خلال المسح الأثري الذي تقوم به منطقة آثار وادي النطرون في جميع أنحاء الوادي والمناطق المحيطة والمجاورة له.. اكتشف الأثريون وجود مبني فم ترعة الخطاطبة القديم الذي يعود تاريخ إنشائه لأكثر من 130 عاما.. وكانت ترعة الخطاطبة من أول أعمال محمد علي باشا في مجال الري.. وقام بإنشائها عام 1817 وكانت تمثل النموذج الأمثل لتطوير أساليب الري المصرية.. بل إنها تسبق ترعة المحمودية والرياح البحيري.. وليت الأمر أقتصر علي اكتشاف وجود مبني ضخم جدا لطلمبات الري علي هيئة مستطيل أبعاده (60*16م) وبارتفاع 18م وشيد بالآجر (وهو الطوب الأحمر المحروق) وهو مركب من منشأة تحت الأرض للري بالراحة وأخري شيدت فوقها في عصر الخديو توفيق للري بالغمر!.. ولكن هناك منارة أو مدخنة مربعة الشكل ترتفع لأكثر من 32م وقريبا من هذين المبنيين الأثريين يقع مقياس للنيل علي فرع رشيد لتكتمل بذلك هذه المجموعة المعمارية الفريدة. ولكن المشكلة تتمثل في زحف العمران الطاغي عليها وتعرضها لتعديات صارخة من جانب الأهالي المحيطين بها والإهمال الشديد من جانب وزارة الموارد المائية والري لهذه الأبنية القديمة. لذلك قام الدكتور جمال فتحي عيد مدير عام البحث العلمي في الآثار الإسلامية بوزارة الدولة لشئون الآثار منذ 4 سنوات بمناشدة اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية بسرعة ضم هذه المنشآت لتعداد الآثار الإسلامية والقبطية نظرا لقيمتها المعمارية وأهميتها التاريخية قبل أن تأتي عليها يد التخريب ويكون مصيرها الاندثار خاصة أن مقياس النيل اختفي عن الأنظار وسط المباني المحيطة به! والدكتور عيد يستصرخنا لمساعدته في ضمها إلي عداد الآثار الإسلامية لإنقاذها وتحويلها لمتحف يحكي تاريخ الري في مصر. ويحدثنا الدكتور عيد باستفاضة عن هذه المجموعة الأثرية النادرة قائلا: يقع مبني طلمبات الري بفم ترعة الخطاطبة حاليا بقومبانية الخطاطبة التابعة لمركز السادات بمحافظة المنوفية ويفصل بين هذا المبني وفرع رشيد مسافة مائة متر تقريبا من الجهة القبلية والمدرسة الإعدادية ملاصقة للمبني من الجهة البحرية ومسجد القرية من الجهة الغربية وأرض فضاء من الجهة الشرقية. يعتقد الدكتور عيد أن الترعة سميت بالخطاطبة نظرا لوجود ترعة الخطابية في هذا الوقت لري إقليم البحيرة في النصف الشمالي.. ومن المعروف أن العرب الفاتحين انتشروا بريف مصر وكانت منهم قبائل عدة تمركزت بشمال البحيرة ومنها قبيلة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب التي يرجح أن ترعة الخطابية تنسب إليها وعند حفر الجزء الجنوبي وإقامة فم الترعة في الجنوب حرفت إلي الخطاطبة بدلا من الخطابية تمييزا لها عن الجزء الشمالي! وعن دوافع إنشاء ترعة الخطاطبة.. يؤكد الدكتور عيد أنه بعد قيام محمد علي باشا بسد ترعة الفرعونية التي كانت تصل بين فرعي (رشيد ودمياط) حدث انخفاض في كمية المياه المارة بفرع رشيد مما حدا بمحمد علي لإنشاء ترع أخري تعوض إقليم