هذا المكان مناسب للكتابة عنك يا هاني. Mauerpark. حديقة الجدار، جدار برلين الذي كان. في الخلفية استاد متوسط الحجم كان سيعجبك وأنت العاشق للكرة. هتافات الجمهور تتصاعد وتعلو، ومعها قرع الطبول والتصفيق والغناء. كان ذلك سيذكرك بمباراة كرة القدم التي شهدتها في استاد بشرق ألمانيا، وعدت منها فرِحاً كطفل حصل أخيراً علي الهدية التي كان يتمناها منذ فترة. في أنحاء الحديقة الواسعة تتناثر الفرق الموسيقية الهاوية التي تعزف لجمهور شاب. الموسيقي متنوعة، كنتَ ستجد فيها ما يعجبك. روك. تكنو. جاز. إيقاعات راقصة شبابية. الساكسفون يبدع هناك. شاب وشابة يرقصان ويبهران المتفرجين بليونة جسديهما. أمام المدرج الحجري الصغير يغني أحدهم بصوت أجش أغنية »ماكي ميسر« من أوبرا »القروش الثلاثة« لبريشت. كنت سأحكي لك عن افتتاني بهذه الأوبرا، وبأغاني بريشت فيها، وبألحان كورت فايل البسيطة والمؤثرة. وبعد عودتنا إلي المنزل كنت سأُسمعك أغاني الأوبرا علي سي دي. كانت ستعجبك، أنا متأكد، رغم اللغة التي ظلت غريبة عليك. هذا البارك برليني بامتياز. ليس حديقة فرنسية منمقة ومهندسة، بل فضاء أخضر في المدينة التي كانت مقسمة. بجوار السور، الذي هُِدم ولم يتبق منه سوي أطلال، كان هذا المرج الأخضر يمثل حافة برلينالغربية. الحافة الآن في قلب المدينة. في الأيام التي تُنعم فيها الشمس علي البرلينيين بطقس جميل تتجلي روح برلين في هذه الحديقة. روح برلين التي أحببتها يا هاني. تغدو الحديقة ساحة مفتوحة تغص بالشباب من مختلف الجنسيات، وكلٌ يفعل ما يحلو له. البنات هنا في أجمل صورة. ملابس قصيرة مبهجة علي أجساد رشيقة. كنت سأسمع تعليقاتك الذكية والمرحة علي ما تراه في هذه الحديقة. العروض الموسيقية والفنية المتنوعة كانت ستجذبك، أنا متأكد. هذا البارك يشبهك هاني. بانفتاحه وسعة صدره وشبابه. لم تتح لي الفرصة لكي آخذك إليه، فأنت لم تقض في برلين سوي أربعة أسابيع قصيرة. كان وقتك موزعاً خلالها بين العمل والأصدقاء الكثيرين. كنت أستغرب أنك تعرف كل هؤلاء. متي تعرفت عليهم وكيف؟ بعضهم تعرفه من مصر، والبعض الآخر من بيروت ولكن كيف جمعت بينهم في برلين؟ ثم أصدقاء العمل الجدد. كانت موهبتك فريدة في عقد صداقات متينة لا تعبأ بمرور السنين. كان لحي كرويتسبرج مكانة خاصة في قلبك. أحببتَ هذا الحي الذي يعج بالكتاب والفنانين والهامشيين، كما يكتظ بالأتراك والعرب. كرويتسبرج هو أيضاً حي الأصدقاء وملتقاهم، هيثم الورداني، كافكا (أحمد فاروق) وإيمان مرسال خلال إقامتها البرلينية. رغم ذلك كنت تبتهج عندما آخذك في جولة إلي مناطق أخري في برلين، علي ضفاف نهر الشبراي مثلاً، في قلب برلين التاريخية. ذات يوم، وهو نفس يوم رجوعنا من براج، التقيت في »ألكسندر بلاتس« فادي العبد الله القادم من لاهاي. اقترحتَ أنتَ بالطبع الذهاب مباشرة إلي كرويتسبرج، أنا احتججت قائلاً: برلين ليست كرويتسبرج يا هاني. ابتسمتَ وقلت: صحيح. تمشينا في جزيرة المتاحف حيث راح الصديق اللبناني يشرح ما تحويه هذه الجزيرة من كنوز. وهكذا تواعدتما في اليوم التالي لتذهبا إلي متحف كبرجامونز لكي تتفرج علي بوابة عشتار البابلية وآثار الإغريق. في اليوم التالي اتصلت بي وقلت لي بحماسة: كمتحف عظيم، كنت سأحزن إذا غادرت برلين دون زيارته.