في أوقات تخلف الأمم، يصبح اللعب بالدين تجارة رائجة.. هكذا لخصا ابن خلدون القضية ، وهي القضية التي تطفو علي السطح هذه الأيام ، بعد أن تنامي بعض التيارات الدينية المتأسلمة والمتشددة ، والتي تبعد عن سماحة الإسلام ووسطيته ، والتي تهدد الهوية الثقافية والحضارية والإبداعية والتاريخية لهذا الشعب المصري العظيم ، وذلك بالمحو والحرق والفناء والتدمير والتحطيم والتخريب . وكان الشيخ مرجان سالم الجوهري وغيره ، هو من أعاد هذه القضية إلي السطح ، بعد أن طالب في إحدي حلقات برنامج العاشرة مساءً الرئيس مرسي أن يقتدي برسول الله لتدمير الأصنام . الشيخ مرجان وتدمير الآثار والشيخ مرجان الشهير بالشيخ حسان ، هو أحد أعضاء الاتجاه السلفي الجهادي الذي كان ضمن الخمسين فرداً الذين حضروا وشاركوا في تدمير تمثالي بوذا في (باميان) بأفغانستان . وكانت حكومة الملا عمر قد رفضت من قبل الانصياع لرغبة أحد قادتهم بتدمير تمثالي بوذا ، وكان المبرر هو أنهما مصدر دخل للدولة ، ولكن بعد مرور عامين غير الملا عمر رأيه، وأمر بتدمير تمثالي بوذا وعلي أثر ذلك ذبح مائة بقرة تكفيراً واعتذاراً للرب علي تأخره في تدمير تمثالي بوذا . وفي برنامج العاشرة مساءً ، أطلق الشيخ مرجان صرخته المدوية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها ، حين قال : " إن الحاكم المسلم المتمكن لابد أن يحطم الأهرامات وأبو الهول ، وكل هذه الأصنام ، اقتداء برسول الله الذي حطم 360 صنماً حول الكعبة ، وأرسل الصحابة لتحطيم الأصنام البعيدة عنها." ... معتبراً أن حضارة الفراعنة تخالف الشريعة ، وخاصة كما يقول أن الفراعنة لم يكونوا من المؤمنين، ولكنهم كانوا كفاراً، وهو لذلك لا يُقر ولا يعترف بحضارتهم. وقد وصف د.رأفت النبراوي عالم الآثار الإسلامية دعوي هدم الآثار بأنها خبل وضرب من الجنون ، حيث قال »ما هذا الخبل ؟ أبسط وصف يمكن أن يقال بعد سماع ما قاله ذلك السلفي القادم من تورا بورا ليعلن لنا عقيدته التي تؤمن بهدم أبو الهول ، وتفجير الأهرامات بدعوي أنها أوثان ، تعبد من دون الله ، ما هذا الخبل ؟ بعد أكثر من أربعة عشر قرناً تأتي أفكار من تحت أنقاض الجهل والتخلف والردة لتعلن عن نفسها وسط مناخ التدين الذي شاع في البلد، واستدعي هذه الأفكار ، وشجع أصحابها علي الجهر بها ، وخطورة ظهور مثل هذه النماذج الهدامة للفكر وللعلم ، أنها تحدث لغطا وضجيجاً وتشويهاً للوعي ، وانشغال الناس بها عن همومنا الاستراتيجية التي نحن بصددها لبناء دولتنا الحديثة.«(1) إن عالم الآثار الاسلامية يستنكر هذه الخرافات بعد مرور أكثر من اربعة عشر قرناً من دخول الاسلام إلي مصر ، والتي لم يحدث فيها هذه الدعاوي ، ويؤكد أن الآثار هي تراث الأمة يعبر بها عن نهضتنا وحضارتها ، وتعكس كل نواحي الحياة التي عاشتها في الفترة التي صنعت فيها حضارتها ، فكيف نطمس حضارة أمة ، وهنا يضرب مثلاً في الفترة التي تم فتح مصر فيها عام 21 هجرية علي يد عمرو بن العاص قائد جيوش ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب ، حيث يقول : "فقد رأي عمرو الأهرامات ، وأبو الهول ، ولم يكونا تحت الأرض ، كما رأي المعابد المصرية القديمة والكنائس وكان معه عدد من الصحابة الذين شاركوا في تحديد قبلة جامع عمرو بن العاص بمصر القديمة ، وكان عددهم ثمانين صحابياً تقريباً ، رأو كل هذه الآثار مع عمرو وأعجبوا بها ، ولم يأمروا بهدمها بل كانت الدعوة إلي الحفاظ عليها وترميمها (....) كما أن هذه الآثار عاصرها وشاهدها وأمر بالحفاظ عليها ، الحكام وعلماء الدين الذين تعاقبوا علي حكم مصر كالأمويين والعباسيين والطولونيين، والأخشيديين ، والفاطميين ، والأيوبيين ،والمماليك والعباسيين." ويكمل