بدأ أسامة أنور عكاشة قاصا وانتهي روائيا لكن شهرته كانت في مكان آخر، حيث صار بعد عدة أعمال ناجحة قدمها في بدايات الثمانينيات أبا للدراما. وليس بين المصريين والعرب من حاز شهرته في هذا المجال، ولدت علي يديه مكانة كاتب السيناريو. وأصبح للمرة الأولي في تاريخ الدراما اسم السينارست ضمانة لجودة المسلسل، فكانت تترات المسلسلات ابتداء من الشهد والدموع والراية البيضا وليالي الحلمية وأرابيسك وحتي آخر ما عرض من أعماله المصراوية تبدأ باسمه قبل أسماء المخرج والنجوم. وعلي الرغم من ذلك لم يكن يخفي ألمه من عدم رسوخ اسمه في عالم الرواية التي يعتبرها مجد الكاتب. جاءت مجموعته القصصية الأولي بعنوان خارج الدنيا وقدمها أمين يوسف غراب عام 1967 وروايته الأخيرة سوناتا تشرين عام 2009. وبينهما كانت رواية أحلام في برج بابل عام 1973، ومجموعة قصصية بعنوان مقاطع من أغنية قديمة عام 1985، ورواية منخفض الهند الموسمي عام 2000، ورواية وهج الصيف عام 2001. كما قدم عدداً من المسرحيات، بينهاالقانون وسيادته، والبحر بيضحك ليه، والناس اللي في التالت وولاد الذين لكن ما أضافه إلي الدراما التليفزيونية كان أكبر مما يعتقد الجميع، بمن فيهم أسامة أنور عكاشة نفسه. كانت هناك رسالة واحدة يعيد أسامة تأكيدها من عمل لآخر، أو لنقل رسائل قليلة تتعلق بالعدالة الاجتماعية (أكثر ما أحبه في عبدالناصر) والحس القومي العروبي والبطل الشعبي الذي بوسعه أن يقود التغيير. وليس من النادر أن نجد كاتبا روائيا أو شاعرًا أو قاصا يؤمن بهذه القيم ويدور حولها في كتاباته، بل إن هذا هو العادي، لأن أغلب الكتابة تأتي من اليسار، لكن عبقرية أسامة أنه جعل هذه الأفكار مادة للدراما التليفزيونية. وهي من جهة خبز المواطن غير المثقف، البعيد كلية عن هذه الأفكار، ومن جهة أخري وهذا هو الأهم أن الدراما عمل جماعي، تأتي ميزانية إنتاجه من الدولة قبل انتشار شركات الإنتاج الخاصة. كانت الدولة التي تمول إنتاج الراية البيضا أسيرة توحش رأس المال، عندما مولت مسلسلاً يمجد قيمة الجمال في فيلا الأستاذ الجامعي مفيد أبو الغار في مواجهة جهل تاجرة السمك فضة المعداوي التي تريد شراء الفيلا بالإكراه لتبني عليها برجا سكنيا. وكان دين الدولة، ولم يزل ساداتيا، عندما رفع أسامة أنور عكاشة عبدالناصر في السماء بملحمة ليالي الحلمية وتعرض لحملات صحافية ضارية لكونه يبث الأكاذيب بأموال الشعب المصري! هكذا، ودائما ينتبه النباحون إلي أموال الشعب المصري عندما يتعلق الأمر بحرية الإبداع والتفكير، ولكن هذه الحملات لم توقف توالي الأجزاء الخمسة من المسلسل الذي تناول ثلاثة أجيال من عائلتي الباشا المديني سليم البدري والعمدة الريفي سليمان غانم، ومعهما تحولات مصر من الملكية حتي تداعي التسعينيات. لم يكن توالي أعمال أسامة أنور عكاشة دليلاً علي ليبرالية الحكومة وقطاع الإنتاج بتليفزيونها، بل شهادة لعبقرية في الكتابة لم يملك من يعارضون رؤيتها إلا أن يغضوا الطرف عنها، ويدعوها تمر. في الليالي استلهم أسامة طريقة كتاب روايات الأجيال، من توماس مان إلي نجيب محفوظ، لكن خماسيته التليفزيونية تختلف عن ثلاثية صاحب نوبل ليس في الجدل السياسي الذي يبدو في الحوار فقط، بل في الجدل الاجتماعي بين القرية والمدينة، حيث عرف أسامة المكانين بعمق لم يتوفر لنجيب محفوظ الذي عاش ومات في القاهرة، وأحب الاسكندرية كمدينة بديلة، ومثله وأكثر فعل أسامة للمصادفة البحتة. الليالي هي ذروة إبداعه، لم يكتف فيها برسم بطل وحيد أو عدد قليل من الأبطال مع الكثير من الظلال والشخصيات الباهتة، علي الرغم من إيمانه بأسطورة البطل الشعبي، لكنه منح كل شخصية حضورها الخاص وتكوينها النفسي والقيمي ولغتها وتوجهاتها في الحياة. ولذلك فقد تعمقت علي يديه نجومية يحيي الفخراني وسهير المرشدي ومعه صارت الراقصة لوسي ممثلة قديرة بحق، وقدمت صفية العمري أقوي ختام لحياة فنية غير لامعة، ومثلها سمية الألفي، التي ستبقي مشاركتها علامة نادرة في مشوار محدود التميز. كل الشخصيات في ليالي أسامة ولدت من لحم ودم، ولم تكن مجرد دمي تتحرك بين ثنائية الباشا الرومانسي والعمدة الفكاهي، دور عمر صلاح السعدني. مات المؤلف، وسيبقي ما كتب.