إن دعاوي اغتيال الآثار ، أو تدميرها بالديناميت ، تلك التي أطلقها بعض شيوخ الفتنة باعتبارها دليل كفر ، أو أدلة تكفير ، وهي الآثار التي زاد عمرها علي سبعة آلاف سنة ، ولم تعد ملكا لأحفاد المصريين القدماء فقط، وإنما أصبحت ملكا للعالم كله، وملكا للبشرية علي مر العصور ؛ هي دعاوي أثارت اشمئزاز كل من يملك عقلاً يُفكر به ، وقد أصبح التكفير موضع اتهام للتفكير في زمن اغتيال تراثنا الإنساني والحضاري . إن آثار الأقدمين ليست مجرد حجارة ، أو مجرد أوثان أو أصنام ، وإنما هي معجزة بشرية حقيقية تؤرخ للتاريخ وللفعل الإنساني والبشري . إن دعاوي التكفير ، إنما اتعبر عن خلل فكري لا علاقة لها بالعلم ولا بالدين ولا يمكن أن نقوم بهدم حضارة ينظر لها العالم بفخر . (1) إن مصير هذه الدعاوي خارج مصر، هو صدي يؤثر بالسلب في ملف استيراد الآثار ، ويعطل مطالبنا الرسمية ، بعودة القطع الأثرية النادرة الموجودة في متاحف الغرب ، مثل رأس نفرتيتي ، بدعوي أن تلك التصريحات تشكل خطراً علي الأثر ، وهو ما يضعنا في حرج مع الغرب. (2) تبني بعض شيوخ الجهادية السلفية النظرية الجنسية في بناء الأهرامات ، إذ ادعو بأن هرم خوفو ، لم يبن إلا علي أجساد بناته، بعد أن أرسلهم لممارسة الدعارة من أجل الحصول علي أحجار لبناء الهرم ، وقد اعتمدوا في ذلك علي بعض إشارات هيرودوت في رواياته الملفقة ، وهي التي نفاها البحاثة واستغربها هو نفسه ولم يصدقها - ، فقد كان يجهل اللغة الهيروغليفية القديمة ، كما كان يعتمد علي روايات أعداء الملك الكاذبة . لقد كان هيرودوت دائماً ما يردد بعد روي حكاياته ، بأنه لم يصدق ما سمع . وفي نفس سياق هذه الخرافات ، فإن هناك من كان يروي أن الجان هم من بنوا الأهرامات ، وقد جاءوا من قارة أطلانتس ، حيث يدَّعي (هيولين كيس) الأمريكي، بأن أباه (إدجار كيس) ، كان يغلق عينيه، ويخلع رباط عنقه، ثم ينام ليعطي الوصفات الطبية التي أقرها أطباء أمريكا ، وإن إدجار والده تحدث عن الماضي منذ عشرة آلاف سنة ، وكما يقول في ذلك، بأن هناك رجلا يُدّعي (رع طا) كان يعيش في القارة المفقودة أطلانتس ، حصل علي صندوق معدني بعد تدمير القارة ووضع داخله كل التكنولوجيا الخاصة بهذه القارة ، ثم طار إلي مصر ، وبها استطاع أن يبني الهرم مع المصريين وأبو الهول ، وقد وضع أسفل قدم أبو الهول اليمني هذا الصندوق. (3) هذا ويزعم أمريكي آخر يدعي (لاري هنتر) بوجود مزامير أسفل الهرم . ومن هذه الخرافات ، يري البعض من الأجانب ، أن العالم الفرنسي جان فيليب لويز ، وهو العالم الذي عمل بجوار هرم زوسر لمدة 70 عاماً تقريباً (مات وعمره يقترب من المائة عام.) ما هو إلا (إيمحوتب) المهندس المعماري الذي بني هرم زوسر من منطلق تناسخ الأرواح . وهكذا أثار إعجاز بناء الأهرامات والآثار المصرية نسيجا من الحكاوي الخرافية التي رددها العامة، وتناولها بعض من اتفق تفكيرهم الخرافي مع طبيعة هذه الخرافات الظلامية . في الواقع لم تكن هذه الأساطير والخرافات لتخرج إلي الوجود ، لولا أن الحضارة الفرعونية القديمة ، كانت حضارة معجزة علي مستوي التاريخ ومستوي الإبداع الإنساني ، لقد كان المصريون القدماء ذ كما يؤكد الانجليزي آرثر مي ذ يشكلون امجتمعاً ممتازاً، ففيهم تحرك العقل المنظم، واندفع بهم إلي ممارسة الحياة علي أسلوب إنساني بعيد كل البعد عن وحشية الآخرين وهمجيتهم. لقد كانت الحضارة الفرعونية القديمة، هي النبع الحي للحضارتين اليونانية والرومانية الكلاسيكية، كما يؤكد كلير لالويت في كتابه اإمبراطورية الرعامسة. لم تكن حضارة مصر، هي أولي حضارات العالم فقط، وإنما كانت حضارة ملهمة لكل حضارات العالم.