ز لم يتسع وقتك لزيارة المتحف المصري والتفرج علي رأس نفرتيني، وأعتقد أنها لم تكن تهمك علي كل حال. أنت تغلبت منذ سنوات طويلة علي العصبية المصرية الضيقة. وأعتقد أنك لم تثق في قدراتك، ولم نتعرف نحن إلي إمكاناتك الكامنة، إلا بعد أن اتسعت دائرة كتاباتك، وبعد أن اكتشفك اللبنانيون، أو علي نحو أدق: بعد أن اكتشفك حسن داوود. في تلك الأمسية كان الجو صيفياً جميلاً. أمام متحف »بوده« شهدنا طرفاً من حفل للموسيقي الكلاسيكية في الهواء الطلق. انبهرتَ. وبعد خطوات وجدنا مقهي علي النهر تنطلق من مكبرات صوته موسيقي التانجو. كان الصديق يحدثنا عن عمله في المحكمة الدولية، وفجأة قطع كلامه وورأيناه يراقص برلينية رشيقة. رحتَ أنتَ تلتقط الصور متحمساً، ومبتهجاً بهذه الأجواء، ومعجباً بمهارة الصديق في الرقص. ووضعتَ الصور علي الفور علي الفيسبوك. في يوم الثلاثاء، 30 يوليو، كنا في كرويتسبرج أيضاً. بدونك. بعد أن عدتَ إلي القاهرة. إيمان مرسال كانت قد جاءت من القاهرة بعد أن التقتك، وكانت تستعد للسفر في الغد إلي كندا. ثم جاء هيثم الورداني. وقبل أن يجلس رنّ هاتفه. تجهم وجه هيثم، ولما عرفنا الخبر أصابنا الوجوم جميعاً. بعد برهة انطلقت إيمان تسب وتلعن الدنيا والحياة. وفجأة انخرطت في البكاء والنحيب: كها يطلع الخبر صحيح، زي كل مرة، ها يطلع الخبر صحيحز. وتذكرنا وائل رجب وأسامة الدناصوري اللذين غدر بهما الموت أيضا في عز الشباب. راح كل منا يبكي في صمت. كنا ننتظر، مثلما قال حسن داوود لاحقاً، أن يكذّب أحد الخبر، أن يقول: كانت أزمة صحية وعدت، مزحة سخيفة منك يا هاني، أنك لم تستسلم وطلّعت لسانك للموت. ولكن »لم يكذب لنا أحد الخبر«. أتجول في برلين مرتدياً قميصاً أحمر كان سينال إعجابك، وما زلت عاجزاً عن الفهم يا هاني. ابن حياة أنت. ابن حياة صاخبة ضاجة. كنت تعب الحياة عباً. بنهم. ورغم ذلك كان إيقاعك يسمح لك بالتمهل والتريث والتأمل. هكذا كنت في برلين. وهكذا عايشتك في براج. كنتَ في تلك المدينة التشيكية الساحرة تريد أن تثبّت اللحظة، وأن تقول مع فاوست للزمن: تريث قليلاً، فما أجملك! ليس هذا تشبيهاً ولا مجازاً. تشربت المدينة وأجواءها، استمتعت بمسرحها الأسود، وكنت تحتفي بفناني وموسيقيي الشوارع. رقصت فرحةً عندما عرفت أن فندقنا ليس إلا سفينة ترسو علي ضفاف نهر المولداو في قلب براغ. لم تكن تريد أن تنام لئلا يفوتك شيء. كنت تريد أن تصل الليل بالنهار، كل يوم، وكنتَ تريد أن تصور كل شيء، وأن تتصور في كل مكان. بجانب منزل كافكا، مع سلفادور دالي، إلي جوار مارلين مونرو، في الساحات، علي الجسور، أمام نهر المولداو. كنت تريد أخذ كل التذكارات معك، وتلح علي لإرسال الصور التي التقطتها لك لتضعها بسرعة علي صفحتك علي الفيسبوك. حضورك كان كاملا في برلين وبراج - والآن الغياب التام؟ بلا إنذار؟ كأنك كنت تعرف أنك في سباق رهيب مع الموت يا هاني. ورغم ذلك كنت ما أصعب استخدام فعل الماضي معك - تفعل كل شيء من أجل الوصول إلي حده الأقصي: في الكتابة، في السفر، في الصداقة. كنت سخياً ومبذراً في سخائك، مبذراً في طاقتك وحيويتك. حتي حياتك استهلكتها بسرعة قصوي. هل كانت بهجتك المنعشة وصداقاتك الكثيرة وانهماكك في الحياة يخفي جراحاً داخلية أودت بك في النهاية؟ أنظرُ إلي صورك، وما زلتُ أكذب الخبر. وأنا أتأمل صورك في برلين وبراج، تذكرت قصيدة »كلام ليوسف حلمي« لصلاح جاهين، ووجدتني أردد معه: موت مين ده يا هاني اللي يحوشك عني؟ تصبح علي خير.