يمدّ يده في الهواء جالباً باقة صبار شديد الاخضرار. يرمي باقة الصبار إلي أعلي . تتناثر فوق الرؤوس طراطير ملونة. ينظر أهل القرية إلي بعضهم البعض ويضحكون. لكنهم عندما يحاولون خلع الطراطير لا تنخلع. حاول البعض قصها أو نشرها أو حتي حرقها. لكنهم جميعاً فشلوا. فتركوها في مكانها ومارسوا حياتهم متجاهلين إياها. حتي نسوها تماماً ولم يعودوا يرونها/ قصة ز حاوي. بين قصتي حاويس وسعروسس تقع المجموعة القصصية حاوي عروس للأديب منير عتيبة الصادرة ضمن سلسلة ز كتابات جديدة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب . لا تقتصر المجموعة علي كونها متألفة من مجرد قصص قصيرة ، وإنما تأخذ صفة المتوالية؛ فأحداث المتوالية تقع في فضاء روائي واحد ز قرية خورشيد بالإسكندرية وإن تعددت الأماكن الروائية ذات السمة الكرنفالية (السوق- موردة الجنايني ذ ترعة المحمودية - المقابر). كما تعرض لأحداث تقع لعوائل تقطن هذه القرية يربط بينها عددٌ من الروابط الإنسانية: الدم والنسب والصداقة. ومن ثمَّ يلمح المتلقي تكرار بعض الأسماء وألقاب العائلات، بل وتلتقي الثيمات المسيطرة علي المتوالية وإن اختلف التعبير عنها بأكثر من أسلوب ورمز. وعليه تتبدّي سمة التعددية في المتوالية؛ فتقف كل قصة ككيان مستقل نسبياً ، متصل منفصل في آن واحد يغاير الكاتب فيما بينها بين تقنيات تحفظ لكل قصة جماليتها وذاتيتها التي لا تنفي تسلسلها ضمن كُليّة العمل. علي الرغم من ولوج الكاتب عوالم الغرائبية والواقعية السحرية في أعمال قصصية سابقة مثل:س يا فراخ العالم اتحدوا ز وسمرج الكحلس إلا أنّ هذه المجموعة تأخذ منحي مختلفاً وأكثر رصانة ألا وهو البعد الأسطوري الملحمي الذي تتفاوت قوته بين أصالة الأسطورة واستقاء المُخيل الجمعيّ من الحكايات الشعبية والطوطمية. فلطالما كانت الأسطورة والمحكي الشعبي معيناً لا ينضب للأدب المعاصر، لاسيما عند تناول المسكوت عنه اجتماعياً كان أو سياسياً أو دينياً. تبدأ المتوالية زحاوي عروسس منذ الإهداء بطرح ثنائيات دلالية عدّة ، يقول :س إلي خورشيد التي تعرفونها، وخورشيد التي لا يعرفها غيري ز. فالإهداء نص موازٍ غير منبت الصلة عن ثيمة العمل، يطرح ثنائية المعرفة واللامعرفة وما بينهما من مستويات الإدراك؛ تبدأ من اللامعرفة إلي المعرفة السطحية ثم الواقعية وصولاً إلي الماورائية. ينبني علي هذا الإهداء تأصيل فكرة البطل الأسطوري أو الشعبي في مواجهة الجماعة إذ يضع الفرد - زلا يعرفها غيريس - في وجه الجماعة زلا تعرفونهاس المراد تغييرها. وعليه كان الإهداء إلي المكان وليس الشخوص، حتي كاد أن يتحول إلي بطل المتوالية وليس الشخوص. يجيء المفتتح بتذييل زمن كتاب تاريخ خورشيد غير الرسميس ليغور الكاتب في أعماق تاريخ منسيّ غير معلن لقرية شهدت موطئ آدم وحواء وأول شعور لهما بالتقلصات المعوية؛ ومن هنا تأتي وظيفة الأسطورة في العودة إلي زمن البداءة الإنسانية بحثاً عن المعرفة وإجابة عن تساؤلات جوهرية منذ بدء الخليقة والتحديات الكونية لطاقة الإنسان مما يجعله في صراع دائم بين تحدٍ واستسلام ؛ فالصراع الأزلي بين الخير والشر كان محور الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية، يقول:سحوّل