سكنت الحركة . الحارة ترقد هادئة مستكينة كطفل شقي مشاغب هده التعب فاستسلم للنوم . الهواء مشبع برطوبة ثقيلة لزجة . الليل راسخ صامت . صمت تعمقه قطرات الماء المتساقطة من صنبور الحمام , ويخدشه نباح كلب من بعيد , وشخير الجار المزعج . في نافذة مقابلة , الجارة بقميصها الشفاف الباهت الحمرة ونهديها المدورين تتأمل بافتتان جسدها الناعم_ الذي يغمره ضوء المصباح الآن _ في مرآة . تتلمس بيديها خاصرتها وفخذيها وبطنها ,تجوس عبر المنحنيات المرنة . تصعد اناملها ببطء عبر ملاسة الجسد المشرع , تضغط نهديها برفق , تحيط استدارتهما بكفيها . ينتفض الجسد المشدود ويرتعش . تنسرب من بين شفتيها . بعنف وحنين , تمتمات مبهمة , وأنا _ مسمر في الشرفة _ أترقب عودته . أحدق في مربعات العتمة وشرائح النور .أتلهي بمتابعة نجوم تبرق في صفحة سماء معتمة . أمارس لعبتي الليلية , أعد النجوم فأخطئ الحساب . أعاود العد مرة ومرة ومرات في دورة لا تنتهي . يشتد بريق أحدها ويهوي فجأة مخلفا وميضا خاطفا . انقبض القلب وغاص الي القدم . أسقط في دوامة حزن شفيف , ينتصب أمامي وجه جدتي متحدثة عن النجوم في سماء الله العالية : هي أرواح البشر , تحيا ماداموا يحيون , ولما يرحل أحدهم , يهوي نجمه وينطفئ . ملتاعا أحدق في القبة الزرقاء المثقوبة بالنجوم تتنازعني الأسئلة . من قعر بئر عميق ينتشلني صوت دمدمة محرك السيارة , يضوي ضوؤها عند منعطف الحارة . درجات السلم أقطعها قفزا . تتلقفني ذراعاه المفتوحتان وحضنه الوسيع . أتلمس تفاصيل الوجه المجهد المنقوع في الزيت والعرق . أتملص منه مندفعا الي مقعدها الأمامي .أتحسس مقودها , أحس دفئها , أضغط آلة التنبيه , يفزع كلب متناوم يقعي دافسا بوزه بين قائمتيه الآماميتين . ينهرني أبي هامسا : الناس نايمة . تصفو الآن تقاطيع الوجه المتعب . يحتوي العربة بعينيه , يمسح جسدها المعدني الدافئ بفوطته الصفراء , يربت عليها بحنان .يضوي الجسد تحت انعكاسات ضوء القمر . يلبسها ثوبها المطرز بورود حمراء وخضراء وصفراء . تبدو كعروس بهية . امرأة في كامل زينتها . يحنو عليها , يتأملها في وله , يهمس لها بصوت مترع بالعشق : تصبحين علي خير . في ليالي الصيف المقمرة _ حين يعود مبكرا _ كان يحلو له أن يصعد فوق سطح المنزل . يعتني بشجيرات صغيرة , يتمدد فوق حصير مفروش , يفتح صندوق التذكارات , يحكي لي ألف ألف حكاية : السيارة امرأة معطاءة , اخلص لها تعطيك أكثر مما تأخذ , معها عرفت الدنيا وخبرت الناس . الشوارع اللامعة النظيفة , والدروب والحواري الغارقة في الاهمال وغبار السنين , الواجهات البراقة تضوي بالضوء والظلال , والبيوت الجهمة الواطئة , لصوص وقوادون , وقاعات تزينها المرايا , سكاري . وأولاد بلد . وبنات أصول , وصعاليك , وعاطلون عن العمل , ومتسولون , وعاهرات رخيصات . تصبح الدنيا صبية جميلة بشرائط ملونة , ويغدو العالو ملئ بعربات من كل شكل ولون , أطير بها في سماء صافية , أجوب مدنا وشوارع نظيفة لامعة , أعانق طيور السماء , وأمسك بيدي السحاب المسافر . ينسحب الضوء رويدا رويدا . يكبر شئ في داخلي ويكتسح روحي . أشعر بكائنات خفية تتحرك في الظلمات . قطعان زواحف ضخمة , وأفاع مكدسة في الطين . وطاويط هائلة وحيوانات مجنحة , أسمع الآن خفق أجنحتها الصامت , تلامس برفق , وعلي نحو مثير للاشمئزاز , جسمي , وتصل حتي وجهي . بليل عادت العربة ولم يعد أبي . لم يقل لي أحد شيئا . كان كل ما سمعته هو ذلك السكون الذي يكاد يلمس من فرط كثافته , وهؤلاء الرجال الغامضون , يرفلون في عباءات طويلة , يدخنون سجائرهم , ويهمسون بكلمات غامضة , ويمضون . تقودني قدماي الي السطح . الحصير مازال مفروشا . ذبلت الشجيرات الصغيرة . اتطلع الي النجوم التي خبا ضوؤها الآن , أنقل البصر بحثا عن مكان النجم الذي هوي . صدح طائر في الملكوت . . الملك لك لك لك . انحسرت شرائح النور وزادت مساحات العتمة . كنت أظل جالسا حتي الصباح , أراقب شيئا غامضا عصيا مراوغا . وحين يتسلل الضوء الغسقي واهنا حذرا , كان الضباب يروح في التبخر وتزيد مساحة الرؤية , كنت أراه يأتي , يهبط من مكان ما , يرفل في عباءة طويلة , يبتسم ملوحا ويمضي . محلولة الشعر , تملأ الأصباغ وجهها , عادت ترتكن علي افريز النافذة . تضع ذقنها في باطن كفها المضموم الأصابع , وبعينين ذابلتين , ترنو للأفق البعيد . كل القطارات مضت وكنست وراءها المحطات . انقضت كل المواسم , وهي _في مكانها _ تحدق في الفراغ . أهبط الي الشارع . العربة مكومة محاطة بظلام خفيف , ونسمة منفلتة من قبضة الصيف تداعب غطاءها الذي علاه التراب وكثير من بقع . كان جسدها باردا , تبدو وحيدة مهملة , ترهل ثوبها الذي كان ناصعا وسكت صوتها . اقتصرت علي النظر اليها بامعان , كمن يتأمل بصمت , مناظر قديمة تعود لأيام مضت , أشاهد بحنو وكآبة , ما فعلت الأيام بها . اجتمع الرجال وقرروا بيعها . لا فائدة من التشبث بها بعد أن اعتراها الوهن وزحف الصدأ الي اعماقها . عبثا حاولت التمسك بها واقناعهم . قضي الأمر , وصار لزاما علي أن أرضخ أفرط فيها وأدعها تمضي . هائما أمضي كالمضروب علي رأسه , دموعي تسح , مثقوب القلب وحزين , حزين ووحيد. يومها، ويومها فقط , أدركت علي نحو مفجع أن أبي مات .