يعد نعمان عاشور (1918-1987) من أهم مؤسسي المسرح الواقعي في بلادنا، حيث أدرك بوعيه الثقافي المبكر أن المسرح من أهم الأنواع الأدبية - إن لم يكن أهمها علي الاطلاق - لأنه ينقل الواقع الانساني حيا في حواره الدرامي وشخصياته وهو يعكس الواقع جماليا من خلال لغة درامية تعتمد علي الايحاء رغم واقعيتها.. وكل ابداع فني وأدبي يجب أن تكون لغته بعيدة عن المباشرة متخذة من المجاز أداة للتشكيل.. ويتجلي هذا مضيئا في أعمال نعمان عاشور المسرحية كلها ومنها رائعته (عيلة الدوغري) التي كتبها في العنوان وحده بالفحصي (عائلة الدوغري). فلغة الحوار التي يتكون منها النص المسرحي في فصوله الثلاثة بالرغم من واقعيتها التي توهم بغرقها في الشعبية عبارات وجملا تثير الكثير من الأفكار والمعاني التي تحملها عاميتنا المصرية التي اختارها نعمان وسيلة لإبداعه وكانت تشرق في حوارات قصصه القصيرة لكنها صارت أشد اشراقا في مسرحه. 1 والجميل في عاميتنا التي منها ينهل أبطال نعمان عاشور أنها بالرغم من كونها فصحي إلا في القليل من مفرداتها تكون أشد فصاحة من الفصحي وذلك لأن العبارة العامية المكونة من مفردات بالفصحي لو حاولنا فهمها بالفصحي لوجدنا معاني مختلفة عن معانيها بالعامية ولنجرب في هذه العبارات من الحوار المتميز لنعمان عاشور: - كان ضارب تفليسة - يا راجل بر نفسك - الزلط اللي بقبش رجليك - نرسي مع بعض علي بر - استني كده لما تستلقي وعدك - انت ليه تمطوحني؟ - أوعي تكون كلفت أبوالسيد؟! - ما فيش حاجة هتيجي علي قدك - اياك دا كله يتمر فيك!! - شرابة خرج 2 يسبح النص المسرحي عند نعمان عاشور في الواقعية منذ أن يفتح الكاتب النص الي أن يغلقه عبر الفصول الثلاثة التي تتكون منها مسرحية (عيلة الدوغري). ويبدأ العوم بأسماء الشخصيات وبالسرد النثري الذي يضعه المؤلف في بدايات الفصول وفي الملاحظات التي نضعها بين قوسين مصورا الحالة التي تكون فيها الشخصية لحظة الحوار.. أو تلك التي قد تقطع الحوار في حديث بعض الشخصيات: السيد - مصطفي - حسن - عيشة - زينب - كريمة - علي الطواف - أبوالرضا شنن - سامي الذي هو الأحنف - أزهار - أحمد.. سنجد لكل من هذه الأسماء صلة بالشخصية التي تتسمي بها.. ويبدأ هذا من عنوان المسرحية نفسه (عيلة الدوغري) وسنجد هذه الشخصيات (حال فعلها الدرامي) تطلق علي بعضها ألقابا أو كني، تؤكد ما يوحي باسمها.. وهو ما يحدث في حياتنا الشعبية التي اختارها نعمان عاشور بيئة لمسرحه.. فالسيد هو (أبوالسيد) و(سي السيد) وعرب - ومصطفي هو (درش) و(أبودرش) و(أبوالدراويش) - وحسن هو (أبوعلي) وابراهيم (أبوخليل). 3 تدور أحداث المسرحية حول الصراع بين الطبقات الاجتماعية وهو ما كان يشغل بال الكتاب الواقعيين ومنهم - إن لم يكن أول صفهم - نعمان عاشور (سعد وهبة - ميخائيل رومان - ألفريد فرج - نجيب سرور).. ولاشك أن هذا الهم كان الشاغل الأول للثورة الناصرية المجيدة 1952 وقد ظل شاغلها الأهم حتي وفاة زعيمها جمال عبدالناصر 1970 خرجت الطبقة الوسطي من قلب الكادحين فلاحين وعمالا فعاشت زمنا تجتهد بشتي الوسائل لتصعد الي الطبقة الأعلي متخلية عن جذورها تاركة خلفها الفقراء من ذويها منغمسين في واقعهم الكئيب.. غير أن البعض من الصاعدين من أبناء هذه الطبقة ظلوا صامدين.. متمسكين بالأرض.. مجتهدين في سعيهم لتطويرها ونقلها واقعيا الي الأجمل والأرحم ونعمان عاشور واحد من هذه الشريحة التقدمية من أبناء الطبقة الوسطي. 