الشيطان نفسه إلي ثعبان ضخم، التحم مع الحية في رقصة زواج عنيفة، تركت الحية بعض بيضها في المكانس فتتّحد قوي الشر (الحية والشيطان) لمواجهة العدو المشترك - آدم وحواء وذريتهما. عندما تنضم هذه العناصر تأخذ زخورشيدس حيث الصراعات حد الغرائبية ومفارقة العقل ما يجعلها تشبه قرية جارسيا ماركيز زماكوندوس في رائعته ز مئة عام من العزلة ز؛ فهي مركز الكون ومحور حياة قاطنيها كما هو الأصل في المجتمعات الإنسانية التي تمثّل القرية نواتها، ولا يفكّر أهلوها في الخروج منها بالرغم مما يكابدونه من ظلم وضيم، فيضع الكاتب أزلية المكان الأسطوري في مقابلة استسلام الشخوص أحياناً أو محاولتهم هباءً تحديه؛ فالزمن ذ البعد الرابع للمكان - أزلي وإن استشعر القارئ الحركة الزمنية ودائرية الحياة وتلاقي الأجيال إلا أن التوظيف الأسطوري خلق جواً من الأزلية ذا دلالات رمزية. (حاوي / وليّ / حفرة) : تبدأ المتوالية بثلاث قصص، يتولي السرد فيها راوٍ مشارك ثانوي الدور يقتصر علي الرؤية من الخارج ونقل الأخبار التي يتناقلها أهل القرية حتي تصل إلي مسامعه لذا تكثر أفعال زسمعت، يقال، قالواس التي تنسج جواً أسطورياً حول الشخوص المحورية. في قصة زحاويس يأتي التناقض بين أهل القرية الذين يمثلون حزمة واحدة تشبه ز تماثيل خشبية مسوسة بلا وعيس علي النقيض من الحاوي ذي الصوت المهيب، يقول الراوي :س قالوا إنه اعتاد الظهور كل يوم أحد، وقالوا إنه يظهر مرة كل شهر، والبعض أكّد أنه يظهر كل قرن مرة ز فهو خارق في هيئته وظهوره المفاجئ واختفائه ز ككتلة من نارس . ليست أفعال الحاوي هنا مجرد ألعاب خفّة اليد المثيرة للضحك والاستمتاع، وإنما أفعال خارقة تبثّ الرعب في قلوب جمهور القرية، فباقة الورد البلدي يحولها إلي براز عصافير يتناثر فوق الرؤوس، وعود الفل الأبيض يصير كلابشات صدئة تلتف حول الأيدي والأرجل ولكنهم يعتادون عليها في كل مرة. إن بواطن رمزية الموقف الغرائبي تعكس أزمة القرية التي تنبذ المقاومة دون البحث فيما وراء الأشياء للوصول إلي حقيقتها؛ فتؤثر الاستسلام واعتياد الأزمات حدّ نسيانهم إياها وإن كانوا لا يستشعرون مدي سقم حالهم. في قصة وليّ خارج تخوم المقابر حيث يتوقف الزمن وتتلاشي عنده معاني المحدودية . يتخطّي الوليّ العالم الواقعي ويصير كائنا أسطورياً تُروي عنه الأخبار لاسيما علاقته بالجن وقدراته الخفيّة. يكمن السحر في كلمته الوحيدة - ز الليلة لكِ - ليقع اختياره علي إحدي العاهرات لتبيت معه في كوخه دون معرفة ما يفعلان سوي ما يُقال عن تغسيله النساء فيس الطشت الذهبي المسحور من قصر سليمان تحت الماء ز ومن ثمّ تخرج تائبة . لقد تمكن الوليّ من تغيير ملامح القرية بتناقص العاهرات وعودة الأزواج إلي بيوتهم، مما قوّض سلطات قريته: خطيب الجمعة وضابط النقطة والفتوات. تكمن ذروة الحبكة عند العثور علي جثته ز ملقاة في وسط الشارع الرئيسي كان عارياً تماماً مقطوع العضوس ؛ فيرسم الكاتب ملامح القرية النفسية والاجتماعية؛ إذ كيف يحزن أهلوها عندما تتناقص الرذيلة ويفرحون عند موت الولي! . يظهر موتيف ( نذير الشؤم ) في قصة ز حفرة ز متمثلاً في منصور التُربي الذي