د. ايمن تعيلب عند التأمل العميق نجد أن ثورة 25يناير تطرح أسئلة سياسية واجتماعية وثقافية جديدة تختلف اختلافاً جذرياً عن فكر معظم المثقفين المصريين الذين أسروا فكرهم علي الدوام داخل الاستقطابات الثقافية والسياسية الحادة ما بين النزعات: الدينية والقومية والليبرالية والماركسية والسلفية التي دأبت علي خلق وزرع التعارضات الثنائية الحادة بين المواطن والسلطة، والعامل ورب العمل ، ووسائل الإنتاج وقوي الإنتاج ، والمالك والمستأجر ، والدولة الدينية والدولة المدنية، صحيح أن هذه الثنائيات الفكرية والسياسية الحادة وما شابهها في الواقع السياسي العربي في مصر لازالت مقولات سياسية ومعرفية أساسية عند معظم المثقفين، مع تغيرات طفيفة في لهجة النضال والعنف والمقاومة والإرهاب التي برر بها المثقفون كثيرا من الخيانات والتراجعات والهزائم في مواقع السلطة ، لكن الشعب المصري العظيم في ثورة 25 يناير قد غير كل ذلك تغييرا معرفيا جذريا فنقل الفكر الثنائي الانفصالي الاستقطابي الحاد إلي فكر التحالف والتفاوض والشراكة لدي الشعب الذي كان أكثر وعيا ونبلا وإخلاصا من معظم المثقفين ، والدليل علي ذلك أن ثورة 25يناير قد فككت كثيرا من مفاهيم ماركسية مثلا من قبيل: أدوات الإنتاج وقوي الإنتاج ،وعلاقات الإنتاج بالمفهوم المادي التاريخي الجدلي، حيث لم تعد العلاقة التاريخية الجدلية محصورة فقط بين أدوات الإنتاج وبين قوي الإنتاج وعلاقات الإنتاج ،فقد تجاوز الواقع المادي التاريخي هذا التصور المعرفي الاستقطابي الاختزالي الفقير للواقع، فقد وعت ثورة 25يناير أن الصناعة الحديثة قد تجاوزت العصر الماركسي والليبرالي بكافة مدارسهم وتوجهاتهم، وباتت الصناعة الحديثة تنتج الأشخاص والإعلام والصور والقادة أكثر مما تنتج الثروات والموارد ، بدليل أن كثيراً من البلاد العربية تقف علي بحار ومحيطات البترول والموارد الطبيعية الخام ولكنهم لا يمتلكونها حقاً وصدقاً فيحولونها إلي حالة فكرية وسياسية حرة، ، فلم تتحول الموارد الطبيعية والثروات المادية بعد في هذه البلدان إلي حالة سياسية ثقافية اقتصادية واعية حرة ، بل صارت السيطرة الاقتصادية والسياسية علي البلاد المتخلفة علمياً وتكنولوجياً أشد وأنكي من ذي قبل بل أنكي من عصور الاستعمار الأجنبي العسكري الأولي ، لقد تحولت آليات القوة في العصر الحاضر من عالم المادة الغليظة) أو الهارد وير (إلي عالم القوة المعلوماتية الرمزية اللطيفة ) السوفت وير( فغلبت صرعة اللين ، صرعة الشدة ، واستجدت فضاءات اجتماعية سياسية ثقافية جديدة تغيرت فيها موازين الصراع والتصورات والرؤي، وأصبحنا أمام التعدد الثقافي في مواجهة التسلط الأيديولوجي الأحادي،وصلابة الهدف اليومي الواقعي أمام وهمية السرديات الوطنية والقومية الكبري،وسيولة الفضاء المعلوماتي اللين للسلطة الإمبراطورية،والتشظي الفردي الحسي البسيط أمام المركزية الحديدية أمام التماسك السياسي الشمولي،عالم جديد ومفردات اجتماعية وثقافية وسياسية جديدة:( فهو تحول عميق في الحقل السياسي،حيث أصبح الثقافي والفردي يجد مكانه داخل