كانت هزيمة 1967 فرصة سانحة لإعادة النظر في مجريات الحياة في مصر وكشف الخلل في المتغير السياسي والاجتماعي الذي أصاب المجتمع. ولقد رصد الأدب هذا الخلل وأبان عن أثر الهزيمة في النفوس، وصور حالة الاغتراب، وعنف الهزيمة وانكسار الحلم. وتحسس الأدب حالة المقاتل وهو يخوض حرباً مقدسة ويشعر بألم حقيقي وهو يقارن بين حياته في جبهة الحرب بعد الهزيمة، وما يراه في الحياة المدنية التي تتسم باللامبالاة، وبنظرة الادانة للمقاتل.. وهو في قرارة نفسه يشعر بالألم وهو يحاسب علي جريرة ارتكبها الكبار الذين فقدوا الرؤية السليمة. كان الجندي يشعر بالأسي وهو يري زيف الحياة المدنية، وتهالكها اليومي.. علي حين يعيش مكابدة يومية في جبهة القتال. ولعلنا نتذكر (ابراهيم) في رواية الحب تحت المطر، لنجيب محفوظ، وهو يعيش تجربة الموت لحظة بلحظة في جبهة القتال، ويعيش علي أمل - لا يموت - أن يرد اعتباره أمام ذاته، وأهله، ووطنه، وأن يلتئم ما انشطر فيه.. وفي الوقت الذي سادت فيه روح التشاؤم كان مقتنعاً بأن القتال الحقيقي - من أجل النصر علي العدو - آتٍ لا ريب فيه، وأن نسمة الحرية ستملأ الصدر وتدفع بالحياة العارمة. وفي الجانب الآخر صورت الرواية نماذج من الشباب الضائعين جنسيا، وسياسيا، واجتماعيا.. وكان يتعجب في دهشة واستنكار ويتساءل: كيف يأتي اليوم الذي نستعيد فيه الحلم في مجتمع شبابه ضائع ولا منتم!! وتنوعت وسائل التنبيه إلي هذا الخلل في مساحة ضيقة أحياناً، وفي جرأة متمردة أحياناً أخري.. ودخل السرد القصصي حلبة الإبداع وكشف في نصوصه عن العبث الذي استشري، والعدمية التي باتت تشكل النظرة، وحاول النص الأدبي إعادة صياغة الوعي في إطار من التصحيح الواجب لما كان سائداً من مقولات جاهزة تدل علي استسلام العقل وسكونه. كما باحت النصوص بلحظات انسانية، وكشفت عن مساحة النبل في الإنسان وهو يقبض علي روح المقاومة ورفض الهزيمة وكانت حرب الاستنزاف علامة علي أمة لا تفرط في كرامتها وترابها الوطني. في رواية (المحاصرون) لفؤاد حجازي.. تبدت الذات المصرية في بعديها القتالي والإنساني معاً، وهي تواجه عدوا شرساً يخاصم الإنسانية، وكذلك قدرة الذات علي الصمود، واحتواء الحصار بما يمثله من عذابات واختبارات للتحمل مع التمسك بقيم انسانية تتمثل في الرحمة واحترام الآخرين. وفي (متواليات وجه غير مرئي) لحسن البنداري، تجلي الصراع النفسي واضحاً والمحارب في إجازته القصيرة يري عالما غير العالم الذي يعيشه، حتي أن خطيبته راحت تراوغه، بل طالبته أن يتفارقا. فالحرب طالت.. وهو الجندي الذي لا يعرف متي يطلقه الجيش لتنعم به.. وعكست اللغة التعبيرية الشعور بالتمزق والغربة عن الأهل والأحبة (جعلوك جنديا ففرحت وتهللت، لكن.. ما لبث أن حكمك القهر والضياع، ليس للمدينة وجود في ذاكرة من يقطنون الصحراء المنسية.. يوم أن عدت من صحرائك العسكرية في أول اجازة.. بعد غياب.. أصابك الهم والكرب.. لم ترحب بك عيون ساكني المدينة، كأنك قادم من الفضاء، تملك وجها غير مألوف حتي الأصدقاء والأهل.. قد أنكرتك