استطاع نعمان أن يجمع الناس حول خشبة مسرح، تدب فوقها شخصيات مستوية من لحم ودم، تصطرع حول هموم وقضايا حية وساخنة، التقطها من الواقع المعيشي وأثبت نعمان اسمه رائداً للون من المسرح كان هو الذي حظي بأعظم القبول الكوميديا الاجتماعية النقدية أو الناقدة وربما كان للإقبال الجماهيري، والحفاوة النقدية اللذين حظيت بهما هذه الثنائية حين عرض جزآها في عامين متتاليين القومي الذي حمل رسالة المسرح الجديد أكثر من سواه في موسم 7591 - أثر في أن يعمل نعمان علي أن يقدم لهذا المسرح عملا في كل موسم جديد، وهكذا قدم - علي التوالي - مسرحيته »صنف الحريم« 8591، و»سيما أونطة« 9591، وهما عملان محدودان، تخلي فيهما نعمان عن رؤيته الشاملة للواقع الجديد في صدامه ببقايا القديم، واتجه نحو موضوعات محدودة وضيقة، الموضوع الرئيسي في الأولي هو تعدد الزوجات: أو علي نحو أدق، هو ذلك الطراد المستعر بين الرجل والمرأة. كانت »اللي فوق« مسرحية الافتتاح للفرقة القومية أو المسرح المشكلة هنا انشغال الآباء المنتمين للجيل القديم بهذه المسألة هو تماماً نفس انشغال أبنائهم المنتمين للجيل الجديد، والابنة الوحيدة التي يحملها نعمان »رسالة العمل« تمضي إلي أقصي النقيض، فتلتقي مع الذين ترفضهم، وهي تدري أو لا تدري. بعد أن عرض الدكتور مندور للمسرحية، وأبرز ما فيها من اضطراب في الفكر وخفة في التناول كتب: »أما نصيحتي لصديقنا نعمان عاشور فهي أن يقلع نهائيًّا عن فكرة التماس النجاح الجماهيري السهل بزغزغة الجماهير (..) فالنجاح السهل يعتبر - كما قال جورج ديهاميل »قبراً مذهباً« يجب أن يحذره كل أديب صادق معتز بمهنته. ومثل هذا الرأي أيضا لقيته المسرحية التالية: »سيما أونطة«: كان نعمان يعمل آنذاك في الرقابة علي الأفلام، ومن عمله، والنماذج التي يلقاها فيه، استمد موضوع مسرحيته، فأثار ثائرة أهل السينما، واندفعوا إلي صخب ولغط شديدين. وأرسل نقيب السينمائيين برقية إلي وزير الثقافة جاء فيها: »يؤسفنا في الوقت الذي تتضافر فيه جهود الوزارة للنهوض بالسينما وإعادة الثقة بها، أن تقدم الفرقة الرسمية مسرحية كلها طعن وتشهير بالسينما والسينمائيين، وأملنا العمل علي إيقاف هذه المسرحية ولعل ما دفع السينمائيين إلي هذا الصخب كله ليس تصويرهم - هم ومن يلوذ بهم - علي تلك الصورة من الجهل والغلظة والادعاء والتماس المال والشهرة والمتعة فقط، فهم قوم لا يعنيهم سوء السمعة، قدر ما تعنيهم مصالحهم الحقيقية، وهذا المؤلف يطالب -صراحة- بتدخل الدولة: علي أي حال ، تحقق للسينمائيين مطلبهم، وأوقف العرض واستدعي نعمان لمكتب وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة ليبلغه قرار فصله من وزارة الثقافة، ومن العمل الحكومي علي الإطلاق، ولم يكن هذا الأمر خاصا بالسينما فقط، هل هي »أونطة أم لا«بل كان جزءاً من الحملة القاسية التي شنها نظام عبدالناصر آنذاك ضد الشيوعيين، والماركسيين واليساريين والتقدميين، وبوغت نعمان الذي كان يحسب أن »التقية« التي عاش في ظلها منذ خرج من أبواب معتقلات 6491 قد أنقذته، لكنه فوجئ بأن الملفات القديمة لا تزال حية، تطارده، وتلقي به - وهو الآن زوج وأب - إلي قارعة الطريق! لقد داست في عقل نعمان وقلبه سنابك العسكر، لم تجده »التقية« شيئاً، وكيف يمكن أن تجدي.. والملفات القديمة لا تموت، وفيها أنه قد حلم يوما، بالثورة.. قبل أن يصادرها العسكر لأنفسهم؟ قضي نعمان بضعة شهور علي قارعة الطريق، قبل أن يتوسط له مسئولون صغار وكبار، حتي ألحق بعمل في جريدة »الجمهورية«، وكان شرط هذا العمل أشد إيلاما: أن يكتب دون توقيع، وظل هذا الأمر ساريا لأكثر من سنة، سمح له بعدها بأن يضع اسمه علي ما كتب! وأقبل علي كتابة عيلة الدوغري التي يراها الدكتور علي الراعي أفضل ما قدم نعمان عاشور في ميدان كوميديا النقد الاجتماعي، وهو اللون الذي عرف به وظل يكتب فيه. ولكن يبقي الشبه اللافت للنظر حقا بين »الدوغري« و»بستان الكرز« أمراً لا يمكن تجاهله: هو إرث الأسرة المعروض للبيع، وبسببه، ومن حوله تتحدد مواقف الشخصيات في اصطدامها بعضها بالبعض، وصدامها جميعا مع الواقع المتغير، ثم هناك أيضا. هاتان الشخصيتان الرئيستان: »الطواف« في الأولي و»فيرس« في الثانية: الخادم العجوز الذي يحمل أفراد الأسرة واحداً بعد الآخر، أو جيلا بعد جيل، ثم يلقي الإهمال في النهاية من الباقين والمغادرين جميعا، وهناك أخيرا هذا الذي كان في خدمة الأسرة، وحين هوت تقدم ليصبح سيد سادته القدامي: »أبوالرضا« في الأولي و»لوباخين« في الثانية. لكن الاختلاف الأساسي كامن في طبيعة هذا الإرث نفسه ومعني التخلي عنه، كان بستان الكرز عند تشيكوف رمزا لماض آن أن ينتهي لغير رجعة، من أجل الانطلاق إلي المستقبل، متجاوزا الحاضر، والحاضر هو »لوباخين« الذي سيقطع أشجار البستان كي يقيم مكانها »فيلات« للبورجوازيين القادمين، والمستقبل هو ما يتحدث عنه بروفيموف إلي آنيا: »روسيا كلها ستصبح بستاناً لنا...« فتشاركه حلمه بالمستقبل الذي سينطلقان إليه: »سوف تزرع بستاناً جديداً أروع من هذا...« أما بيت الدوغري فليس كذلك: اللذان باعا نصيبهما فيه »(زينب والدكتور) باعاه من أجل »مظهر بورجوازي« آخر واللذان بقيا (سيد وحسن) نحس بأنهما بقيا علي رغمهما، وأنهما قد يتخليان عنه إن وجدا ملاذاً آخر، تبقي عيشة وسامي، وهما اللذان يوحيان لنا بالانطلاق نحو فهم جديد للواقع، لكنهما لا يمضيان بعيدا، »ثوريتهما« تقف عند حد استبدال خاتم الخطبة بأكلة دسمة! وغير هذا تبقي »عيلة الدوغري« مسرحية مصرية خالصة، شخصياتها مكتملة تضج بالصدق والحياة، متسقة الفكر والسلوك، نابعة من صميم الواقع، معبرة عن أفضل ما تميزت به الطبقة الوسطي، المتمثل في قدرتها علي البذل والعطاء، وتمسكها وتماسكها كقيمة من القيم التي تعتز بها وتحرص علي التزامها، وكانت آية صدق نعمان أنه قدم شخصية مصطفي: المدرس الجامعي الذي جمع أمواله من بلاد النفط، ثم عاد ليبدأ رحلة انسلاخه عن امرأته - طبقته، مصعداً نحو التسيد والتمايز، وفي صياغته لهذه الشخصية التقت خطوط الموهبة الدرامية بالحس الطبقي المرهف، وقد تذكر هنا أن الحديث عن طبقة جديدة تهدد بأن ترث امتيازات الطبقات القديمة، وتعوق خطط التنمية، كان قد بدأ وقت عرض المسرحية، وقر في وعي المسرحي المرهف أن شريحة من هذه الطبقة الوسطي ذاتها لا بد ستتمايز عنها، وتسعي لأن تقف ضد بقيتها منسلخة عن كل الروابط التي تشدها إليها، منطلقة نحو تحقيق مصالحها، المتناقضة معها، بتصميم بارد، وقتل دون إراقة نقطة دم! وستبقي »عيلة الدوغري« علامة مضيئة من علامات المسرح المصري لا في الستينيات فقط، بل علي الإطلاق.
