أن تكتب عن رجل مجرب وشاعر شديدةٌ مباشرته في نقد التردي السياسي والثقافي والاجتماعي، مباشر وحاد كالحلفاء الجنوبية، في نسيج فني سلس وعميق وذي أهداف إصلاحية بعيدة، لا تفسده المباشرة ولا يقلل من قيمته إقبال العاديين عليه وترديده، بل علي العكس، يشير ذلك، بقوة، إلي كونه نافذا إلي المصريين في جملتهم الكبري وسوادهم الأعظم، وهو ابن الشمال ( ينتمي إلي محافظة الشرقية ) الذي لا يمكن الارتياح، في آخر الأمر، سوي لمصريته الخالصة الصافية، دون أن يطمئن المتصدون لتأريخ سيرته، لنسبته إلي منطقة معينة من الوطن، صادف أنه أحد أبنائها النجباء! تعبير " الأشياء الكثيرة " هو مفتاح هذا العم المخضرم : عاني كثيرا في طفولته وصباه ( تربي في الملجأ وكان معه عبد الحليم حافظ رفيق عنابر البؤس آنذاك )، وأحب كثيرا، وتزوج كثيرا، وسافر كثيرا، وتم اعتقاله كثيرا، وعرف كثيرين متنوعين، وخاصم كثيرين، وسب كثيرين، ورضي عن كثيرين أيضا، إلي ما تشاؤون من الكثرة! عمنا " أحمد فؤاد نجم " كثير بكل معني الكلمة، ليست كثرة سواه ككثرته، مهما بدا الآخرون يشبهونه في كثرة ما أحاط بهم! علي المستوي الشخصي، لم أجالسه قط، علي الرغم من صداقته لمجموعة ثقافية وفنية قريبة مني ومنه أحبها كل الحب وأقدر جهدها الفذ تقديرا خاصا هائلا، كالشاعر الرائع إبراهيم داوود والناشر المهم محمد هاشم والفنان الكبير محمد منير... يكون أحيانا ساهرا في " دار ميريت " وبالصدفة أكون في القاهرة علي بعد خطوات منه في كافيتيريا الجريون، لكن أعرف في اليوم التالي، أو بعد عودتي إلي " قنا "، أن فرصة أو فرصتين للقائه ضاعا مني! في الحقيقة لست حريصا علي لقاء الأسماء التي لمعت في سماء الوطن لمعانا سرمديا، حتي صارت جزءا من ضياءات لياليه، ويكفيني تماما أن أضع يدي علي بعض المساحات التي خلقتها تلك الأسماء من ضياءات عبقرية، المساحات الأهم، من خلال قراءة لا تتوقف وتأمل لا ينقطع، مهما قالت الأجيال التي تلت أصحاب تلك الأسماء : انطفأ فلان أو بردت نار الذي اسمه كذا...، لا أري في عدم حرصي علي الاحتكاك المباشر بتلك الأسماء، ترفعا عن مقابلتها أو شبهة في مصداقية الاعتراف بحجمها وأهميتها، حاشاي، لكن فقط أتجنب " الدوشة " التي تحيط بهالات المشاهير، وأكثرها زيفا وكذب مما لا أحتمله! حالة " نجم " بالذات حالة تختلف عن المشاهير الذين لا يحبون أن يراهم الناس ؛ فهو المتاح لمن أراد رؤيته ومحادثته، وهو ابن الحياة المصرية البسيطة في الصميم، وليس أدل علي ذلك من حرصه علي المظهر الشعبي الواضح : الجلباب ( مع إهمال توضيب مشهده في كثير من الأحايين )، حتي لو كان مستضافا في أكبر فضائية علي الإطلاق، كما أنك تلمحه، ولا تلمح غيره ممن مقامهم كمقامه، في شوارع الوطن وميادينه، كتفه بلصق أكتاف الجميع، مناديا بالحرية ومنددا بالجلادين! في حالة " نجم "، وكلامه العفوي الجرئ لمن يتهافتون علي إجراء مقابلات معه، تمسك مصارين الوطن، وفي حالات غيره، مهما ادعوا فهمهم لمصر وناسها وتعمدوا الحديث بلهجاتهم الإقليمية الصارخة، قد لا تصل إلي نصف هذا البعد الشاسع الشاسع! فنيا، كما سبق وألمعت، نحن أمام شاعر لا يكاد يكلفك جهدا في العثور علي معانيه والوصول إلي مقاصده، لكنه لم يكن مجانيا قط، ففي الآخر هو الذي بدأ شعره بديوان عن الكرة كرة القدم ( اللعبة الشعبية الأقرب لوجدان العالم والمصريين طبعا ) كمن يبشر بانحيازه التام إلي العدد الأكبر، وهو من انتهي، في استمراره اللافت أيضا، بلعن النظامين البائسين : مبارك والإخوان ( مرورا بما يمكن تسميته بالنضال الشعري العظيم لخلق حياة وطنية سليمة مرجوة يتساوي في ظل عدلها الناس وهي نفسها، باختصار، مطالب الثورات في كل الأحوال )! التخلص من الفقر والقهر قضيتان كبريان شغلتا مساحة