في الغرفة الضيقة ، علي الجدارِ المتسخ ، كانت الخرابيش الجدارية بألوانها البنية والرمادية ، تتداخل في دوائر ، تنكمش تارة وتنفصل أخري ، تدور حول نفسها ثم سرعان ما تنزلق لتختبيء في البقع الرطبة . أو في الشقوق النتنة بأسفل الجدار . في الليلة الأولي أدهشتني الخرابيش السوداء وهي تسري علي الجدار تأملتها وتأملتني ، وعندما أطلتُ النظر إليها . أخرجت لي لسانها وقهقهت وهي تفر هاربة ، ولما تتبعتها في فضول أغرتني ، حاولت أن أمسك بها راوغتني متوارية خلف بعضها ، فعاودت اللعب محاولاً الخروج من انقباضة المكان المظلم . في الزاوية المقابلة للباب الحديدي الصديء ، تكوّمتُ علي نفسي، قعدت علي رجلي ، عندما تعبت استلقيت بظهري علي الأرض، حتي كاد سقف الغرفة الضيقة أن ينطبق علي صدري، والرائحة العطنة تملأ رئتي ، تململت ، لكن أعضائي الهامدة كانت ملتصقة بالأرض . لم يبق مني إلاّ عيناي وهذه الخرابيش السوداء وصوت وقع حذاء العسكري يدُك الأرض في بطء شديد . وحين دخل الليل وسكن، هجع صوت الرجل الذي كان يطاردني بالأسئلة من خلف الجدار وبقي سعاله المتقطع يتداخل في أصواتِ شخير الآخرين تارة وينفرد أخري . أغراني صوت الشخير بالدخول في النوم ، لكنني لم أّفلحْ في التقاط خيوطه المعششة بين أهداب عيني ، لأن التشققات الغائرة في جدار الغرفة كانت ترسم تضاريس مدهشة ، والألوان الخبيثة تأخذ بدورانها السرمدي عيني حتي تسري كرعشة خاطفة في نهايات أعصابي ، فلم أستطع فك طلاسم الكتابات الغريبة والرسوم الغريبة والألوان الباهتة ، وكلما حاولت تتبع الرسوم الجدارية ، توالدت منها وجوه ورسوم غريبة ، غير تلك التي كنت أتتبعها في طفولتي علي جدران غرفتنا في بيتنا العتيق . كانت الوجوه البشعة تحملق ِفيّ بألف ألف عين . وكلما انصرفت عنها، جذبتني من ذقني لتنظر إليّ ، وهي تلعق بألسنتها الخشنة وجهي وكلما أزحتها، تراجعت ثم سرعان ما تنقض عليّ لتجذبني من شحمة أذني وتصرخ فيها صرختها المدوية ، فأفقد وعيي ، وقبل أن أغيب ، تهزني هزاً عنيفاً . لأفيق ، وكلما هممت بالقعود، تبصق في وجهي وهي تطلق ضحكتها الهستيرية المتصاعدة وفي عيونها المرعبة تخفي عقاباً جديداً .. في الليلة الثانية أو الثامنة أو المئة ، كانت الخرابيش السوداء بوجوهها الباهتة تقعدني علي رأسي ، تزرعني في وسط الغرفة الضيقة وتحاصرني بالأسئلة الممقوتة ، لتسمع حكايتي وكلما تباطأت في الكلام ترفعني في الهواء وهي تقهقه وتغني وترقص . ثم تتركني فجأة لأهوي علي الأرض الباردة . ولا أفيق حتي ينسحب الظلام الباهت من أمام الضوء الباهت كي يدخل من النافذة الضيقة في الغرفة الضيقة . وفي الليلة التالية ، أمسكت نفسي عن الكلام ، وعن النظر إلي الجدران الأربعة يئست من اللعبة المرهقة وتركت زاويتي المعتمة وقبضت بكلتا يدي علي حديد الباب الصدئ أطبقت جفني ونمت مع وقع أقدام العسكري الذي كان يسير في بطء شديد ولما أفقت كانت الخرابيش السوداء قد أفاقت معي ، فأدرت لها ظهري وتداخلت في نفسي حتي اختلطت أمعائي بركبتي . فضحكت الوجوه الجدارية ضحكتها الهستيرية وهي تجذبني من قميصي المتسخ . جرجرتني إلي وسط الغرفة الضيقة وبالت عليّ . في الغرفة الضيقة طالت سكنتي حتي ألفت الخرابيش السوداء بألوانها ووجوهها وخطوطها المتعرجة ، والليالي المتوالية ووقع الخطوات الرتيبة ، وانزلاق الباب في الدخول وفي الخروج ، وأصوات الرجال الطيبين وهم يثرثرون ويبْكون ويضحكون . في الليلة قبل الماضية ، أرهقني الكلام حتي جف حلقي ، لأنني عندما واجهت الوجوه الجدارية ، ذكرت أشياء كثيرة وتلوت أحداثاً كثيرة وبحت لها بكامل قصتي ، حتي ملأت الغرفة الضيقة بحكايتي ، وقبل أن أنتهي . توارت الوجوه الجدارية في خجل مهيب ، في حركة بلهاء رجعت للشقوق الغائرة .