عيونهم). وكشفت بعض الأعمال الروائية مظاهر العنف السياسي المتمثل في الاعتقال والقهر البدني والنفسي، وسطوة أجهزة الأمن وتصوير المعتقلات وزيف الشعارات وتناقضها مع مجريات الواقع اليومي.. مثل رواية (الأسوار) لمحمد جبريل، والكرنك، لنجيب محفوظ، والحداد، ليوسف القعيد و»حكاية توتو« لفتحي غانم. وصورت (من أوراق محارب) لعصام الصاوي صمود مجموعة (بدر) في مواجهة الحصار الذي طال، وعجز العدو عن أسرهم. وجاءت اللغة مواكبة للحظات الحصار المادي والنفسي، ومحاولات إلا لحظة، لا أدعها تتملكني.. فإنه لو حدث فلابد أن أجن أو أمرض.. أجابهها.. وأضع طاقتي في عيني أو أذني أو لساني، أفعل ما يجب أن يكون، أتداخل فيهم.. نتماسك، لحظة إن مرت حصلنا علي نصر، وإن لم تمر فسوف نموت). ثم كانت حرب أكتوبر بمثابة بعث جديد لأمة لها حضارة ضاربة في التاريخ، وجاء انكسارها نكسة في مسارها التاريخي الممتد. ولاشك أن نصر أكتوبر أضاء النفق المظلم الذي كاد يئد الروح. ولعل الدرس الحقيقي من هذه الحرب يقول: إن الأمة تحقق هدفها إذا صدقت الجهود الوطنية وتناغمت الإرادات وتأكد الانتماء. لقد واكبت الحرب روح متوثبة، فانصهر الجميع وتعالي اللحن الوطني مشيداً بالحب وقوة المقاومة، والقدرة علي الفعل والتغيير.. وتعالت الأغاني وتصاعدت الألحان، ودارت عدسات التصوير المرئي تصور البطولات وتتحدث عن نماذج الفداء وقدمت السينما أعمالاً مهمة. وارتجت خشبة المسرح بصيحة النصر.. وانفعل الأدباء بالحدث العظيم.. وقدموا تجاربهم ورؤاهم حول تجربة الحرب سواء علي أرض المعركة، أو بعدها.. وازدهت الأعمال الابداعية بالنماذج البشرية المشرفة، والتضحيات الهائلة التي قدمها المقاتل المصري، فضلا عن اللحظات الإنسانية التي تكتنف ذلك كله.. وبدت المدافع في صورة الإبداع وهي تطلق داناتها كأنها أشعة مسنونة لانقاذ الفجر من عتمة الليل.. وجاء الحديث عن حرب الاستنزاف أيضا علامة علي أن مصر أمة لا تستسلم ولا تفرط في ترابها أو كرامتها.. إنه حديث موصول بلحظة النصر. يقول نجيب محفوظ عن روح أكتوبر التي تسربت إلي النفوس (.. روح مصر تجسدت في الجنود، بعد أن تجسدت في زعيمها واتخذ قراره، ووجه ضربته). ونحن لا ننسي - بكل الفخر - الجندي المصري وهو يعبر القناة، في قوة وبسالة، ويغرس علم بلده مصر مرفرفاً في الأعالي.. ولعل هذه اللحظة المشحونة بانفعال النصر كانت وراء قصيدة »صلاح عبدالصبور« وهو يخاطب المقاتل الذي رفع العلم شامخاً.. وقد أفسح قدميه الراكزتين في الرمال إشارة إلي تواصل الجذور والتاريخ. وثمة روايات صدرت بعد حرب 73 مباشرة، واكبت الحدث، وغلب عليها الحس الوطني العالي والمباشر، وأعلت من قيم التضحية والشهادة وشاع فيها الخطاب الحماسي ومباشرة الأداء. من هذه الروايات »أيام من أكتوبر« لاسماعيل ولي الدين، ديسمبر 73 وبطل الرواية مصاب بعاهة من أيام النكسة، ثم يحكي تجربة الحرب وما يحدث فيها. ورواية »المصير« لحسن محسب، 74 ويتخذ الكاتب من القرية رمزاً للوطن حيث يشارك أبناؤها في الحرب ويعبرون الهزيمة. أما رواية إحسان