خلال العامين الماضيين انتشرت رسوم الجرافيتي علي حوائط الميادين والشوارع، سواء في القاهرة أو المحافظات، وكانت بمثابة تسجيل أمين ودقيق للثورة ومساراتها المختلفة ورموزها وشهدائها، ومثلت الكلمات والجمل التي واكبت هذه الرسوم رسائل واضحة سواء لرموز النظام السابق، او للمجلس العسكري وقيادته، وأخيرا للدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية، وجماعة الاخوان المسلمين. وقد واكب هذه الرسوم، صدور أكثر من كتاب يحلل هذه الظاهرة، ويوثق لرسوماتها، مثلما فعل الأديب شريف عبد المجيد في كتابين، وينتظر صدور الكتاب الثالث في معرض الكتاب، ورغم أن كتاب »جرافيتي .. شاهد علي الثورة« للدكتور أحمد سليم- الصادر عن سلسلة كتاب اليوم الثقافي- يسير في ذات الإطار الوثائقي، إلا أنه يعد إضافة حقيقية للمكتبة العربية في هذا المجال، لأنه شمولي في طرح رؤيته، لم يكتف بتوثيق هذا الفن في القاهرة والأقاليم فقط، والوقوف عند اللوحات التي تعبر عن مسار الثورة، وإنما تعرض لهذا النوع من الفن في البلاد العربية، التي شهدت الثورات مثل: تونس، ليبيا، اليمن، وسوريا، كما أصل للجذور المعرفية لهذا الفن، وربطه بفن " المخربشات"، وتوقف- كذلك- راصدا دوره الرئيسي في إذكاء المعرفة والثقافة بين مختلف الفئات المجتمعية، ولم ينس أن يطلعنا علي تطور هذا الفن في أوروبا، وأهم رموزه. إبداع جماعي فعلي المستوي الشخصي كنت دائما أنظر للجرافيتي، باعتباره إبداعا جماعيا تظهر فيه العبقرية المجتمعية، مثله مثل السير الشعبية، التي لا تستطيع أن تنسبها لشخص بعينه، وإنما تنسب لأمة، ولعل هذا هو ما أشار إليه د.أحمد سليم في إطار تحليله للقيم الجمالية لفن الجرافيتي، حينما أكد أنه فن يتسم بروح الفنون الشعبية الخالصة، نظرا لالتحامه الوثيق بالشعوب خاصة بالطبقات الفقيرة والوسطي من العالم، واستمر فن الجرافيتي بمفهومه القديم منذ العصور البدائية القديمة وتطور بتطور الإنسان وحضاراته المختلفة، وسمي في الحضارات بفن النقوش أو الرسوم الجدارية، أما في الحياة الشعبية فقد استمر وتلون بلون المناطق، التي أنتجته ومثل لها قيمة، وقد ارتبطت موضوعاته بالعادات والتقاليد والمناسبات الاجتماعية والدينية، فظهر في صورة رسومات مباشرة علي أسطح المباني الشعبية كرسوم الحج وغيرها، وأخذ شكله المميز والمعروف في المناطق الغربية، ولكن مع ذلك فإن سمات الفن الشعبي والاقليمي مازالت باقية فيه خالصة، وتطور الجرافيتي بتطور فكر الإنسانية من منطقة لأخري، ففي المناطق النائية يقوم بتنفيذ الأعمال مجموعة من الفنانين الشعبيين ذوي الثقافة الفنية المحدودة، حيث كان يعرف الجرافيتي سابقا، بأنه فن الطبقات المحرومة والفقيرة، التي تهدف إلي التعبير عن نفسها بواسطة هذا الفن، وتراوحت أعمال رساميه بين الثامنة والثلاثين من العمر، ولكن الظاهرة ازدادت أكثر ولم يعد ذلك الفن محصورا للفقراء، وذلك عندما بدأت الطبقات الوسطي والراقية التعبير عن تمردها بهذه الطريقة، لأنها أصبحت تمثل لهم شيئا من الإحساس باليقظة وبالتعبير عن الرأي من خلال تحدي النظام والقانون بطريقة غير مؤذية، والتي تنعكس علي شكل العناصر والمعالجات التشكيلية، وأن وحدة السمات تكمن في عملية المزج ما بين عناصر الرسم والعناصر الكتابية بأسلوب متماسك، وكأنه وحدة تكوينية واحدة. خطوة بخطوة مع الثورة وإذا عدنا إلي ربط الجرافيتي بالثورة المصرية، نجد أنه منذ اليوم الأول للثورة، ظهرت الأعمال التي عبرت عن الثورة، وهي لازالت في مهدها، فقد نفذ في يوم 25 يناير 2011 لوحة فيها صقر ملون بعلم مصر يحلق في السماء الزرقاء فوق القاهرة، ومكتوب بداخل اللوحة كلمة فيس بوك، في إشارة إلي المصدر الرئيسي لإشعال هذه الثورة، وبدأ بعد ذلك ميدان التحرير يشهد الأصوات المنادية برحيل النظام، متواكبة مع رسومات الجرافيتي التي سعت لذات الهدف، وقد تم استخدام كافة الأدوات للتعبير عن المراد، فقد قام شباب الثورة بتجميع فارغ طلقات الرصاص الحي والمطاطي وقنابل الغاز التي أطلقت من قبل رجال الأمن المركزي في جمعة الغضب، وما تلاها من أحداث، خاصة الاشتباكات التي وقعت أمام وزارة الداخلية، عندما أراد الثوار اقتحامها، تعبيرا عن الغضب من تصرفات رجالها مع أبناء الشعب الثائر علي الظلم والفساد، وقد نتج عن هذه