يبني صلاح بو سريف مقاله عن كتاب علي "هامش السيرة" لطه حسين علي مقولات اساسية هي أن منهج طه حسين هو "الشك"، وأن طه حسين كاتب "نخبوي"، ويقرأ بو سريف الكتاب من خلال كتاب "في الشعر الجاهلي" إذ يضع مقدمة "في الشعر الجاهلي" في مكانة أعلي من مقدمة "علي هامش السيرة"، ويري أن مقولة "العقل والنقد" في مقدمة الشعر الجاهلي تنفي مقولة "التوجه للشعب بفن يحبه ويعجب به" في "علي هامش السيرة" ويصل الي نتيجة محددة هي أن طه حسين ألبس الشك قميص اليقين، وأنه في كتابه "علي هامش السيرة" يقوم بنفس ما قام به في "الشعر الجاهلي"، وإن كان في "السيرة" يعيد قراءة حياة النبي كما اعاد "في الشعر الجاهلي" إعادة قراءة الشعر الجاهلي. ونحن نختلف مع مقولات صلاح بوسريف الاساسية ولا نصل لنفس نتيجته بالتاكيد. لم يكن نخبويا نبدأ بمسألة أن منهج طه حسين هو الشك، وأنه كان يقوم بدور الناقد والباحث، فهذا بالتاكيد ينطبق علي كتاب "في الشعر الجاهلي" وقد نختلف او نتفق معه في قراءته للشعر الجاهلي. وأما قوله أنه نخبوي، ونفي أنه يتوجه بكتابه للشعب. فهو ما يثير التساؤل، فهل لم يتوجه طه حسين للشعب عندما كتب "دعاء الكروان" او "المعذبون في الارض"؟ وهل عندما يتخذ من التراث مادة قصصية يكون نخبويا؟ أعتقد أن من حق كل كاتب أن يقدم كتابه بما يريد، ومن حقه علينا كقراء أن نصدق مبدئيا في مقدمته، ولا نصادق عليها بشكل نهائي إلا بعد الانتهاء من القراءة ونقول في النهاية أفلح إن صدق. وإذا حاولنا أن نقرأ "علي هامش السيرة" كما حاول صلاح بوسريف أن نقرأ الكتاب بتجرد عن المشاكل الزمنية التي احاطت بطه حسين بعد انجاز "في الشعر الجاهلي" وعاصرت انجاز "علي هامش السيرة". ولنفعل ذلك فعلينا اولا أن نصنف "علي هامش السيرة" تصنيفا مفيدا للبحث. ونري أن "علي هامش السيرة" كتاب قصصي. وفي هذه الحالة فإن مقولات صلاح بوسريف كلها تتداعي منطقيا. ونستطيع أن نستشهد بكلام طه حسين نفسه في مقدمة "علي هامش السيرة" عندما يتحدث عن التخييل، وبالتالي هو يقترب من مجال الكتابة القصصية الحكائية، حتي وأن كانت مادته هي التاريخ الاسلامي. وأن كان بو سريف لا يقبل هذه المقدمة وينسفها. تبقي هناك نقطة في غاية الاهمية وهي أن هذا الاطار التخييلي للتاريخ يتوقف عند شخص النبي والنبوة والدين كما اشار طه حسين في المقدمة ولنفهم ذلك علينا أن نعرف كيف يري طه حسين السيرة بشكل عام وكيف تعامل معها. روح الشعب يقول طه حسين في مقدمة "علي هامش السيرة" التي يرفضها بوسريف "إن احاديث العرب الجاهليين واخبارهم لم تكتب مره واحدة، ولم تحفظ في صورة بعينها، إنما قصها الرواة في ألوان من القصص، وكتبها المؤلفون في صنوف من التأليف" أما في " في الشعر الجاهلي" وفي معرض حديثه عن امية ابن ابي الصلت فيقول عن السيرة "طائفة من الاخبار والاحاديث تحتاج إلي التحقيق والبحث العلمي الدقيق ليمتاز صحيحها من منتحلها" ويتعجب من موقف المستشرقين وثقتهم في صحة نسب شعر أمية ابن ابي الصلت وجحودهم للسيرة حيث لا يرونها مصدرا صحيحا مع أن هذا الشعر الذي بين ايديهم قد وصل اليهم من السيرة، التي يري حسين أنها بينت حياه العرب