يحفر قبور الموتي قبل أن يموتوا ، فاطلاعه علي الغيبيات وعمله في حفر قبور أهل القرية وإخباره بمصير الأموات في القبور يجسّد الحقيقة عارية مما يورّطه في كثير من المشاكل حد الرغبة في قتله، يقول الراوي:س أصواتهم تتهمه بالسحر وقتل الناس وفضحهم ز. علي الرغم من الفكرة المعهودة عن ارتياح الإنسان النفسي للأولياء وأهل الغيب ممن تشفّ أرواحهم ولكن هنا يتبدّي خوف الإنسان الأزلي من الحقيقة لاسيما عندما يكون علي خطأ ومناقضاً لفطرته النقيّة . ( ريشة / سيدي / ليلة / انتقام ): تختلف الأربع قصص التالية إذ تأخذ شكلاً تجريبياً تقنياً ؛ فجسّد صراع الإنسان من أجل الخلود سواء كإنسان بذاته أو عبر ذريته ممن يحملون اسمه في تحدٍ بوجه الزمن؛ لذا يتفاوت السرد إما تكون علي لسان البطل بضمير المتكلم أو الراوي العليم أحياناً. تتداخل العصور السحيقة مع الحاضر في قصة زريشة ز ويتراجع الزمن حتي يصل إلي عصر البداءة؛ فالبطل يصلي في المسجد الذي كان مخبأ لمنقريوس من الرومان، وقبله مصلي حور محب للإله آمون رع وكذلك محل صلاة البطل مع أفراد قبيلته لإله المطر. يكمن سر خلود هذا البطل في ريشة أنقذها أثناء إحراق الطائر الأخضر الأسطوري؛ فكلما بلغ السبعين من العمر يحرق البطل نفسه مع الريشة ويولد ابن الثلاثين . تقف في النهاية فكرة الخلود في مقابل الواقع الإنساني الحالك ووسط أوضاع تتزايد سوءاً وتتلاشي أمامها المعاني الإنسانية ، يقول: ز تجري في عروقي دماء القرون السالفة بقوة حتي لأظن أنني سأتفتت، الصور تتدافع بجنون وسرعة لا أستطيع أن أميزها تثقل الذاكرة فتضغطني ز. علي الرغم من أن الريشة تأخذ شكلاً طوطمياً وعلامة مميزة لقبيلة البطل إلا أنّه مع الوقت تحولت من سلطة فوقية إلي معبر زمني أزلي يمسك الإنسان بزمامه حتي يتنازل عنه طواعية ، فالإنسان لا يستطيع تحمل ثقل الخلود وعبئه حتي وإن كانت طاقاته خارقة. في قصة ز سيدي ز يسكن العفاريت ترعة المحمودية ويلقون بشجرة الجماجم الأسطورية في طريق سيدي الطاهر، فيحصل علي قوة مسحوق الجماجم السحري. يتبدّي صراع الأجيال بين طاهر الجد ومحروس الحفيد علي الزريبة التي بدأ يحرقها الحفيد ، وعليه يتحول الأمل في واقع يائس إلي رسم علي الحائط يذوب فيه سيدي الطاهر مع المكان ويحوله إلي بطل أسطوري يستعين بالمدد الغيبي من عالم الغيب ليطير مكملاً حياته؛ فبين القصتين يقدّم الكاتب مقارنة بين حياتين: الحياة من أجل الخلود من ناحية وفطرة الإنسان للبقاء من ناحية أخري ، ولكن شتان بينهما. تختلف قصة ز ليلة ز تقنياً لتعدد رواتها فهي قصة بوليفونية تعرض ثلاثة مستويات للمعرفة تتكشف تدريجياً للوصول لسبب قتل العمدة لزهرة ثم تلبُّس زهرة لسميرة الغنيمي القبيحة حتي يتزوجها عبد الظاهر حبيب زهرة . فتبدأ الرواية من عبد الظاهر غبش إلي زهرة ذاتها ثم إلي سميرة والحجاب الذي عملته لها الشيخة نادية . تنضوي القصة علي مفارقة أفق توقع القارئ لاسيما علاقة السحر والشعوذة بتغيير مسار حياة عوائل بأكملها استجابة لنزوات شخصية . تستأنف قصة ز انتقام ز أحداث القصة الماضية بعدما تعرّض عبد الظاهر غبش للظلم وتوارث الأحفاد الأحقاد والرغبة في الانتقام حتي تتحقق في مخيلة