الأيام تكوينات متعددة الأشكال والكتابات لفن الجرافيتي، منها كتابات مثل " الله أكبر"، تعبيرا عن نشوة الانتصار والاصرار علي الاعتصام بالميدان، حتي تحقيق جميع المطالب، وقد جمع الثوار قطع الفارغ من طلقات الخرطوش والرصاص وقنابل الغاز، وتثبيتها علي الجدران في تشكيل فني معبر عن صعوبة الأحداث التي واجهها الثوار. تعبيرعن الغليان الشعبي وكما اشتعلت الثورة في أكثر من محافظة، تزامن مع هذا الاشتعال والغليان الشعبي، رسوم الجرافيتي، التي عبرت عن ذلك، لذا شهدت السويس، وبالتحديد ميدان الأربعين الثورة، والرسوم الجرافيتية معا، ومن ذلك سور محطة القطار، الذي يبلغ طوله أكثر من 600 متر، نفذت عليه بالكامل رسومات وكتابات، عبرت عن أهمية السويس وعن أحداث الثورة التي وقعت فيها، ومن ذلك نجد جزءاً من اللوحة الجرافيتية فيها كتابات تعبر عن الثائر الحق، الذي يظل ثائرا لدفع الظلم والفساد، وقد انتشرت في رسومات الجرافيتي رسومات لمجموعة من الجنود والثوار، الذين يرفعون أذرعهم لأعلي، ويمسك أحدهم بعلم مصر، تعبيرا عن الانتصار، وبداية أحداث الثورة، ويعلو الجنود صورة شخصية لثائر من الشباب يدفع يده لأعلي، ومن أسفل السور توجد بعض المعالم المميزة للمدينة كالفنار، الميناء، بعض المصانع التي تشتهر بها. ويتوقف كذلك د. أحمد سليم أستاذ التصوير الجداري المساعد بكلية الفنون الجميلة، أمام اللوحات التي انتشرت في الإسكندرية معبرة عن غضب الثوار وشعاراتهم الرئيسية، وكذلك ظهور مجموعة من الفنانين من الأقصر، الذين قدموا رسوما جرافيتية عن الثورة في مدينتهم، وشاركوا- أيضا- برسومات في القاهرة يتضح فيها تأثرهم بالطابع الفني للتصوير الجداري المصري القديم، وقد أطلقوا علي انفسهم رابطة " جرافيتي الفراعنة"، ومن ذلك لوحتهم الجرافيتية التي جاءت علي هيئة مجموعة من الأشكال السيريالية المختلفة التي تشبه الرسوم الفرعونية العفوية، التي تذكرنا برسوم من الفن الفرعوني، ونلاحظ في هذه اللوحة التعبير عن الفوضي وعدم الاستقرار من خلال الأشخاص والكائنات المختلفة في أوضاع طائرة ومتسلقة وهاوية لأسفل تثير الفزع والقلق، وتوجد مساحات متقطعة من لون الخلفية ما بين الأحمر الصارخ ودرجات من الرمادي، التي تتزاحم مع مساحات من الأسود لأشكال لبعض الحيوانات المفترسة التي تلتهم الأشخاص، واللوحة تعبر عن شدة التخبط والفوضي وعدم الاستقرار الأمني بشكل خاص. وكما كانت لوحات الجرافيتي تؤرخ لشعارات الثورة المصرية، كذلك احتفت برموز هذه الثورة وشهدائها، فظهرت بعض الجداريات التي حملت صوراً شخصية لشهداء جمعة الغضب وموقعة الجمل، كما اهتم فنانو الجرافيتي برصد المشاكل الحياتية التي تقابل المواطنين، ومن ذلك التعبير عن الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب، كظاهرة النقص الحاد في الوقود، خاصة أسطوانات الغاز والسولار والبنزين، وعبر فنان الثورة عن هذا، برسومات علي هيئة مجموعة من النساء والرجال في تزاحم شديد يحمل كل منهم، أسطوانة غاز فوق الأعناق، أو بين الأيدي، والمشهد صور بشكل واقعي معبر عن البيئة المصرية، وتعبيرا عما يعاني منه الأهالي في الأقاليم والمناطق الشعبية. الجرافيتي في البلاد العربية ويوضح مؤلف الكتاب كيف سايرت الرسومات مسار الثورة، متوقفا عند العديد من الأحداث التي وقعت بعد سقوط النظام، ومنها أحداث الفتنة الطائفية، وانتشار الرسوم الجرافيتية التي نادت بعودة العسكر لثكناته، وكذلك رصد لأحداث شارع محمد محمود، وأحداث بورسعيد. ويفرد المؤلف فصلا عن الجرافيتي في البلاد العربية، وبيبن أن مدينة أصيلة بالمغرب، اهتمت بفنون التصوير الجداري بصفة عامة ومنها فن الجرافيتي، حيث كان ينظم بها مهرجان للفنون يلتقي فيه العديد من الفنانين من جميع أنحاء العالم، ونتج عن هذا التجمع السنوي- الذي كان يقام قبل ربيع الثورات العربية- أن تحولت قرية أصيلة إلي متحف للفنون، وعرفت بجمال منازلها وزخارفها الملونة، كما اهتمت العديد من الدول بهذا الفن مثل السعودية،الكويت، والبحرين. كما لعب الجرافيتي دورا تحريضيا في الثورة المصرية، وكذلك دورا توثيقيا لأحداثها، تم نفس الشئ في بلاد الثورات العربية: تونس، ليبيا، اليمن، سوريا. ومن ضمن فصول الكتاب، دراسة عن نشأة الجرافيتي في العالم وتطوره، وأهم رموزه الفنية.