عبدالقدوس (الرصاصة لا تزال في جيبي) فالبطل يستدعي إلي الجيش ويشترك في صباح 6 أكتوبر في عملية فدائية، وكانت الرصاصة التي احتفظ بها سنين طويلة هي أول رصاصة تخرج من مدفعه تجاه دبابة اسرائيلية واقتحمها وقتل طاقمها، ثم يفاجأ بأن الحرب بدأت، والصواريخ تنطلق.. ومن بداية المعركة لاح النصر وهتف في نشوة بالوطن وأحس بالعزة وهو يعود إلي قريته مزهوا بالنصر الذي شارك فيه. ورواية (أشياء حقيقية) لفتحي سلامة (75) تعلي من قيمة الاستشهاد إذ (لا يتم انتصار ولا تحرير أرض بدونه) ويشير النص إلي أن الشهيد مواطن عادي، يحمل انتماءً حقيقياً للوطن، تطوع البطل في الجيش، وحارب هو وزملاؤه بشجاعة استحق عليها التقدير، لكنه يستشهد في الحرب.. ويعلو الجميع في هذه اللحظة ويرتفعون فوق الأحزان، تقول أم الشهيد وهم يعزونها في وفاة ولدها »أنا ربيته من اللحم الحي، لكن مش خسارة في مصر«.. ويؤكد النص الروائي علي أن الموت في سبيل الوطن هو قمة التضحية.. جملة شعرية .. يقول صلاح عبدالصبور في وصف الجندي الذي رفع العلم: (رأيتك قطعة من صخرة الأهرام منتزعة.. وقد وقفت علي قدمين.. لترفع في المدي علما) ويقول أحمد عبدالمعطي حجازي: كلما نقلوا في الطريق إليك قدم.. نسجوا فيك خيطا.. ومن كل قطرة دم.. رسموا فيك لونا.. ويبرز سؤال رصده النص القصصي.. ما الذي حصده الأبطال الذين أحرزوا النصر من قتالهم المرير.. في قصة (حامل الوسام) للأديب المقاتل عصام الصاوي.. كشفت اللغة القصصية عن الفخر بالذات وبما قدمه المقاتل في عملياته الحربية واستحق (الوسام).. نظير ما قدمه من تضحيات جسام في سبيل الوطن. في بهو العيادة العسكرية الطبية يرصد الكاتب الألم الذي يلوح علي الوجوه. التي يحتاج أصحابها إلي أجهزة تعويضية كالذراع أو الساق.. أطراف صناعية بديلة لأجزائهم العضوية التي فقدوها في حرب اكتوبر 1973.. يحدث نفسه فيقول: (كلنا نحس بأن إصاباتنا أوسمة نحملها.. نزهو بها) لكن الذين قبضوا علي وهج النصر بدمائهم أضحوا حياري أمام التغير الذي طال المجتمع. (انتشرت فروع كنتاكي في مدن كثيرة..) وإذا كان الانتماء للوطن مدفوع الثمن بالروح بات مهدداً فإن الهاجس الذي يتردد في النفوس هو.. ما ثمن الساق التي فقدها في الحرب.. هل هو سندوتش هامبورجر؟.. أو كنتاكي؟! ويستعيد المقاتل الموقف الذي فقد فيه ساقه »استطعت التقدم محققا كل المهام.. كنا نعيش لحظات انتصارنا.. فاجأتنا قذائف مدافعهم.. انهمرت دانات المدافع«.. وشظية كان مقدرا لها ان تمر واختارت ساقي اليسري..) وراح يتيه بهذه الساق الصناعية البديلة ويحس بزهو حقيقي وهو يحمل عليها حفيده الصغير ويحكي له.. (بطولاتنا التي أرسي غرسها فيه) وهي بداية صادقة لتكريس الانتماء. والنص الأدبي لوحة انسانية عامرة بالفخر والعزة وموحية بالحزن لما جري للوطن بعد النصر وما آلت إليه أحوال الوطن. وحرب اكتوبر تحتاج الي فن روائي مركب يسجل أمجادها ويحلل نتائجها ويرصد ملامح أبطالها، ولتحقيق ذلك يقتضي توفير المادة المسجلة، مع وضوح الرؤية وتجنب التوجهات السياسية المعاكسة..