الجيل الأول من الأجداد، فالحفيد صورة من الجدّ والتاريخ يعيد نفسه والعائلة الطيبة تظل طيبة والشريرة تظل شريرة ، وهكذا تظل دورة الحياة في دورانها حتي تعود إلي نقطة البدء. (قصة / ثعبان / عروس ): يتمظهر التماهي بين الواقع والمتخيل في قصة ز قصة ز عبر المؤلف الحقيقي والمؤلف الضمني حين يقول الراوي:س أعترف أنني لا يمكن أن أحيط بتجربة حمدي شعلان في قصة خُطط لها ألا تزيد عن ثلاث صفحات لأسباب فنية ز؛ كذلك الانتقال من الواقع إلي الحلم الذي يمثل القدرة الخارقة في البطل؛ فتتلاشي الحدود الحلمية ويصير الحلم متحكماً في الواقع والواقع ممتداً مع نهاية الحلم. ويتحول الحلم إلي وسيلة للحصول علي النفوذ والسلطة حتي صار البطل يتحكم في الواقع عبر الأحلام لدرجة شعر أنه ليس بشراً . وهكذا جعل من نفسه أسطورة بل وأراد تفعيل دوره كإله نسبي أن يميت نفسه ثم يحييها داخل الأحلام ويكرر هذا أكثر من مرة. إنها رغبة الإنسان في تحدي قدراته البشرية المحدودة للوصول إلي الخلود ؛ ولكنه إنسان يخطئ ففي المرة الأخيرة لم يقدر علي إنقاذ نفسه ز وجدوه علي سريره والإحساس بالفشل المزري واضح لكل ذي عينين، وهم يغسلونه كانوا يشعرون بأنه أكثر من شخص ، وأنه ما زال حيّاً في مكان ما ، وأنه ميت فعلا منذ أزمان كثيرة ز. تتعانق قصة ز ثعبان ز مع مفتتح المتوالية عن تحول الشيطان إلي ثعبان في القصة هنا يخرج الثعبان بطن روحية للانتقام من أهل القرية في اليوم الذي يقول عنه الجد أنّه يوم الميلاد ؛ ومن ثمّ تظهر أسطورة المخلص الذي جسّده الحفيد في صراعه مع الثعبان ليقتله ويخلص أهل القرية من الآثام الممثلة في الأفاعي والثعابين التي تخرج من البيوت ولا يراها غيره فيقتل الثعبان وينتهي عمره معه، مقدماً نفسه تضحية للآخرين علي عكس القصة التالية. تختتم قصة ز عروس ز المتوالية لتلتقي مع الحكاية الشعبية زالشاطر حسن وست الحسن والجمالس فالعروس رمز البراءة والطهر والجمال، ولكن حسد أهل القرية جعلها تسقط ليلة زفافها حتي صارت علي شفي الموت يظهر دور الجدّة التي تعرف الأسرار وقد توقف عمرها لحظة وقوع العروس في انتظار أن يأتي حسن لها بالدواء. تكمن المفارقة أن لا أحد يريد التقدم ليغسلها بالماء المقروء عليه لأن لحظتها تنتهي حياته ؛ إنه إثم الحسد الذي كان سبب الصراع بين الشيطان وبني آدم منذ بدء الخليقة، وإثم الاستسلام وعدم الإقدام علي التضحية، يقول الراوي:س كنت أتوكأ علي حفيدي الذي يحاول أن يسرع بخطواتي الواهنة في أول زيارة له للتعريشة، وأنا أحكي له ما حكاه لي جدّ أبي ، وقفنا أمام العروس الراقدة في سريرها، نظرنا إلي الجدّة صابحة التي لا تكفّ عن تقليب المياه بذراعها الأيمن والقراءة الخافتة ز حتي غدت حكاية تتداولها الأجيال . ختاماً، إن متوالية ز حاوي عروس ز تقدم أنموذجاً تجريبياً لتوظيف الأسطورة في القصة القصيرة لتظهر دورة ونمطية الحياة الإنسانية أحياناً كثيرة إلا من مفارقات خارقة عبر التدخل الغيبي أو الخرافي؛ وهنا يقف القارئ متسائلاً أ يحتاج المجتمع بطلاً أسطوريَاً كي يتغيّر أم أنّ زمن الأساطير قد انتهي وتبقي حياة الإنسان علي المحك في مواجهة واقعه الذي يستلزم كثيراً من التضحيات.