4 اجتهد نعمان عاشور في مسرحيته (عيلة الدوغري) كما في كل ابداعاته الدرامية وبخاصة في (الناس اللي فوق - الناس اللي تحت - تلات ليالي - وابور الطحين) أن يرتقي بالواقع من خلال زرع القيم النبيلة التي يجب أن تسود هذا الواقع حتي يرقي فكان أن أسهم في غرس الوعي الفكري الذي ينتصر للأغلبية الكادحة من صناع الوطن والذين بهم قامت الحضارة المصرية في الماضي.. وبدونهم لا يمكن أن تقوم لهذا الوطن حضارة جديدة بل ان بدونهم لن يتحقق لهذا الوطن مجد في الراهن وفي المستقبل. في مسرح نعمان عاشور وعي شديد بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية فبدونها لا يتغير الواقع.. انها حجر الأساس اللازم لكل تنمية أو تطوير لكل تقدم. وهذا ما جاهد عبدالناصر طول عمره لتحقيقه علي أرض الواقع المصري من خلال الاصلاح الزراعي والتأميم في الخمسينيات والستينيات واعتبار التعليم والثقافة من المشروعات القومية وهو مما ساعد علي شحن الوعي الجمعي لمواجهة العدوان علي مصر منذ ما بعد تأميم قناة السويس 1956 وحتي تحقق العبور العظيم في 1973. 5 كان نعمان عاشور - من توجهه الي المسرح في 1955 بمسرحيته الأولي (المغماطيس) وما تلاها حتي آخر مسرحياته (حملة تفوت ولا حد يموت) التي كتبها قبل رحيله بعام 1986 ولم تر النور في صالة عرض الاعتراض مؤلفها الوطني الشريف نعمان عاشور علي اعدادها لتعرضها احدي فرق القطاع الخاص فتدخل لايقافها - من أهم الرواد الذين أسسوا لأقوي تيارات المسرح المعاصر وأكثرها رواجا وازدهارا في الستينيات والسبعينيات وفيما بين مسرحيتيه الأولي والأخيرة اكتظت قاعات المسرح في مصر بعروض ناجحة لمسرحياته (عفاريت الجبانة) 1956 (الناس اللي تحت) 1956 (الناس اللي فوق) 1957 سيما أونطة 1968، (جنس أو صنف الحريم) 1960، (عيلة الدوغري) التي استمر عرضها للمسرح القومي من اخراج عبدالرحيم الزرقاني فيما بين 1962 و1967، (عطوة افندي قطاع عام) 1965، (تلات ليالي) 1966، (وابور الطحين) 1966، (الجيل الطالع) 1971، (بشير التقدم) عن حياة رائد النهضة رفاعة رافع الطهطاوي 1975 وقد عرضت علي المسرح من اخراج عبدالغفار عودة 1975 باسم آخر (باحلم يا مصر)، (بلاد برة) 1976، (برج المدابغ) 1977، (إثر حادث أليم) وقد عرضتها فرقة السامر المسرحية من اخراج عبدالرحمن الشافعي باسم آخر (مولد وصاحبه غايب) 1977، (وكالة نحن معك) 1978، (لعبة الزمن) 1979. 6 ومع كل هذا الفرح المسرحي الذي أشاعه مسرح نعمان عاشور في واقعنا الثقافي والاجتماعي خلال ربع قرن من الزمان فإن الرقابة علي المصنفات الفنية رفضت نصا مسرحيا بعنوان (شر الكون) كتبها نعمان عاشور 1969. لقد أعادني نعمان عاشور ومسرحه المتميز الي عهد المسرح المصري الجميل والوطن المصري الجميل متمنين أن يعودا أشد جمالا بعد ثورتنا الشعبية المجيدة التي بدأناها جميعا في الخامس والعشرين من يناير 2011 وسوف نمضي بها حتي تحقق لشعبنا كل ما يتمني.