لا يملك كاتب في هذه الأيام أن يجلس في برجه العاجي، ويكتب أدباً خالصاً، أو رومانسياً ، بعيداً عما يجري في مصر الحبيبة هذه الأيام. ولفتح هذا الملف الذي فكرت كثيراً ألا أخوض فيه لعدم التدخل في مشاعر هذا الشعب الذي كثيراً ما أعتبر نفسي جزءا منه، وقلبي فيه علي مصر، وعلي أمنها القومي أولاً، فأقول: إن ثورة 25 يناير السابقة والمستمرة ليست نتاج أفكار أو فلسفات أو تحزبات فكرية أو دينية بقدر ما هي ثورة الجياع للحصول علي رغيف خبز نظيف، بما يعنيه ذلك من طعام وماء ونور وحاجيات استهلاكية يومية، وما يرتبط معها من عزة وكرامة إنسانية، وما ينتج عنها من حضارة تستحقها مصر أم الدنيا. ولقد ظَلَمَت الجهات الحاكمة اليوم (نفسها) بقبول الحكم، وتحمّل تبعات هذه الأحمال الثقيلة، التي تركها نظام الحكم المخلوع، إذ مات في طوابير أفران الخبز في تلك الأيام أربعة شهداء، وجفت عروق مواسير مياه الشرب في »مصر الجديدة« وغيرها من ربوع مصر في تلك الأيام، وتم الإعلان عن إقامة سد أثيوبيا العظيم في تلك الأيام، وتم تدمير الزراعة والصناعة والتجارة المصرية في تلك الأيام، فجاء الحكام الجدد ليحملوا أوزار هذه السنوات العجاف، الناتجة عن تصلب سابق في شرايين الحضارة المصرية التي كانت وكانت وكانت... إن الإدارة الديمقراطية أو غير الديمقراطية التي ينتهجها الحكام الحاليون لا تكفي، ولا تنفع، ولا تفعل فعلها، ما دامت البورصة الدولية المدارة من أعالي البحار بقوة زمن العولمة هي الخصم والحكم، وما دام البنك المركزي قد ورث ديوناً علي مصر التي نُهبت خوابيها، وتم تسفير خزائنها إلي الخارج، وما دام صندوق النقد الدولي قد تحول إلي صندوق النكد الدولي، وما دامت محطات التلفزة هي التي تدير رءوس الرأي العام، سواء بالحق أو بالباطل. بغضّ النظر عن كون الحاكم كفؤاً، أو غير كفؤ لإدارة البلاد، فإن إزاحته بالقوة ستكون سُنّة يتم تداولها سنة بعد سنة، ولن يكون هناك استقرار ولا زراعة ولا صناعة ولا تجارة في مصر. ما دامت الجماهير تطالب بانتخابات مبكرة، ماذا يحصل لو أن الجماعة الحالية نجحت في الانتخابات القادمة وعادت إلي الحكم، فهل ستقوم ثورات جديدة عليها ، وهكذا دواليك، فلا يكون أمامنا من عمل سوي الثورات المستمرة التي ستفتت مصر، وتذيب كيانها العظيم؟ الثورات عادة ما ترافقها »محاكم ثورية« فورية الحكم، تضع تحقيق الأمن أولا، ذلك الأمن المفقود نسبياً في مصر، والذي لا تحققه إجراءات روتينية تقليدية ديمقراطية أمام قطّاع الطرق، والخارجين علي القانون، الذين يعيثون فساداً اقتصادياً واجتماعياً في هذه المرحلة الانتقالية التي تعيشها مصر. كيف تنتعش السياحة التي تعيش جزئياً عليها مصر صاحبة ثلث آثار العالم، ما دام الأمن مفقوداً، وكيف يدخل السياح إلي فنادق خمس نجوم تُنهب مثل فندق سميراميس، وفنادق تغلق أبوابها الرئيسية أمام راجمي الحجارة ، مثل فندق شبرد، وغيرها ..وما دام الأمن مفقوداً فإن نهب آثار مصر لن يختلف (لا سمح الله) عن نهب آثار العراق أيام الاحتلال الأمريكي الغاشم . لا أريد وضع الحلول، ولست أعقل من مفكري مصر، الذين تعز عليهم قيمة مصر الوطن أولاً، فوق التحزبات والمعتقدات، التي وإن اختلفت، فلتبق مصر فوق الجميع، والكل يعرف أن أهل مصر أدري بشعابها...