كتاب: نساء الكرنتينا المؤلف نائل الطوخى الناشر: ميريت الكتابة مغامرة، ولعل الرواية هي المغامرة السردية الأكثر رواجا منذ عقود في الذهنية الإبداعية العربية، هذه المغامرة واقفة منذ فترة طويلة عند نماذج لها جذور بأعمال سردية كبري، تبدأ بألف ليلة وليلة ولا تنتهي عند مئة عام من العزلة، وما بين سؤالي "القيمة" و"الانتشار" تصنف الأعمال الروائية، قليل من العناوين لاقت استحسانا عند النقاد والجماهير معا، لكنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة. في روايته الرابعة "نساء الكرنتينا" الصادرة عن دار ميريت للنشر، يتجاوز الصحفي والمترجم والروائي نائل الطوخي سؤالي القيمة والانتشار معا، مخليا بين قارئة ومغامرة من الفانتازيا واللعب عبر رحلة زمنية تبدأ الآن وتنتهي في المستقبل، نائل الطوخي الصحفي بأخبار الأدب، وصاحب مدونة "هكذا تحدث كوهين" والذي أكد من قبل علي التساؤلات التي تحمل مواقف سياسية وأيديولوجية حول الترجمة من العبرية أن "الموضوع ببساطة، أنني أقرأ الأدب العبري لأنني مهتم بأن أعرفه، وأترجمه لأنني مهتم بأن يعرفه الآخرون، وأنا أعرفه لأنني درسته"، أما في الكتابة الإبداعية ف"نساء الكرنتينا" هي روايته الرابعة بعد "ليلي أنطون" و"بابل مفتاح العالم" و "الألفين وستة"، يبدو أن نائل خلص أخيرا إلي تقنياته السردية الخاصة، يتمثل موروثا معرفيا شعبيا وبصريا عادة ما تنسفه الأعمال الروائية تحت قصف مدفعية المقروء وحده، ولأن الكتابة الروائية مغامرة فريدة، فقد وهب نفسه لروح التجريب متجاوزا حدود المتوقع والمألوف السردي، إلي اللامعقول والخيالي رغم أن عناصره تمت إلي الواقع "دون فلترة". عنوان الرواية مفتاحها، فالكرنتينا اسم منطقة كانت موجودة بالفعل في مدينة الإسكندرية، والنساء هنا من سيحكمن مستقبل الإسكندرية بالمخدرات والدعارة ضاربين بعرض الحائط القوانين والأعراف. في الرواية البالغة 364 صفحة، تتعاقب الأجيال حتي النصف الثاني من القرن الواحد والعشرين، وتنشئ ملحمتها الخاصة علي مدار ثلاثة فصول في مدينة الكرتينا وشبيهتها ومنافستها "الكربنتينا" وما بين المدينتين من تنافس وضغائن وحروب كذلك. تبدأ الرواية في فصلها الأول بقصة "علي" ابن منطقة عين شمس الشعبية و"إنجي" ابنة مدينة نصر التي تربت في الإمارات، السخرية من اسمين يحتلان موقعا مميزا في الوجدان الجمعي للسخرية المصرية، فالاسمان لبطلي فيلم "رد قلبي" الشهير والبوق الدعائي لثورة يوليو 52 والذي سخر منهما الوجدان الشعبي "إذا كان حب إنجي هاينسيك مصر، ف...أم إنجي علي...أم مصر"، من هذا المنطلق يمكن فهم بنية الحكاية في هذا العمل؛ بهذه القدرة علي الإمساك بالوعين الرسمي والشعبوي: الرسمي من خلال تفكيكه، والشعبوي من خلال استخدامه وإدماجه، ومثلما سخرت المخيلة المصرية غير الرسمية من كل الكليشيهات الفنية والسياسية، يستلهم الطوخي هذه المخيلة ويبني عليها في حكاية الثنائي (علي وإنجي) والثأر الذي اضطرهما للهروب من القاهرة إلي الإسكندرية حيث المدينة في صورتها الروائية مستسلمة تماما لكليشيهات المثقفين، مثل "رائحة البحر" "وإسكندرية الشتاء" وغيرها من الجمل التي نالت نصيبها من السخرية. ملحمية الرواية وتعاقب أجيالها آتٍ من موروث درامي كبير من مسلسلات أسامة أنور عكاشة، بدءا من ليالي الحلمية (مسلسل الأجيال الملحمي الكبير) والذي يبدو تأثر الطوخي به بالغا، ثم تفاصيل هذه الأعمال والتي يعرفها جيدا من كبر وعيه علي مسلسلات "الراية البيضاء" و"الشهد والدموع" وغيرها، قدرة الطوخي علي تحويل هذا الموروث إلي عناصر داخل بنيته السردية من خصائص روايته. استشراف المستقبل في الكارنتينا، علي يد "حمادة" ابن علي وإنجي ذلك "الكائن" اللزج الهلامي الخرافي، سيد مدينة الكارنتينا بحكم بنوته لمؤسسيها، مدينة في قلبها تمثال الفرخة الذي أسسه أبوه علي " هو دا التمثال، فرخة، فرخة باصة للسما، يعني باصة لبكرة، وراقدة علي بيضها، وعمود نور، عمود نور متعلقة فيه شمس كبيرة، والشمس دي هي الكرنتينا" هذا هو مستقبل الإسكندرية وفي القلب منها الكارنتينا وفي القلب منها تمثال الفرخة (الدجاجة) وعلي الصعيد العالمي، فالعالم يتجه إلي ثقب الأرض بدلا من التطلع للفضاء " وكان هذا هو الحدث الذي شغل بال العالم بأسره في تلك الحقبة من القرن الحادي والعشرين...استطاعت صرف أنظار العالم كله من فوق إلي أسفل" هكذا يطمح العالم الرأسمالي إلي امتصاص كل نجاح ممكن من كل مشروع جديد، إذا لا شيء سيتغير علي الصعيد العالمي..فانتازيا مستقبل ليست بكابوسية جورج أوريل في "1984" أو برادبري في رواية "فهرنهايت451" أو "آلة الزمن" لويلز، أو لعلها كابوسية التفاصيل شديدة الواقعية، سقف الحياة الذي لا يمكن اختراقه مهما بعدت المسافة الزمنية. نساء الكارنتينا، عمل ملحمي بمذاق مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات، تحاول استشراف المستقبل بفانتازية البارودي بلا أبطال أسطوريين أو كابوسية، ليس ثمة مركز جمالي ترتكز عليه الرواية ولا مركز سردي غير الحكاية نفسها، ودون اكتراث حقيقي بما ينتظر البشرية.