البحيرة بالمياه بدلا عما كان يجيئه من ترعة الفرعونية قبل سدها ومن هذه الترع كانت الخطاطبة. ويضيف الدكتور عيد: وترعة الخطاطبة من الترع الرئيسية ويبلغ طولها 123كم2 ولما كان إيرادها لايزيد عن 80 مليون كم2 من المياه في حين كان إقليم البحيرة يحتاج إلي 130 مليون كم3 من المياه/ يوميا.. فكان من الضروري توريد 50 مليون كم2 من المياه زيادة عما كان يرد إليها، فعندئذ تم عمل مأخذ جديد لترعة الخطاطبة عند كفر العيسي. ويوضح مدير عام البحث العلمي بالآثار الإسلامية: أنه نظرا لأن ترعة الخطاطبة من الترع الصيفية فإن المياه كانت تجري فيها بكثرة أثناء الفيضان ولا تصل إليه إلا بمقدار ضئيل في أي وقت آخر، كما أن انحدار الترع الصيفية بصفة عامة أقل من انحدار مياه النهر أثناء التحاريق. وقد كان فم ترعة الخطاطبة في بدايته عبارة عن برابخ ضخمة طولية مشيدة من الحمرة والجير الناعم علي هيئة أنفاق، نهايتها الغربية ذات استدارات، ونظرا لتراكم طمي النيل المتتالي فقد كان يعمل لها تطهير عاما بعد عام طوال فترة حكم محمد علي باشا وحتي أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر. ويذكر الدكتور عيد أن فترة عصر الخديو إسماعيل (1863 1879) قد شهدت اهتماما عظيما بآلات الري العملاقة التي كان من أهمها الطلمبات (المضخات) التي انتشرت لري أملاك الباشا أو لري أراضي كبار الملاك وقد بلغ عدد ماكينات الري البخارية (الطلمبات) في عهد إسماعيل مايربو علي أربعمائة وستة وسبعين ماكينة، وقد شجعت حكومة الاحتلال الإنجليزي علي إنشاء شركات للري التي تقوم ببناء محطات رفع لمياه النيل تتكون من عدة ماكينات ري وماكينة ضخمة (وابور) لرفع المياه. وفي مايو 1880 تعاقد الإنجليزي إدوارد استون وشركاه مع الحكومة المصرية ممثلة في نظارة الأشغال العمومية (وزارة الموارد المائية والري) علي أن تقوم شركته بجلب المياه لترعتي المحمودية والخطاطبة بواسطة آلات ري بخارية وأن يتم توريد مليون وخمسمائة ألف متر مكعب من المياه كل 24 ساعة في كل من الترعتين ولمدة خمسة وعشرين عاما بواسطة آلات ري بخارية جديدة تركب عند فم الترعة أو بجواره. وأقامت شركة الري المساهمة بالبحيرة وابورات ري كبيرة علي فم ترعة الخطاطبة وقد كان نوبار باشا مديرا لهذه الشركة المصرية وصارت هذه الترعة من أهم مصادر المياه الصيفية زمن التحاريق بإقليم البحيرة. وفي عام 1894 تم سد فم الرياح البحيري (الناصري حاليا) لإتاحة الفرصة لإدارة طلمبات الخطاطبة لإمداد ترعتها بالمياه حيث كان هناك عجز واضح في فيضان هذا العام، ولضمان وجود المياه في موسم الحاجة إليها في الصيف وحتي لاتتوقف طلمباتها، أقامت الحكومة سدا في النيل خلف المأخذ الذي تسحب منه تلك الطلمبات والمعروف حاليا بسد (أبو نشابة) الواقع تجاهها. ويصف لنا الدكتور عيد مبني طلمبات الري بأنه علي هيئة مستطيل (06م * 61م) ممتد من الشرق إلي الغرب وواجهته الشرقية ذات العيون (الأنفاق) هي الجهة الشمالية