قبل عشر سنوات سألت أحد زملائي الكُتاب السكندريين عن مستقبل النيل، فقال لي: (إن النيل هبة الله لمصر، ولا يمكن أن يتأثر عطاؤه، أويضعف تدفقه). كنت في مرحلة البحث والتقصي لكتابة رواية عن مستقبل العرب ومشاكل المياه فيها، وخاصة نيلها العظيم، فالتقطّتُ عبارة من كتاب (توماس بلفينش- عصر الأساطير) والذي يقول فيه: ولاذ النيل بأذيال الفرار، وخبأ رأسه في الصحراء. وإذ اعتاد أن يقذف بمياهه عن طريق سبعة مصبات، فلم يبق سوي سبعة مجار جافة.س خِفْتُ كثيراً يومها، فتخيلت كيف ستكون الإسكندرية عام ألفين وخمسين، فكتبت إن أحد زوارها يسأل امرأة آلية تقود سيارته الطائرة بالطاقة الشمسية بقوله: »كنت أعرف هنا ترعة اسمها ترعة المحمودية، فأين نحن منها الآن؟« فتجيبه المرأة الآلية:» ترعة المحمودية؟ لا أعرف شيئاً بهذا الاسم يا سيدي! دعني أراجع لك وثائقي.« تفكر السائقة الآلية ملياً، ثم تقول: » كانت هنا ترعة اسمها ترعة المحمودية، ففي ثمانية مايومن عام ألف وثمانمائة وسبعة، أمر محمد علي بحفر ترعة، لتوصل مياه النيل إلي الإسكندرية، ولتكون ممراً مائياً للمراكب التجارية. وكان علي مواطني كل إقليم تمر به الترعة، حصة أرض ليحفروها مجاناً، وصدر الأمر للمواطنين بالعمل بالفؤوس والمقاطف، وكانت جوقة موسيقية تسير مع كاشف كل منطقة، بالطبل والمزمار. سميت ترعة المحمودية ومدينتها، باسم السلطان العثماني محمود خان، سلطان الآستانة، لأن مصر آنذاك، كانت ولاية عثمانية، ثم قسّم الاستعمار الوطن العربي، فتاهت مصر كغيرها من الأقطار العربية، والآن في هذا العام ألفين وخمسين، عادت لتكون زعيمة لاتحاد الولايات العربية.س تضحك المرأة الآلية وهي تعلِّق: كانت مناظر ريفية خضراء وجميلة، أليست كذلك يا سيدي؟ ليتني كنت أعيش في تلك الأيام كي أري تلك الجوقة الموسيقية وهي تسير الهويني علي حافة ترعة المحمودية! . تلاحظ أن سائقة السيارة الطائرة بالطاقة الشمسية عام ألفين وخمسين، تتحدث بلغة عربية فصيحة قائلة:س ولكن الصراع في أعالي النيل علي استخدام مياه الزراعة من قبل مزارعي العولمة، امتص المياه، ولم يبق منه سوي معالم باهتة، فتم استبدال ترعة المحمودية بأنبوب مائي ممتد من سد البحيرة، الذي أنشأوه حديثاً في منطقة القناطر القاهرية فوق تفرُّع ذيلي نهر النيل الضحلين، ليحجز المياه العذبة عن فم البحر، الذي كان دافقاً علي الدلتا أيام زمان، فلم يبق منه سوي ما قُسِم لنا، وتم ردم الترعة، وتسويتها بالأرض، وتعبيد شارع عريض فوقها، يصل الإسكندرية بالقاهرة. وكأن شيئاً لم يكن، إذ وصل شح في المياه إلي درجة الرعب! . لم تأخذ هذه الرواية (الإسكندرية ألفين وخمسين) حقها في العرض والنقد والتحليل، والاستفادة من تصوراتها المستقبلية، رغم كتابتها قبل عشر سنوات، وصدور طبعتها الثانية عن روايات الهلال في شهر إبريل الماضي، وهي تصور التعامل مع المياه مستقبلاً، بسردها: زوتضغط ماء شطافة المرحاض الذي ينزل علي شكل بخار مضغوط، ثم تفتح صنبور البخار المضغوط لتغسل يديك. كلها أدوات تستخدم تقنين المياه. قضية بيئية تعودنا عليها في البلاد العربية، ولكن أن تكون في اسكندرية البحيرة، وتري بأم عينيك ربوعها التي كانت خضراء بمياه البحيرة، وقد جفت أغصانها، وتصحرت مراعيها، وترملت حقولها، فلم يعد ينكحها ويخصبها غمر مياه النيل، الذي كان يفيض أيام الفراعنة، فيروي أقدام أبي الهول العظيم، ولكنه تقوقع اليوم علي نفسه! تشعر بالعطش يجفف حلقك..