بعدها حدث شيء شبيه بما حدث بعد »الناس اللي فوق«: رجع نعمان لأوراقه القديمة: رجع لأوبريت غنائية كتبها زجلاً بعنوان »شلبية« في 2691، وأعد عنها عملاً عرض في أواخر 5691 بعنوان »وابور الطحين« ورجع كذلك إلي عمله الأول المغماطيس وأعد عنه عملا باسم »عطوة أفندي قطاع عام«، وقدمه في الشهور الأولي من 6691. ورجع أخيراً إلي قصصه القصيرة فأعد واحدة منها للمسرح وأضاف إليها اثنتين أخريين ليقدم عرضاً عنوانه »ثلاث ليالي« في الشهور الأخيرة من السنة نفسها. لكن هذه الأعمال الثلاثة لم تضف إلي رصيد نعمان المسرحي، لا عند الجمهور، ولا عند النقاد. وتلك الدعوة المباشرة قد أفقدت تلك الأعمال أثمن ما في مسرح نعمان عاشور: أن يتخلق المعني العام للعمل من خلال نسيجه كله، من خلال صراع شخوصه بعضهم مع البعض، وصدامهم جميعاً بالواقع وتحولاته. أما أن ترتفع الهتافات في مسرح يقوم أساساً علي إجادة رسم الشخصية، والعناية بخلق الجو العام الذي يحيط بها.
ولست أعرف عملاً مسرحيًّا يعبر عن ثقل تناقضات مرحلة الستينيات علي ضمائر الكتاب قدر ما يعبر نص مسرحية »بلاد بره«الذي فرغ نعمان من كتابته في الشهور الأولي من 7691. هي أطول نصوصه وأصعبها، وأحفلها بالشخصيات التي تتمايز كل منها عن الباقيات تمايزاً حادًّا، يقدم فيها نعمان - للمرة الأولي في مسرحه - شخصية »العامل الثوري، صاحب الرسالة«. في 4791 نشر نعمان نص »برج المدابغ« لكنه لم يعرض إلا بعد هذا التاريخ بسنوات ثلاث. خلال تلك السنوات نشر نعمان نص مسرحية »تسجيلية« عن رفاعة الطهطاوي وأعد مع المخرج »عبدالغفار عودة« عرضًا عنه، لعب الغناء فيه الدور الرئيسي، وعرض في 6791 باسم »وباحلم يا مصر«. والحقيقة أننا لا نجد في نص »الطهطاوي« أو »بشير التقدم« أكثر من السرد الحواري لمشاهد متتابعة، تنحو منحي زمنيًّا خالصاً، تبدأ بالطهطاوي في »مدرسة الطوبجية« يراجع كراسة ذكرياته التي تحمله - في مشاهد استرجاع - إلي حياته قبل بعثته، وعلاقته بشيخه حسن العطار، ثم حياته في باريس، وبعد عودته منها، وتنتظم المشاهد بعد هذا الاسترجاع في تتابعها الزمني، فنراه في الفصل الثاني يعرض علي محمد علي إنشاء مدرسة المترجمين، ثم طريقة العمل فيها، وإخلاص الطهطاوي وتلك الحفنة من تلاميذه في هذا العمل، ثم إشرافه علي تحرير »الوقائع المصرية« وموت محمد علي، ثم إغلاق المدارس بأمر عباس الأول الذي يقول عنه الطهطاوي: إنه »ليس إلا صورة مكررة من الرجال المناكيد الذين تنكب بهم الحرية في كل الأمصار وفي كل العهود، يكفي أنه خديوي جاهل، مستبد، غاصب...« وينفي الطهطاوي إلي السودان، ويبدأ الفصل الثالث بعودته من السودان وإشرافه علي إعداد مناهج التعليم، ثم تعيينه وكيلاً للمدرسة الحربية في عهد إسماعيل.. إلي آخر الوقائع المعروفة عن حياة الطهطاوي.. وينتهي العمل بانتهاء حياة بطله وهو في الثانية والسبعين »سنة 3781 أي قبل مئة عام من كتابة هذا العمل، كما يشير صاحبه«.