بأنه لم يحدث في التاريخ أن قام أحد رجال الدين بهدم أثر من آثار مصر المنتشره في كل ربوعها . فلم يكن الهدم هو منهج المسلمين ، وإلا ما كنا رأينا تلك الآثار العظيمة، ويصف فكرة الهدم هذه بأنها ردة فكرية وتخلف عقلي . إعادة مصر إلي الإسلام في جريدة النيويورك تايمز كتبت ليزا رود نوردلاند ومي الشيخ أن (الاسلاميين يريدون إنهاء المهمة التي بدأها الفاتح الإسلامي عمرو بن العاص وكأنهم يقصدون إعادة مصر إلي الاسلام بالشكل الذي يعتقدونه صحيحاً)(2) وتعلق النيويورك تايمز في هذا المقال علي أقوال بعض الشيوخ من أمثال البحريني عبد اللطيف محمود والسعودي علي الربيعي بقولها : "هذه القصص تصرفات رخيصة تهدف إلي جرح مصر وصورتها« بحسب رأي السيد نور الدين أستاذ الآثار. ويستكمل المقال وصفه لتصريحات شيوخ السلفية بأنها: »تصريحات متطرفة من قبل بعض السلفيين الأكثر تحفظاً في آرائهم ،مقارنة بالاخوان المسلمين، ويحتقرون جميع أعمال الفن التي تمثل الهيئة البشرية ،لأن مثل هذه الأعمال تعتبر بديلاً لخلق الله«. الشيخ وفهم التاريخ ويبدو أن الشيخ الذي أفتي بتدمير الآثار وتكفير الفراعنة ، لم يقرأ التاريخ ، ولم يعرف حلقاته، ولم يدرك أن ما أطلق عليهم أصنام الفراعنة ، كانوا في مرحلة تاريخية سابقة علي عصر الرسول (صلي الله عليه وسلم) بما يقرب من ستة آلاف سنة، ولا يمكن أن نطلق عليهم صفة الكفار، لأن دعوة الرسول إلي الإسلام كانت في أزمان تالية عليهم بآلاف السنين، ولم تكن دعوة الإسلام قبلهم أو في عصرهم، مما ينفي عنهم صفة الكفار، لأنه لم يكن في زمانهم إيمان بالدين الإسلامي أو دعوة إليه، وعلي النقيض يمكن اعتبارهم مؤمنين بآلهتهم التي كانت في أزمانهم؛ وهم من قادوا الحضارة الإنسانية ، وهم من مهدوا وعبرَّوا الطريق إلي الإيمان واكتشاف الديانات . لقد صنعوا تماثيل الآلهة بالطبع قبل دعوة الرسول إلي الدين الإسلامي وتعبدوها ، وكان الفراعنة أولي الشعوب التي عرفت طريقها إلي الإيمان وإلي الإله ، وكانت تماثيلهم هي المقدمة الأولي للإنسان البدائي والتي قادته إلي طريق الإيمان . لقد كانت فنون الإنسان المصري القديم ، ما هي إلا تجسيد للفكر الديني ، والإيمان الديني قبل أن يُرسل الله رُسله إلي الإنسان . لقد كان الشعب المصري شعباً من الفنانين والمبدعين والمؤمنين ، كان يمارس فنه وإبداعه تكريساً لفكره الديني ، وتكريساً لإيمانه بخالق هذا الكون في صور شتي مختلفة ، حتي جاء الرسل لتصحيح مسار الإنسانية في طريقها الصحيح ، وبذلك فإن ما فعله المصريون الأقدمون ، لم يكن غير المقدمة المنطقية التي قادت البشرية إلي طريق الدين والإيمان بالله. ولكل هذا قال كلير لالويت : "أن مصر هي الأرض التي خصتها الألهة بحبها، إنها المكان المفضل لتفكير ديني ثاقب وبذلك، فإن مسيرة الانسان المصري القديم ، لم تكن سوي مسيرة روحية طويلة، وقد اتسمت بالفكر الديني المصري." حكاية إيزيس وأوزوريس ونموذجاً كانت حكاية أيزيس وأوزوريس التي تصور الشر متمثلاً في ست ،وهو يمزق أخاه أوزوريس إلي أربع عشرة قطعة ، ويلقي بها في أماكن متفرقة، وهنا قامت زوجته وأخته إيزيس ونفتيس بالبحث عن أشلائه ، وأعادت أمه نوت ربط عظامه وترتيب أعضائه في مكانها ليبعثه رع من جديد إلي الحياة. وهذه إحدي الروايات عن هذه الأسطورة متعددة الجوانب ، ويأتي حورس بن أوزوريس بعد أن حملت منه إيزيس لينتقم من ست ويعيد الكون إلي عدالته. وتصور هذه الأسطورة الخصال الحميدة في الإنسان من وفاء الزوجين وسحق الشر عن طريق الابن حورس. ومن خلال الموت والبعث تشير الأسطورة إلي طور الحياة ، وهي تصور تناقض الحياة في صراعها بين الخير والشر ؛وتقف الأسطورة في النهاية بجوار الخير الذي ينتصر