وتوجَّه سهام النقد دائمًا لكتابات المؤرخ الشاهد لا سيما انحيازاته مع أو ضد معاصريه. وهو ما نجده في كتابات الجبرتي ونقده الحاد لمعاصريه وزملائه من شيوخ الأزهر، حتي يظهر الجبرتي كأنه الملاك بينهم أشهد أني لم أرتبط بكاتب في حياتي مثلما ارتبطت بهيكل. كنت أستيقظ صباح يوم الجمعة علي صوت بائع الجرائد مناديًا "أهرام هيكل"، ولمن لا يعرف تفسير ذلك النداء، فيوم الجمعة هو الموعد مع المقالة الشهيرة لهيكل (بصراحة). هذه المقالة التي ينتظرها المصريون ليعلموا من خلالها مجريات الأمور. ولطالما سعدت بعد الغذاء بالنقاشات المثيرة بين جدي ووالدي حول هذه المقالة وحول ما بين سطورها. هكذا صنع هيكل نفسه أو صنعه المصريون مؤرخًا شاهدًا علي عصره! تذكرت حكايات الطفولة وأنا أسمع من "يونان لبيب رزق" عن تردد هيكل إزاء زيارة الجمعية التاريخية وإلقاء محاضرة بها، ولقاء المؤرخين المصريين. وعندما سألت يونان بفضول شديد عن السر وراء هذا التردد، أجاب قائلاً: "بيني وبينك هو لا يريد أن يقع تحت مقصلة المؤرخين وأسئلتهم الأكاديمية البايخة، هيكل له فضاؤه الخاص". وبالفعل أدركت الموقف وأخذت في التفكير كيف أُصَنِّف هيكل وأعماله؟ وهكذا وقع هيكل تحت مقصلة المؤرخين وأسئلتهم البايخة! لا أدري لماذا ربطت بين عبد الرحمن الجبرتي وهيكل! كلٌ منهما شارك في الأحداث وكتب شهادة عن عصره، أو في الحقيقة "سيناريو" مقترح عن عصره. كنا معشر المؤرخين نبجل الجبرتي وكتاباته ونعتبرها المصدر الرئيسي وأحيانًا الوحيد لعصره. ولكن مع حركة البحث والتأليف والعثور علي مصادر أخري جديدة، اكتشفنا أن الجبرتي ليس في النهاية إلا شهادة من وجهة نظره علي عصره، كما رصدنا انعكاس تحيزاته وطبيعة شخصيته المحافظة علي تناوله للأحداث. وأصبحنا الآن نميل إلي النظر إلي الجبرتي علي أنه المؤرخ "الشاهد" علي الحدث بكل ما تحمله الشهادة علي التاريخ من وجهة نظر، بل وتورط أحيانًا في صناعة الحدث. ومن ذكاء هيكل أنه لم يدعي قط أنه مؤرخ، أو أن ما يكتبه هو التاريخ بعينه. بل علي العكس كان هيكل حريصا دائمًا علي نفي صفة المؤرخ عن نفسه، والتاريخ عن كتاباته، وحتي الموضوعية والحيدة المزعومة عن أسلوبه. وقد أوحي إليَّ هيكل بنفسه بالتصنيف الذي عَنوَّنْت به المقالة "المؤرخ الشاهد" في مقابل "المؤرخ الباحث". إذ يقول هيكل في مقدمة كتابه "حرب الثلاثين عامًا": "لعلي لمجرد التذكرة أعيد بعض ما سبق أن أشرت إليه في أعمالٍ سابقة.. وهو أني لا أكتب التاريخ ولا أحاول ذلك، وأسبابي عديدة، فالتاريخ ليس اختصاصي، ثم إن التاريخ تصعب كتابته في زمن وقوعه، ثم إنه لا يُكتب ممن عاشوا أو شاركوا في وقائعه". ومع ما في مقولة هيكل من مصداقية، لكنها تحتوي أيضًا علي قدر كبير من الذكاء والمكر. ففي إطار هذه المظلة أعطي هيكل لنفسه مساحة كبيرة من