السياسي ، لقد أمكن للاقتصاد في القرن الماضي أن يصبح سياسة ، أما اليوم فإن الثقافي هو الذي يشق طريقه نحو السياسة ومن هنا فإن ميلاد حركات اجتماعية جديدة لا تسير في ز اتجاه التاريخ ز ولا تستهدف تحقيق معناه ، وإنما تحاول أن تعطي معني للحياة الشخصية للفرد ، فالفرد لا يدافع هنا عن نفسه كعامل أو منتج وإنما كإنسان له الحق في الصحة والثقافة ز عبد السلام بن عبد العالي ، ميتولوجيا الواقع ، مرجع سابق ، ص27 ذ 28) إن عجز المثقف في تفسير ثورة 25 يناير راجع إلي أسباب كثيرة من أهمها: أنها لم تنبع من تخشبات سياسية استقطابية حادة كما اعتاد المثقف أن يتصور ، ولكنها نبعت من ذاتها، من كينونتها الاجتماعية والثقافية والشعبية الفريدة الخاصة بها ، فقد رفعت شعار حرية ذ كرامة ذ عدالة اجتماعية دفاعا عن كرامة المواطن المصري وصحته وثقافته وهويته، وهي ثورة تتجاوز مجرد تحسين الأوضاع الاقتصادية للمصريين، لأنها تضع الثقافي والاجتماعي والقيمي قبل الاقتصادي والسياسي دون أن تتنكر لإصلاح سياسي علي حساب إصلاح اقتصادي ولا لإصلاح ثقافي علي حساب إصلاح اجتماعي إنساني بعيداً عن منطق الثنائيات الضدية الحادة، لقد فتتت الثورة المناطق الحدودية الصارمة بين التوجهات والتصورات والممارسات ، فلا ينفصل السياسي عن الثقافي ولا الثقافي عن التكنولوجي ، ولا التكنولوجي عن الحضاري ولا الشعبي عن الرسمي ، لقد أحلت الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة ، والثقافة الكوكبية في الثقافة المحلية وزوجت الثقافة بالاقتصاد بالسياسة بالتكنولوجيا في سياق تداولي معلوماتي واحد ، لقد أسست ثورة 25 يناير لعلم اجتماع ثقافي بيني جديد ، لايقف علي العناصر المعرفية والاجتماعية المستقلة المنعزلة بل علي الحدود المعرفية التشاركية الفاعلية حيث تتجاوز المفهوم الرأسمالي الإمبريالي لطبقة الصفوات الاقتصادية والسياسية المستغلة، والمفهوم الماركسي الشمولي المتراوح بين مفاهيم قوي الإنتاج ووسائله وعلاقاته، تجاوزت ثورة يناير كل هذه المفاهيم لتطرح مفاهيم العقل الشعبي الجمعي وما يختزنه من كرنفالات رمزية واجتماعية جمعية، تتجاوز الثنائيات الضدية الحدية بين ثقافة الجماعة وثقافة المؤسسة ، ثقافة الصفوة وثقافة الجماهير ، ثقافة الصورة وثقافة الواقع . ومن هنا نفسر لماذا لهث المشرع خلف الشارع،فسبق الشارع المشرع، إنها ثورة التعدد والانفتاح وانبعاث الروح والكرامة والهوية المصرية علي كافة المستويات والإمكانات والممكنات لبناء دولة مدنية حقيقية علي أعتاب القرن الواحد والعشرين، قوامها الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والتنكر للسرديات السياسية الاستقطابية الكبري القائمة علي وهمية الكلام الكبير ، وسردية الاحتواء القومي القمعي التجريدي ، وثنائيات الفكر السياسي والثقافي الاستقطابي القائم علي خلق الفراغات المعرفية غير المبررة، والصراعات التاريخية غير الممنطقة بين الدولة المدنية والدولة الدينية، والمسافات المتقطعة بين حدود العقل واللاعقل ، ومفارقات السياسي والثقافي ، والمحلي والعالمي ، والنخبوي والجماهيري ، والقائد السياسي الشخصاني والجماهير الذليلة المنقادة، لقد سبقت الثورة كل صور الإدراك الثقافي والسياسي والاجتماعي العقيم الذي أسسه النظام السابق الساقط واستخدمه في خلق الاحتقانات الثقافية والسياسية والدينية لغلق أفق الواقع والتاريخ والفعل والحقيقة ، والاستعاضة عن كل ذلك بتدبيرات كلامية وهمية لصنع واقع وهمي يكون بديلاً عن الواقع التاريخي المادي الفعلي تمهيداً لتفجير النسيج الاجتماعي للمجتمع المصري ، ولتفكيك الهوية المصرية عن أصولها المتعددة المفتوحة والمتغيرة. لقد انشغل السياسيون والمسؤولون بالتلوين السياسي والاقتصادي بعيداً عن التمكين الاجتماعي والثقافي ، وسياسة التلوين هي سياسة المسكنات الاجتماعية الوهمية التي لا تتيح الفرصة الحقيقية لتمكين قوي الشعب من بناء قاعدة اجتماعية ثقافية اقتصادية سياسية راسخة بعيداً عن اعتبار قوي الشعب مجرد أشياء وآلات للاستخدام السياسي واللعب الاستقطابي بوصفهم قوي مهملة غير رشيدة ولا مسؤولة ، ولعلنا لو تأملنا ما يحدث الآن في مصر بخصوص العراك ذ لا الحراك ذ الهائل حول شكل العقد الاجتماعي والسياسي والثقافي الجديد بعد الثورة ، يؤكد كلامنا السابق بأننا نعيش عراكاً لفظياً وقتالاً تعبيرياً وليس حراكاً تاريخياً ثورياً ، وكل ذلك جراء سد النظام السياسي السابق الفاسد لأفق الهوية المصرية وغياب الحلول الجذرية القائمة علي الرؤي والبرامج والممارسات الفعلية ، واستنفاد ما في الواقع من واقع ، واستبدال الحروب الكلامية للتغطية علي الحروب المادية الفعلية للواقع الحقيقي للناس ، وترتيب الأفكار والتصورات وفق أنماط تعبيرية عشوائية هلامية لا علاقة لها بالواقع ولا بالحقيقة ولا بالفعل، فالناس مختلفون لذات الاختلاف لا لهدف وطني مصيري يحتوي الجميع،يتقلبون من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار،يتلونون ويتحولون بأسرع من الحرباء، وكل ذلك يؤكد لنا إشكالية ثقافية مجتمعية شاملة وأساسية وهي تتبلور في أنهم مختلفون حول ذواتهم وليس حول أفكارهم وتصوراتهم وأهدافهم، لأنهم لم يجربوا في حياتهم عبر التاريخ السياسي الحديث اختلافاً ولا اتفاقاً حقيقيين، ولم يُدْعَوا يوماً للحوار السياسي الفعلي الحقيقي،ولا التمثيل النيابي الحركي العلمي حول أي قضية من قضايا الوطن مما يخص مصالحهم ومصالحه سواءً علي المستوي الداخلي أو الخارجي ، بل عاشوا معظم حياتهم في أوطانهم وفق آليات التطويع أو الترويع ، التهوين أو التهويل ، الخلاف لا الاختلاف ، الانصياع لا الاتفاق ، ولأجل ذلك ذ وحتي لا نجهض ثورتنا ذ علينا أن نتفق الآن حول ما لا نختلف عليه من قضايا مصيرية ، ونترك قليلاً ما نحن مختلفون حوله من قضايا أقل مصيرية حتي نخرج سالمين غانمين من محنة القهر الفكري السياسي والاجتماعي والديني المنظم الذي أغرقنا فيه النظام السابق ومازال يمارسها الناس بعضهم علي بعض في ظل تركة خراب بنيوي شامل ورثناها عن النظام السابق .وورثتها كل الطوائف السياسية والثقافية المتنازعة الآن في بنية إدراكها وثقافتها الاستقطابية المدمرة.