القدامي وترحالهم وعلاقتهم بالامم الاخري وثقافتهم كما لا يبينها الشعر الجاهلي. وعندما يتحدث طه حسين عن القصص في مرجعنا ايضا في الشعر الجاهلي فيقول "أن القصص نفسه ليس من السياسة ولا الدين وأنما هو فن من فنون العرب"، "وتتأثر القصص بشيء أخر غيرالسياسة والدين وهو روح الشعب". وقد نري أن في هذا الكلام تاكيد علي المنحي القصصي والحكائي الذي أتخذه طه حسين وتوجهه للشعب في "علي هامش السيرة" علي عكس ما ينفيه ايضا صلاح بو سريف. لا يوجد كذب في الفن الكتاب في مجمله يعرض للحياه الجاهلية قبل الاسلام وكذلك فترة صدر الاسلام وتمتلئ حكايات الكتاب بالعرب والروم واليهود الوثنيين والنصاري والمجوس والرهبان والاحبار والمقولات الرئيسة للصراع الديني في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وهو ما يقربنا أيضا من "في الشعر الجاهلي" فوجهة نظر طه حسين الاساسية في "الشعر الجاهلي" أن الشعر أكثره منتحل لأنه لا يعبر عن الحياة الجاهلية الدينية قبل الاسلام، بينما يشرح القرآن هذا بوضوح وكذلك السيرة. وهو ما يفعله طه حسين في "السيرة" فلو كان لي ان أعارض بو سريف لقلت أن طه حسين يقدم في "علي هامش السيرة" الحياة الجاهلية كما تمني أن يجدها في الشعر الجاهلي، وأنه هنا قدمها في إطار قصصي حكائي تخييلي إلا فيما يتعلق بشخص النبي والنبوة والدين، وأنه هنا في"السيرة" يقوم بإعادة بناء الصورة ليكمل النقص في المعرفة بمثل هذه الحياه الجاهلية. تعامل مختلف أما أن يكون هدفه هو الشك في قميص اليقين.. فأنا لا أعرف عملا فنيا هدفه الشك أو اليقين. فهذا أمر من امور العلم كمقولة الصدق والكذب. أما الفن فليس فيه كذب لأنه من البداية سيخبرك أنه سيحكي حكاية حتي لو كانت مادتها تاريخية. ولنري كيف تعامل طه حسين مع السيرة بشكل مختلف في كل كتاب من كتبه ففي الشعر الجاهلي أيضا يروي قصة عدم مبايعة سعد بن عباده سيد الخزرج لأبو بكر وعمر في الجزء الخاص بالسياسة وانتحال الشعر، وحكي كيف أن الجن قتلت سعد بن عباده بعد ان امتنع أن يصلي بصلاة المسلمين ويحج بحجهم، وقال أن الجن قتلته وقالت في ذلك شعرا. كان اهتمام طه حسين في هذه الرواية بإنتحال الشعر ونسبه الي الجن. لكنه بعد سنوات طويلة وفي كتاب الشيخان ينفي أن يكون سعد بن عباده لم يبايع أبو بكر وعمر، ويقول أنه بايعهما، وبالتالي ينفي قتل الجن له، وأن هذه من الروايات الموضوعة. غاية القول أن طه حسين لم يغفل ذلك متعمدا، ولكنه لم يكن ذلك هم بحثه الاساسي في الشعر الجاهلي، أما وأنه في كتاب "الشيخان" كان يدرس الروايات ويؤيد بعضها ويرفض بعضها فيما يتعلق بأبو بكر وعمر، فقد تعامل مع الرواية بشكل مختلف وكذلك كان يفعل مع خصوصية كتاب "علي هامش السيرة" القصصية فأنه كان تابع للروايات لأنه ينشأ فن يعتمد علي هذه الروايات حتي وأن لم يصدق بعضها. بل أنه زاد فيها من خياله ما شاء. أما أن نقول أنه أدخل الخيال والاسطوري ليشكك في هذه السيرة والروايات فهو أصلا يري أن بعضها خيالي وأنه ادخل الخيال هنا لان هذا من تراث القصص والقصاصين الذين اعتمدوا علي السيرة وليكمل النقص في بناء الصورة عن الحياة الجاهلية.