حلول مبتكرة. المسرح القومي في مصر هو الوحيد الذي يعرض عرائس في أفريقيا، وحالته مزرية جدا، حتي الآن يعرضون "الليلة الكبيرة". لماذا؟ يجيب ناصف: استسهال. هم لديهم جمهورهم الثابت ومطمئنون إليه. برغم ذلك، كما يضيف ناصف: "هناك تاريخ عرائسي مهم في مصر. إذا نفخت في زمارة ومشيت معك في أية قرية مصرية، سوف تقول الناس "اراجوز"، حتي من منهم لم يروا الأراجوز رأي العين. في الوعي المصري الداخلي صوت الزمارة مرتبطة بالأراجوز". في مقابل الأراجوز، فخيال الظل يقيني أكثر. هناك نصوص نملكها كان يتم بها لعب خيال الظل. مثلا كتاب "بابات ابن دانيال"، والذي يعود لأيام الظاهر بيبرس. وفي الجمعية الجغرافية هناك عرائس أصلية . يذكرني ناصف بأنه لم يكن هناك مصنع للعرائس، وإنما كانت الأجيال تتناقل العرائس الموجودة وتحافظ عليها. كانت تصنع من جلد حمار مدبوغ يتم شده علي خشبة بمسامير. تُرسم وتوضع فيها الحلي ثم تقطع. العودة لمصر بعد هذا الشرح النظري، يعود ناصف ليحكي قصته: "في عام 1986 زرت مصر وعملت مع الفنان بهائي الميرغني في خيال الظل بقصر ثقافة الغوري. د. سعيد عبد ربه كان قد اكتشف صناعة خيال الظل وبدأ في تطبيقها وصناعة خيال الظل من جلد الحمار واستعان ببهائي الميرغني. كان المسرح يقام هناك بطريقة كلاسيكية. بعد شجار حدث في قصر الثقافة غادر الميرغني ووقتها عرضت عليه أن أخرج له عرضه. ذهبنا إلي شقته بشبرا الخيمة. وهناك، تحت مواتير المياه في منور العمارة كنا نصنع العرائس. كانت هذه أول تجربة لي في مصر. في عام 2000 بدأ ناصف في رحلة عودته إلي مصر، بدأ يطيل فترات إقامته بمصر استعدادا لمغادرة فرنسا بشكل نهائي: "اسست فرقة الكوشة في الفيوم وعرضنا مسرحية تعتمد علي القفاز، المسرحية كان فيها عنصر بشري ولكنها تحتوي أيضاً علي الكاستوليه، وهو صندوق الأراجوز. بدأنا في العمل وعرفتنا الناس في الفيوم ثم وقعت حادثة بني سويف التي راح ضحيتها بهائي الميرغني، وأصيب واحد من أهم العناصر في الفرقة، وهو الفنان حسام عبد العظيم." بعد الحادث المأساوي توقف الإنتاج لفترة طويلة. انشغل ناصف بالبحث. أسس ورشته في قرية تونس في الفيوم، وبدأ مع شباب الفرقة في تصنيع العرائس ونحتها. إلي أن حانت لحظة الانطلاق في عام 2012 في الذكري الأولي لثورة 25 يناير شاهد ناصر مجموعة شباب يعرضون عروسة تمثل المشير طنطاوي أمام جامع مصطفي محمود. تكلم معهم وطلب منهم زيارته، فزاروه. هكذا بدا التعاون لإنتاج شيء جاد في مصر. الخروج للشارع أقامت فرقة "سيركايرو" عرضها الأول في "الفن ميدان" بعابدين. كان العرض ضد المجلس العسكري، بعده حدثت أحداث محمد محمود. حضرت الفرقة المظاهرات في وسط البلد. أقامت عرضها في شارع طلعت حرب. العرض الذي كان مكوناً من عرائس ضخمة ترتدي بيجامات وتضع نياشين عسكرية علي صدرها كان مرحباً به تماما وقتها. يقول ناصف: "وقتها نادونا: أهلا أهلا بالثوار، وأطلقوا علينا (يضحك) اسم البلاك بلوك. الطريف أن بعدها بثلاثة أسابيع عرضنا في نفس المكان، ولكن شباب الفرقة تم ضربهم والعرائس تم خطفها. كانوا يضربوننا وهم يقولون لنا إننا ضد الاستقرار وإننا نسخر من المجلس العسكري. أحدهم كان يصعد فوق كتف محرك العروسة ويضرب العروسة بالحذاء. مزاج الناس كان قد تغير." ولكن بالإضافة لهذا، فهناك الشعب المحب للعرائس بطبعه. يحكي ناصف عن عرض أقيم في بورسعيد المدينة التي تحرق عروسة اللنبي كل عام. يحكي عن أهل بورسعيد الذين ساعدوا الفرقة في تلبية احتياجاتهم وحمل العرائس لهم. كانوا في فترة حكم مرسي والعرض كان موجهاً ضد الإخوان وأخذ عنوان "رقصة الموت"، تم استخدام تنين ضخم لبسه واحد من الفرقة وهو عمر الشامي: "كان هدفي أن تدور الناس حول بعضها، ولكنهم لم يستطيعوا. عمر الشامي كان يحب الاشتباك مع الجمهور. فجأة وجدته بجانبي ورأيت التنين بعيداً. لفت نظره لهذا فانتبه وصاح "التنين اتسرق". أحد الجماهير نزع التنين من علي الفنان ومضي يتحرك به في المظاهرة. ولكن هل فكرتم في النزول وحدكم، أي بعيداً عن المظاهرة أو الفعالية الفنية؟ يجيب بالنفي. مسرح العرائس مرتبط بالحدث. وهذا يُظهر الفرق بين الكتابة للأراجوز ولخيال الظل مثلاً. العروسة تحتاج لقماشة عريضة جدا من الكتابة، لأن البطل كله هو الحدث وليس النص المعد مسبقاً. يشبه الموضوع بمعلق الكرة الذي يصف ما يحدث أمامه في الملعب بدون أن يكون لديه نص مسبق: "الحكاية كانت هي الجنرالات العجائز الذين يرتدون البيجامات ويحكموننا"، علي عكس خيال الظل مثلا. خيال الظل يحتاج لكتابة شاعرية. في عرض رقصة الموت، تظهر ساق المحرك من تحت التنين، اسأله لماذا لم يتم تغطية قدمه فيجيب أنه بالعكس، كان يريد للساق البشرية أن تظهر وبدون بنطلون حتي. كان يريد اللحم العاري للساق. لماذا؟ "كسر الإيهام ليس فكرة بريختية. بريخت اكتشفها في مسرح البونراكو الياباني، وهو مسرح عرائس مركزي في اليابان. مشكة المسرح أن المتفرج يصدق أن من أمامه هم الآلهة وهم البشر وهم الأبطال وهم الشياطين. أما كسر الإيهام فيذكره بأن هؤلاء مجرد أشخاص يمثلون علي المسرح. أنت تري خشبة تتحرك أمامك. هناك رؤية طفولية تري في قطعة الخشبة هذه القاضي أو الطبيب، وهناك الرؤية البالغة التي تراها مجرد قطعة خشب. الرؤيتان متداخلتان في ذهن الإنسان. مهمة صانع العرائس أن يستدعي دائماً هذا التناقض. لذا أحببت أن يظهر اللحم العاري للمحرك. ولهذا أحب أن أصنع العرائس من الخشب، عندما تضرب العروسة أختها يسمع صوت الخشب يطقطق."