في مايو من عام 1992 قدم د . دونز الأستاذ في جامعة كامبريدج الي البرلمان الإنكليزي للتصويت علي ما إذا كان منح درجة الدكتوراه الفخرية لجاك دريدا الفيلسوف الفرنسي مؤسس ما يسمي بالتفكيك قابلة للاعتراض أم لا ، بعد ما أثير حولها من حملات تشويه ضد حاملها والتي باءت بالفشل فيما بعد ، وسيكون من المثير للاهتمام أن نعرف كم من أولئك المعترضين والذين سعوا لمنعه هذا المنح قد قرأ ولو كتابا واحدا له أو حتي بضع مقالات ، دريدا في الحقيقة لم يكن بحاجة الي هذا التكريم فقد كانت أعماله تأخذ طريقها خارج فرنسا بقوة والذين وقفوا ضد آرائه ومنهجه الجديد أعمتهم غيرتهم الكامنة داخل نفوسهم بسبب هويته التي لم تكن لتشكل مفاجأة لهم ، فصاحب هذه الأفكار كان نصفه يهودياً شرقياً من الجزائر المستعمرة وقتذاك من فرنسا والنصف الآخر باريسياً بسبب هجرته واندماجه بالمجتمع الفرنسي والتحدث بلغتهم اضافة للهجته العامية الجزائرية ، عاد بعدها الي بلده الأصلي ليخدم كجندي فرنسي في قوات الاحتلال وبهوية منقسمة كما كان يقول مع أنه كان يكره تحديد هويته وسعي لتفكيك ذلك التحديد إذ كان يقول دائما أنه رجل اليسار بسبب خلفيته العمالية المتواضعة في الجزائر العاصمة التي انتقل منها دريدا الي »الليسيه« وهي إحدي المدارس المرموقة في فرنسا ومنها الي مدرسة المعلمين العليا التي كان يشار إليها أنها أشبه بمؤسسة ستالينية وبشكل كبير في ذلك الوقت ، ومع إنه أكد عدم رغبته بالطريقة التي تدار بها هذه المدرسة لكنه أعلن في وقت لاحق نفسه شيوعيا وشارك بشكل فعال في ثورة الطلاب عام 1968 والتي أسست لظهور المد الاشتراكي في فرنسا وبقاع أخري من العالم . بعد سقوط الحكومة وفي إحدي موائد العشاء التي جمعته بكوكبة من نجوم الفكر والفن الفرنسي كجان جينيه ، رولاند بارت ، جوليا كريستيفا وموريس بلانشو الكاتب والفيلسوف والمنظر الأدبي الذي تأثر به دريدا أشد التأثير وهو يستمع له متحدثا عن البنيوية وما بعدها التي فتحت له آفاقا واسعة كي يشرع بوضع اللمسات الأولي لمنهجه التفكيكي فيما بعد والذي توضحت معالمه عند تكليفه لإنشاء الكلية الدولية للفلسفة من قبل الرئيس فرانسوا ميتران عند وصوله للسلطة عام 1981 وكان من أشد المعجبين بدريدا الذي عبرت نظريته الي سيدني ثم الي سان دييغو والي دول كثيرة حتي أمريكا ، في حين كان دريدا يكرم في جميع الدعوات التي وصلته مكرسا نفسه كنجم فكري وأدبي كبير . أظن أن أحد الأسباب التي تجعل منه مرغوبا في كل مكان كان يحط فيه هو مشاكسته للحياة الفكرية خاصة الفرنسية منها وهذه السيرة تسجل بأمانة رائعة عن رجل حمل مشعل الفكر عاليا ومعتبرة أن المناخ الفكري الذي حرك من خلاله دريدا الشارع الثقافي في كل مكان قد عاش لحظات تاريخية مثيرة ، كالتي راح فيها براغ عام 1981 لحضور ندوة عن الفلسفة التي طرح فيها موضوع الاشتراكية الدولية من منظور فلسفي واعتقل هناك بعد أن رأت فيه السلطات تهديدا لكيان الدولة وخطها الشيوعي ، لكنها لم تصرح بذلك علنا بل أوكلت لأحد ضباط الشرطة بوضع مخدرات في حقيبته واعتقلته بتهمة الاتجار بها. بعد ست سنوات من هذه الحادثة المؤلمة يعود دريدا ليشغل الرأي العام الفرنسي والعالمي بقضية صديقه الناقد دي بول الذي رحل عن الدنيا وقد ساهمت مقالاته المعادية للسامية في تأجيج الصحافة الموالية للوبي الصهيوني ما جعلها تقف ضده ، هنا ينبري دريدا للدفاع عنه ويكتب مقالا طويلا يدحض عنه ما أشاعته الصحافة من أنه كان مؤيدا النازية بقيادة هتلر في عدائه لليهود ، هذه المعركة وغيرها من المعارك التي خاضها دريدا تفرد لها سيرته صفحات طويلة في ذكرها بحسب ما يذكره كاتبها بينوا بيترز الذي أطلع علي المحفوظات الخاصة بدريدا واجرائه المقابلات مع العشرات من أصدقائه وزملائه فكانت النتيجة هذه السيرة الرائعة والأمينة لأحد رجالات الفكر الذين شغلوا العالم بفكرهم وطروحاتهم ، وقد ترجمت هذه السيرة الي الإنكليزية من قبل أندرو براون الذي حافظ علي نصها الأصلي وهو الفرنسية من دون اضافات فأخرجها بالصورة اللائقة التي نجدها قد احتلت مكانا بارزا بين أمهات الكتب المعروفة . في محادثة شخصية بين بعض المثقفين ممن كان يكن الإعجاب بدريدا قال أحدهم : - يبدو ان هناك نسبا شريفا يربطه بنيتشه ، ماركس ، كيركيغارد ، فرويد ، أدورنو ، وفالتر بنيامين فيتجنشتاين الذين اخترعوا نمطا جديدا من الكتابة الفلسفية ، ومع ذلك فهو لم يكن ليرضي أذواق الجميع.. والمنعزلون عن مفاهيمه كانوا علي خطأ وأقروا بذلك بعد وفاته عام 2004 بسبب السرطان ، حيث تبين لهم أنه كان يحث الجميع علي فهم الحياة لا العدمية كما أنه لم يرغب يوما في تفجير الحضارة الغربية بعصا من الديناميت المفاهيمي كما كان يتوهم البعض ، ببساطة حاول جاك دريدا أن يجعلنا أقل غرورا عندما كان يتكلم عن هوية الحقيقة والحب والسلطة ونحن نعلم بالضبط ما كان يعنيه . تيري إيغلتون 14 نوفمبر 2012