وهي الحضارة التي استطاعت أن تصمد وتقاوم كل المؤثرات الأجنبية، فكيف لها أن تقاوم حركات العزلة والتدمير من داخلها؟ (4) إن آرثر مي يؤكد حضارة الفراعنة، وقد ارتقي العقل بهم في البحث والتأمل إلي الاعتقاد بأن وراء هذا الكون قوة خارقة، وقد أسموها إليهاً، وقدموا لها الطقوس، وسموا هذه الطقوس الديانة، وبذلك اهتدوا إلي الله. إن الكاتب الإنجليزي هنا يؤكد أن الطلقة الأولي كانت في اتجاه العقيدة الصحيحة التي انتبه إليها وسار في طريقها من جاءوا بعد ذلك من عظماء البشرية، وقد استطاع عقل أولئك المصريين أن يرتبط مبكراً جداً بذلك العقل الكبير الكامن خلف قوي الكون، وأن يلهمهم بأن لهم حياة أخري بعد هذه الحياة، وانهم محاسبون حساباً دقيقاً أمام ذلك العقل الكبير عن أفعالهم في حياتهم الأولي، فيما تتجرد أرواحهم من هياكلها المادية لتخلد هناك في برازخ الأبدية، حيث تجزي أرواحهم بالخير خيراً وبالشر شراً . وبهذه العقيدة خطا المصري القديم خطوة واسعة نحو المدينة الرشيدة التي جاءت مخاض إيمان صحيح وديانات سماوية قويمة.. ويؤكد أن حضارة الفراعنة كانت هي مشرق نور الحضارة الإنسانية في عالم بدائي كان يعيش وسط الظلمات. قادت حضارات بلاد الرافدين والصين والهند، وفي مقدمتهم حضارة الفراعنة، الإنسانية، وكانت هذه هي أولي الحضارات النهرية، بعد أن استقرت مجموعات من البشر حول هذه الأنهار لتعطي منتوجها الفكري والعقلي والإبداعي، في تطور ونضوج لم يتح للبلاد الأخري؛ قادت مسيرة الحضارة الإنسانية، ويكمن هذا التميز الحضاري بشكل أساسي، فيما أسمته أستاذة المصريات بجامعة ويلز كاشبا كوفسكا ب»الدولة المركزية« التي كان النهر سبباً رئيسياً في تمركزها حوله. (5) وإذا كانت الطبيعة قد أعطت لهذا البلد العظيم مصادر تميزه في الحضارة والإبداع التي اعترف بها العالم أجمع، فهل يأتي دورنا اليوم لندمر هذه الحضارات وهذا التراث الإبداعي الإنساني بفأس أو ديناميت، لأننا نري فيها كفراً وزندقة وإلحاداً وخروجاً عن الإله ومقتضيات الشريعة؟؟ لقد كان الإنسان المصري في مصر الفرعونية أول من نظم الحياة الدينية ببناء المعابد، ونظم الشئون الاجتماعية بتنظيم الأسرة وسن القوانين للزواج والميراث والحياة، ومصر القديمة كانت أولي الدول التي تدير شئون حياة مواطنيها وتنظيمهم. لقد جاءت الحضارات المصرية-كما يقول كلير لالويت- انعكاساً لروحانية سامية لشعب له خصوصية، ونحن نري في حضارتنا التي أثرت العالم، مجرد أصنام وحجارة ودعارة وكفر. إن النقوش والرسومات واللغة المنقوشة علي المعابد والرسومات والآثار المصرية، إنما تعكس مشاهد الحياة اليومية في مصر القديمة كما تعكس تاريخنا وتراثنا وإبداعتنا الفنية، فكيف لنا أن ندمر كل هذا التراث الذي أثري الإنسانية وحضارتها، باعتبارها كفراً وإلحاداً وخراباً يستاهل التدمير؟؟ إن عمر الفن المصري، هو أطول عمراً في تاريخ الفنون علي مستوي البشرية، ويتساءل كلير لالويت عن سر هذه الاستمرارية في وسائل التعبير لدي المصريين القدامي، فيقول : »لماذا صممت المعالم الصرحية في أغلب الأحوال بأحجام شامخة ؟ ولماذا هذا العدد الكبير من التماثيل في المعابد والمقابر؟ لماذا اجتهدت نقوش المقابر ورسومها، في نقل كل حركات وإيماءات الحياة اليومية ومشاهدها بإبراز الواقع كما هو ؟ ولماذا أخيراً هذا الفيض من الصور التي لا مثيل لها ولاتكاد من كثرتها تقع تحت الحصر«.