في النهاية ضد شرور هذا العالم . كانت هذه الأساطير ،والتي أقيم من خلالها التماثيل ، هي مقدمة الإنسانية إلي طريق الدين والإيمان بالرب، وإلي طريق الخير والصلاح بعيداً عن شرور الأشرار الذين لايفكرون إلا في الهدم والتدمير والايذاء. وكان أحد البحاثة في المذاهب الدينية ، ويدعي محمد حمدي شاشة ، قد ادعي علي شاشة قناة C.B.C ببرنامج صباح الخير يا عرب ، أن الباحثين يعلمون تماماً بأن الأهرامات قد بنيت بواسطة : " الدعارة التي مارستها بنات خوفو وخفرع ومنقرع اللواتي كن يحصلن علي الحجارة كأجرة زني" ..، مشيراً إلي أن هناك كتباً في دار الكتب المصرية تؤكد علي ذلك ، بما فيها أعمال هيرودوت، وهي متداولة في السوق . هيرودت والحضارة المصرية القديمة وفي الواقع كان هيرودت (489 425ق.م) قد تحدث في كتابه بالباب الأول عن مصر بإسهاب شديد عن أرضها وتكوينها وطبيعتها وأثر نهر النيل في حضارة المصريين القدامي وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم وعباداتهم وفنونهم ، من بناء الأهرامات والمعابد والقصور والتماثيل ، كما تحدث عن تاريخ الملوك. وكان هيرودوت قد سمع قصه ملفقة عن بناء هرم خوفو ، وقد سلك سلوكاً معيباً ليحصل علي نفقات البناء، وهو ما نفاه البحاثة، لأن هيرودوت لم يكن يعرف اللغة الفرعونية القديمة ، وكان يستقي معلوماته من بعض اليونانيين الذين كانوا يقيمون في مصر ، وبعض الحكاوي المثيرة التي نسجها خيال العامة، والتي لم يكن لها مكان من الصحة. لقد أنكر علية البحاثة أن يصدق مثل هذه القصص السخيفة التي لامكان لها من العقل أو التصديق، ليوصم بها شعبا كانت الفضائل لديه، خاصة العفة والشرف من قواعد الإيمان. وكان مصدر الهجوم علي خوفو بهذه القصص المختلفة ، هم الداعون إلي عبادة الشمس من أعدائه الذين لفقوا له هذه الحكاوي والتهم الملفقة الكاذبة وغير الصحيحة. وقد أكدت الآدلة أن المعلومات التي حصل عليها هيرودوت ، كانت من رواته من الاغريق الذين كانوا يعيشون في مصر ، بعد أن استغرقتهم تلك الحكاوي الساذجة التي انتشرت بين العامة وقد روجها أعداؤه . وكان هيرودوت قد زار مصر في القرن الخامس ق.م ، حين كانت مصر تقع تحت حكم الفرس . ويؤكد البحاثة ، أن هيرودوت قد خُدع فيما سمع من روايات أبناء وطنه الذين كانوا في مصر أثناء الاحتلال الفارسي، كما أنه كان ينزع للتهويل ليعطي رواياته شكل الإثارة ، وكان هيرودوت كثيراً ما يردد قول : أنه لم يصدق ما يسمع . وقد جاءت هذه الروايات التي روجها أعداء الفراعنه علي هؤلاء الذين يريدون تدمير أثار مصر ، فرددوها كالببغاوات لينتقموا من حضارة، سبقت حضارات العالم، وأنارت الطريق للإنسانية . ابن خلدون وخراب البلاد : وربما ينطبق قول المؤرخ والعلامة عبد الرحمن ابن خلدون التونسي الأصل، ثم القاهري ( ولد في تونس عام 732ه وتوفي في القاهرة 808 ه ودفن بها) في مقدمته في "أن العرب إذا تغلبوا علي أوطان أسرع إليها الخراب" وهو يؤكد أن السبب في ذلك يرجع إلي أنهم "أمه وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم ، فصار لهم خلقاً وجبلة (...) وهذه طبيعة منافية للعمران ومناقضة له .)(3) وهو الوصف الذي ينطبق علي بعض من يدعون الإسلام ، وهم منهم براء ، وهم يبدون فظي اللسان والقلب ، يسبون ويلعنون ويكذبون ويحرضون علي القتل أمام الملايين علي شاشات التلفاز ، وبعضهم يمسك متلبساً بالكذب وإرتكاب الفحشاء في الطريق العام . هوامش 1أخبار الآدب 2/12/2012 ، حوار أجرته مني نور تحت عنوان (الدعوة إلي هدم الآثار ضرب من الجنون) 2وقد ترجم المقال لجريدة التحرير سارة حسن بتاريخ 25/7/2012 3مقدمة ابن خلدون ، تحقيق د.علي عبد الواحد وافي ، مكتبة الأسرة ، 2006، ج2 ص508