للمبني الذي هو عبارة عن جدران من الأجور (الطوب الأحمر المحروق) يتراوح سمكها من 04 إلي 06 سنتيمترا ويبلغ ارتفاعها ثمانية عشر مترا، ويقع بداخل هذه الجدران البغال الحجرية المحمولة علي أقواس نصف دائرية ومدعمة بالروابط الحديدية التي تمثل قواعد ثابتة لحمل الوابير المعدة لضخ المياه وهناك أنفاق وسراديب تتصل بالحائط أو الجدران الجنوبي عبر بناء علي هيئة المصطبة الفرعونية يمتد بطول المستطيل من الشرق إلي الغرب وتسمي مراقد الوابير (الوابورات). ويقول الدكتور عيد إن الواجهة الشمالية لهذا المبني تعد الواجهة الرئيسية وبها 8 عيون معدة لمرور المياه المضخوخة ويبدو أنها مركبة من مستويين أحدهما علوي والآخر سفلي.. علي أن هذه العيون قد ردم منها الكثير في المستوي السفلي بينما المستوي العلوي من الواجهة فتوجد به إلي الآن نوافذ مستطيلة ذات عقود نصف دائرية وكلها متساوية الحجم والارتفاع تقريبا وكان الغرض منها التهوية والإنارة داخل هذا المبني الذي ربما كان مسقوفا علي هيئة جمالون وذلك مما يؤكد الشكل الحالي للجدار الغربي الملاصق لمسجد القرية القديم. أما الواجهة الجنوبية لهذا المبني.. كما يصفها لنا الدكتور عيد فهي التي كانت مواجهة مباشرة لفرع رشيد ومن خلالها يتم عمل أنفاق بواسطة مواسير نحاسية ضخمة لسحب وجر المياه لداخل المبني عن طريق وابورات الضخ المثبتة خلف هذه الواجهة. يكشف لنا الدكتور عيد أنه في عام 4991 وأثناء قيام هيئة الأبنية التعليمية بحفر أساسات المدرسة الملاصقة الآن للواجهة الشمالية لهذا المبني ظهرت أنفاق مائية سفلية تحت مرقد الوابورات تمتد للأمام لأكثر من خمسين مترا أمام المبني بالكامل ولكنها للأسف تم ردمها الآن أسفل أساسات هذه المدرسة الإعدادية المجاورة للمبني! ويؤكد لنا الدكتور عيد أن المنارة أو المدخنة التي تقع علي مسافة 05 مترا من مبني طلمبات الري من الجهة الشمالية الشرقية، تتصل بالمبني عبر حجرات وممرات أسفل الأرض ويعتقد أنها كانت تقوم بمهام المدخنة المخصصة لوابورات المياه التي تعمل بالبخار بواسطة الفحم.. ولعل وجود هذه المدخنة بهذا الارتفاع الشاهق يؤكد احترام المصريين القدماء لنظافة البيئة ونقائها.. والمنارة أو المدخنة مبنية أيضا من الآجر الجيد ويتوسط جدرانها عمدان وشدات حديدية للتقوية ويبلغ ارتفاعها حوالي 23م تقريبا ومساحة أرضيتها حوالي 3م * 3م وبداخلها سلم يصل لأعلاها. بينما المقياس كما يتأسف الدكتور عيد علي حالته السيئة يقع علي حافة فرع رشيد الغربية بجوار مأخذ فم ترعة الخطاطبة وهو عبارة عن مبني من الحجر والآجر ومكون من صفين من المدرجات.. وهذا المقياس يتوسط كل درجتين منها لوحة رخامية بيضاء بها علامات القياس المترية. ولكن طمست بعض درجاته السفلية والعلوية مع تآكل جدرانه نتيجة التعديات بالزراعة والتجريف بجانبه.. فمن ينقذ هذه المجموعة المعمارية النادرة؟ هذا السؤال لايزال يبحث عن إجابة من الدكتور جمال فتحي عيد ومن آخر ساعة.