لم يطاوعني قلبي اخر ليلة لي في القاهرة قبل هجرتي لباريس في السبعينات من القرن الماضي أن استقل الطائرة فجرا دون أن القي نظرة وداع اخيرة علي شآطيء سيدي بشر بالإسكندرية ..كانت الساعة قد اقتربت من السابعة مسا ءولم يعد امامي سوي ساعات معدودة علي موعد الطائرة حينما أتفقت مع سائق تاكسي أن يأخذني إلي الإسكندرية واشترطت علية أن يعود بي مباشرة لمطار القاهرة في الفجر .... ما إن وصلنا الإسكندرية من الطريق الصحراوي حتي طلبت من السائق أن يسير علي ا لكورنيش وفتحت نافذه التاكسي وأخذت استنشق رائحة البحر الحبيبة علي نفسي. .. نزلت أمام نادي السيارات في سيدي بشر وعبرت الشارع وتوقفت أمام سينما فلوريدا لاستمع لآخرمرة للأغاني الغربية التي كانت السينما تذيعها بصوت عال قبل عرض الفيلم كان الفيلم المعروض بعنوان الحياة للحياة لكلود ليلوش ...... لمحتني المعلمة نوال صاحبة صندوق المثلجات فصاحت بي: حمد الله علي السلامة ألله يسلمك تطلعت لوجهي وهي تفتح الزجاجة وقالت : فيه أيه مالك مفيش والمرسي أبو العباس فيه المعلمة نوال كانت الخالق الناطق الفنانة تحية كاريوكا في شبابها كما ظهرت في فيلم »شباب امرأة«، الجمال المصري الخمري الاصيل نفس العود ونفس الجلابية والمنديل ابو اوية والكردان الذهبي الكبير الذي يغطي صدرها الناهد والخلخال في رجله الشمال كانت في السابعة عشرة من عمرها حينما مات ابوهاعم صادق صاحب صندوق المثلجات....فوقفت بدلا منه . رأيتهامساء أحد ايام شهر أغسطس تمسك نبوتا وتلوح به لبعض الشباب من المصيفين حينماحاولوا معاكستها بوقاحة تعودت انا والاصدقاء طوال فترة الصيف تناول المشروبات المثلجة كل يوم عندها بعد التهام سندوتشات الطعمية وكنت الوحيد الذي سمحت له ان يشرب علي الحساب وان اسدد اول آلشهر حينما آخذ مصروفي . اشوف وشك بخير.. قلتها وانا امد يدي لها بثمن الزجاجة ليه ده انت لسة واصل من السفر انا مسافر الفجر لباريس ودي بعيدة ايوه وحترجع امتي ان شاء الله الله علم فجأة وجدتها تخلع السلسلة بالمصحف من رقبتها وتمد يدها لي بها وهي تقول لي حايحرسك وحينما رأت دهشتي قالت والمرسي ابوالعباس ماتكسفني هزتني تلك المشاعر الصادقة وبذلت جهدا كبير لكي لاتفضحني دموعي مررت علي بير مسعود لاخر مرة اغمضت عيني لكي اسمع صدي ارتطام الامواج علي الصخور ورحت احلم بباريس...ولم اكن ادري ماذا يخبئ لي القدر ... في باريس لم ادر كيف سرق الزمن من عمري عشرين عاما لم اعد فيها مرة واحدة للاسكندرية... في الليالي الباريسية الباردة حينما كانت الامطار تنهمر وتغطي الثلوج الاشجار واسطح المنازل وتعجز نيران المدفأة المتوهجة عن بعث الدفء في عروقي، كان يكفي ان اتذكر سينما فلوريدا وبير مسعود وشاطئ سيدي بشرلكي اشعر بالدفء الحقيقي... حينما عدت لمصر بعد تلك السنين كان اول شئ فعلته الذهاب للاسكندرية.. احسست انني اخطأت في العنوان.. وشعرت ببرودة شديدة تنتابني رغم حرارة شهر اغسطس فكل شئ تغير ولم يعد حتي لسينما فلوريدا وجود. .. وانا عائد حزيناً علي الاقدام بمحازاة الكورنيش كما كنت افعل زمان لمحت اعلانا لمسرحية لفت نظري صورة البطلة بالحجم الطبيعي ... ...الملامح غير غريبة علي عبرت الشارع ولم اصدق عيني كانت صورة المعلمة نوال رغم الاسم الاخر المكتوب تحتها...