د.يحيى الرخاوى اللغة ليست إضافة لاحقة بظاهر الوجود البشري، هي التركيب الغائر الذي يمثل الهيكل الأساسي الذي يصدر منه السلوك، ويتشكل به الوعي، وهي جزء لا يتجزأ من التركيب البيولوجي للمخ والجسد جميعا. تتوقف حركية اللغة علي نشاط الوعي، ومطاوعة المخ دائم التجلي في إيقاع حيوي نابض، واللغة، مثل المخ ومع المخ، دائمة التشكيل والتشكل، في حين أن االكلامب ليس إلا بعض ظاهرها في سلوك رمزي . الشعر الحقيقي لا يستعمل الألفاظ إلا كوحدات بنائية لتشكيلات لغوية جديدة شكلا وإيقاعا، حالة كونها تعلن حركية الجدل الحركي الولافي بين الظاهرة الإنسانية الوجودية الأعمق وبين الواقع المتجدد بالفعل الخلاق. في الشعر تتفجر علاقات وتركيبات جديدة، تحيل التشكيل اللغوي السابق العاجز عن استيعاب الجاري إلي تشكيل أكثر قدرة وأجمل إيقاعا وأطوع مرونة وأدق تصويرا. ينشأ الشعر، بل يلزم، حين ترفض الظاهرة المعيشة أن تُسجن في قوالب ألفاظ أعجز عن احتوائها، إذْ ترفض أن تنحشر في تركيب لغوي جاهز. فالشعر- إذن - هو عملية إعادة تخليق الكيان اللغوي في محاولة تشكيل أقرب ما يشير إلي الخبرة الوجودية المنبثقة ، تشكيل يجمع بين اللغة والصورة والإيقاع في تناسق جديد مخترق. علي الجانب الآخر فإن الشارع جمهرة الناس العاديين يشارك بفاعلية مستمرة في حركية اللغة، وإن كانت مشاركته ليست دائما إيجابية، فهي تتوقف علي درجة تطور المجتمع، ومستوي ثقافتهب بالمعني الأوسع للثقافة» إن الحركية السلبية تظهر نتيجة اختفاء أو ضعف الوحدة العامة الضامة للمجتمع (المشروع القومي ذ لا إله إلا الله ذ الفكرة المحورية...إلخ). في أوقات التدهور تترهل الكلمات بالتقريب والتداخل حتي لا تعود قادرة علي احتواء معان هادفة نابضة، كما تنفصل اللغة المكتوبة عن اللغة المنطوقة، وكذلك تنفصل اللغة الفصحي عن العامية،ولغة الصفوة عن لغة الشارع ..إلخ الإنسان العادي، حين يصله التهديد بالتفسخ، قد يقبل التحدي فيحترم التشتت ويعتبره تفكيكا بمثابة دعوة إلي تخليق لغة جديدة، عادة تكون أكثر إيجازا، وأقدر تضمينا، وأسرع أداء، تعينه في حبكة االتمثيلب، ودقة االتواصلب (وهذان هما وظيفتا اللغة الأساسيتان)، أو قد يحدث العكس حسب مدي قدرة المجتمع علي احتواء سلبيات هذا التفكك، باعتبارها فرصة للانذار، ودعوة لتخليق الشعر علي أرض الواقع، وبهذا تتخلق الفاظ جديدة لا يوجد مبرر لرفضها (أو قبولها) جملة علي بعضها، علما بأنه لا توجد في أية لغة مترادفات متطابقة، فما ظهر اللفظ اللاحق إلا لقصور في السابق !! كثير من المثقفين علي المكاتب يرفضون لغة الشارع جملة وتفصيلا، إذ يعتبرونها أدني من النظر في مغزي ظهورها، ومعني حركيتها، وهم يطلقون عليها أسماء من عليائهم تزعجني، لكن يبدو أن نبض سماحهم كان يقظا حين أطلق عليها أحيانا اسم ابيئةب إذ لا يوجد أجمل ولا أرحب من أن تغطي اللغة البيئة الثقافة التي خرجت منها. اللغة كائن متطور أبدا، وهي تتجدد مع كل ظهور حقائق جديدة، أو معايشة تجارب غير مسبوقة، أو اكتشاف عواطف غير موصوفة، وعموما مع اتساع الوعي البشري المتمادي. اللغة الجديدة، بإيجابياتها أو سلبياتها، تظهر في الشعر وفي الشارع حين تعجز الأبجدية القائمة عن استيعاب الحاجات الحاضرة، وأيضا حين يتفكك المجتمع، وحين يتمادي الاغتراب ويضعف التواصل باللغة السائدة ، لكن الشعر يبرز ليجمع شتاتها وهو يتوج تخليقها البديع، والشارع يساهم بما تيسر كيفما تيسر. وللحديث بقية: عن المعاجم المتاحف، ومستويات الشعر، وفهم أوسع للشارع »البيئة«..