كبري في شعر عمنا المناضل، لا يتفلسف بشأنهما أبدا، بل تخرج سطوره كطلقات رصاص، في صدور المتسببين في بؤسنا الوطني، لكن تلك السطور لا ينقصها أبدا، جملة هائلة من الصور الشعرية الطازجة البديعة التي حفرت لاسمه مكانة معتبرة في التطورات الفنية لحلقة شعر العامية المصرية، مع السابقين في مضماره واللاحقين! "............... وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات وكل يوم بحبك أكتر من اللي فات ............... " هذا المقطع من قصيدة شهيرة له، أهداها للصديقة الفنانة " عزة بلبع " أيام كانا متزوجين، وكان هو يقضي صيفه أو شتاءه، في أحد معتقلات إحدي مراحل الحكم المصري الظالم! في هذا الشعر الجميل القوي جم الإيقاع يبدو " نجم " عاشقا صوفيا بامتياز، يصر علي المحبة مهما كانت التحديات / الممنوعات، المرأة الحبيبة والوطن يتماهيان في الشعر، عزة هي مصر ومصر هي عزة بمعني ما ( الرمزية تغلف القصيدة كلها )، وذات الشاعر هي المجموع العام الواعي النبيه الذي لا يبالي بمن يقمعونه، ويمعن في الولاء العاطفي لمشهدية البلاد المأزومة ( باحثا عن حل نهائي أو مخرج، ولو مؤقتا، يواصل بعده كفاحه في سبيل ما يتغياه وينشده )! " نجم " الذي وصفه المقربون منه بالصعلوك، أكثر من أن يكون صعلوكا، وأكثر من أن يكون دون الصعاليك (كثير جدا هذا العم، كما أشرت، وليس قليلا من أية زاوية ) ؛ إنه المريض المصري الأشهر بمحبة هذه البلاد، كثر ما أراه في التليفزيون ( وربما كنت إلي جواره علي الأرض لو كنت في القاهرة )، واقفا في مظاهرة لأجل الإفراج عن أحد المعتقلين أو رفع أجور العمال أو تغيير أحد القوانين الجائرة أو ما شابه، فأراقب أنفاسه، وقد كبر في السن، مراقبة طفل لأنفاس أبيه العجوز! إنني لا أقيِّم شاعر مصر العظيم وحارسها النبيل تقييما من أي نوع، لكن أمرُّ، فيما تسعفني الذاكرة، علي محطات لعلها تفتح أبوابا للأجيال الجديدة ( لا سيما الألمعيون في هذه الأجيال )، علي بحره الزاخر، فتمتاح هذه الأجيال منه قدر ما تستطيع، وفاء للطريق وانتماء للطريقة بغير تأثر ذميم ولا سقوط في شرك التقليد البائس! عمنا، بالمناسبة، يؤمن بالأصوات الصاعدة كما يبجل الراسخين في الشعر، وهي إحدي ميزاته، التي لا تتوفر عند كل شيخ مهيب كامل التحقق في علم من العلوم! قصائد " نجم " أقرب ما تكون لمنشورات سياسية سرية، لها خطورتها علي ما تسميه الأنظمة الأمنية القمعية، بالأمن العام. القصيدة مظاهرة حاشدة ضد الفساد والاستبداد... ضد الطغيان، عموما، مهما كان شكله ومضمونه ومرجعيته. قلة استشهادي بشعر عمنا، لا ترجع إلي قلة حفظي لأطاريحه المدمدمة علي البغاة، بل أحفظ جل ما خطه بيديه، من القصائد ومن الأغاني المميزة المنقوشة علي جدران القلب كعلامات حنين لا تنطمس، مع كبار الفنانين والملحنين، لكنني أنظر، مدققا، للكيان الإنساني الذي هو مصدر كل ذلك الإبداع الفياض الزاهي، الكيان الإنساني الكثير الكثير! في مصر، مصر التي أحبَّها عمنا بكل كيانه ودافع عن رفعتها ودفع الثمن كأجلي ما يكون المرء دافعا للثمن ؛ لا نحتفي بعُمَد منادرنا الأكابر الحقيقيين العارفين بأصول الأمور وفروعها، احتفاء واجبا إلا حينما يغادرون الحياة، وبعض أسباب سعادتي، الآن، أنني أشارك كشاعر وكاتب وكمواطن مصري ضمن المجموع العريض من المواطنين الذين انتفعوا بالإبداع وغنيت أرواحهم أيضا، في الاحتفاء باسم جليل جميل من أسماء هؤلاء الملهمين المتربعين علي قمم الدنيا بالصدق والحق، اسم لمعت حروفه، تلقائيا، في تراصها الحميمي كصخور مقدسة، بالضبط كما لمعت فيوض معانيه في سماوات مصر العاليات، وعلي صفحة نيلها وجدران أهرامها، وخشب مسارحها، ورفوف مكتباتها، وبيوتها ومطاعمها وأنديتها ومقاهيها وباراتها وحاراتها جميعا ؛ " نجم "!