الحرية في إعادة صياغة الأحداث وفقًا لنظرته، وأيضًا التخلص من الأكاديمية و"أسئلة المؤرخين البايخة". وستساعد لغته الصحفية السلسة وملكة الحكي لديه علي وقوع القارئ في غرام كتاباته وابتعاد القارئ عن الكتابات التاريخية الأكاديمية ذات القوالب الجامدة. ومثلما كان قرب الجبرتي من صناعة الأحداث عاملاً هامًا في بريق أعماله، كان هيكل أكثر تميزًا في هذا الشأن: "كنت قريبًا من عبد الناصر فترة معارك 56 و67، ومن أنور السادات فترة 73، وكنت قريبًا إلي درجة اعتبرت نفسي معها شاهدًا". هكذا نحت هيكل لنفسه لقب "المؤرخ الشاهد" علي غرار جده الأكبر الجبرتي. فمن يتابع كتابات الجبرتي في الفترة السابقة علي عصره سيجدها كتابات "نقل وليس عقل". بينما يُبدع الجبرتي في تصوير أحداث عصره، لا سيما وأنه يضفي عليها من عندياته ما يجعلها بحق "سيناريو" قريبا للحدث، لكنه سيناريو مشوِّق ممزوج بنكهة "جبرتية". هكذا هيكل إلي حد كبير، هو يقدم صورة للحدث أو سيناريو مشوِّقا ممزوجا بنكهة "هيكلية". يقول هيكل في مقدمته لكتابه الأخير "مبارك وزمانه": "هذه الصفحات ليست قصة حاكم أو تاريخًا لحكمه يكتبها قلم، ولكنها صورة لرجل وعصر ترسمها الوقائع بفرشاة الرسم خطًا وظلاً ومساحات فراغ". هكذا نجد روح وعقل هيكل، وحتي اهتماماته الفنية تنعكس علي شهادته التاريخية! وتوجَّه سهام النقد دائمًا لكتابات المؤرخ الشاهد لا سيما انحيازاته مع أو ضد معاصريه. وهو ما نجده في كتابات الجبرتي ونقده الحاد لمعاصريه وزملائه من شيوخ الأزهر، حتي يظهر الجبرتي كأنه الملاك بينهم. بل وينقد الجبرتي حتي صديقه المقرب إسماعيل الخشاب ويذكر بعض عوراته، ذاكرًا قبح وجه امرأته، موحيًا بذلك إلي حقيقة أخري وهي ولع الخشاب بالغلمان. ويقع هيكل في نفس الفخ، ولنتذكر كتابه الشهير "خريف الغضب" وتركيزه علي الأصول الزنجية لجدة السادات "ست البرين" وتأثير عقدة اللون علي السادات وشخصيته بعد ذلك. لكن المؤرخ الشاهد لا يستطيع أن يهرب من صداقاته أو عداواته أثناء الكتابة، فلنتذكر الصداقة الوطيدة الصادقة بين هيكل والسادات ودور هيكل في 15 مايو لصالح السادات، ثم الفراق الكبير بينهما بعد ذلك. وإذا كان هيكل قد أشار إلي مسائل شخصية في خريف الغضب ضد السادات "ست البرين"، فإن السادات نفسه في سبتمبر 1981 وفي خطاب علني شهير اتهم هيكل بأنه يفطر في نهار رمضان جهارًا في جريدة الأهرام! هنا يكون السر وراء المؤرخ الشاهد وكتاباته، ورواجها وذيوع صيتها، هي فيها نضارة الأحداث، وأسرارها، فيها الجانب الإنساني أكثر وفيها من الشعر "أن أعذب الشعر أكذبه"! لكن ذلك لا ينفي عن كتابات هيكل أنها أصبحت بحق من أهم المصادر التاريخية في مصر المعاصرة، لكنها مثلها مثل بقية المصادر تحتاج إلي تحليل ونقد ومراجعة. رئيس قسم التاريخ كلية الآداب جامعة القاهرة