وفي 0891 نشر نعمان نصا وصفه بأنه »فانتازيا درامية«، وجاءت »لعبة الزمن« غريبة عن مجمل إبداع نعمان عاشور المسرحي، كأنها لا تنتمي إليه قدر ما تنتمي إلي توفيق الحكيم ومسرحه وهي من حكايات ألف ليلة وليلة. ويسمي نعمان مسرحيته »فانتازيا درامية« وهي كذلك مع تحفظ واحد ضروري: إن ما فيها من »فانتازيا« يقوم علي الانتقال الحر بين زمانين، يفترض أن أحدهما موغل في الماضي، والآخر موغل في المستقبل، لكن هذا الانتقال يبدو لعيوننا - نحن قارئي المسرحية ومتلقيها - انتقالاً بين زمانين كليهما في الحاضر، فنحن لا نري من الماضي سوي بضعة أسماء لا تكفي كي تجعل له وجوداً فعالاً.. أما المستقبل فهو حاضرنا المعيش. وهكذا أثبتت »لعبة الزمن«.. وقد أعاد نعمان صياغتها واختصارها كي تعرض - ثم عرضت ولم يكد يلتفت إليها أحد - مرة أخيرة إن نعمان عاشور إنما تضطرب خطاه في كل مرة يخطو فيها خارج حدود مملكته التي عرفها، وجاس أرضها، أعني خارج حدود كوميديا النقد الاجتماعي، أو الكوميديا الانتقادية، كما سبق القول. وفي سنة 4891 انتهي نعمان من كتابة نص »أثر حادث أليم« ليعرض في العام التالي تحت اسم »مولد وصاحبه غائب« وهو يمثل - مع »برج المدابغ« ثنائية نعمان عاشور الأخيرة، ونهاية تأريخه الدرامي لتحولات الواقع المصري.
في »برج المدابغ« تقدم نعمان نحو تصوير تلك النماذج المتجهة نحو الصعود إلي قمة القمة بأسرع الوسائل وأكثرها يسراً: التهريب والوساطة، وتجارة الشقق والأجساد.
علي هذا النحو أتم نعمان عاشور الرسالة وأدي الأمانة: قدم - في أعماله المسرحية المهمة، تأريخاً للواقع المصري من الخمسينيات إلي الثمانينيات، ولم يكن في تأريخه هذا محايداً، لكنه كان صديقا للناس اللي تحت وقد تغيرت مواقع اللي فوق، وتبدلت أقنعتهم، وبقي نعمان لهم بالمرصاد، لم يتوقف عن فضحهم وكشف أساليبهم، ولم يسع - مرة واحدة - لأن يكون بينهم. وبرحيل نعمان يسدل الستار الأخير علي صفحة مجيدة من صفحات المسرح المصري، سبقته صفحات من هنا وهناك، لكن سقوط الصفحة الأولي التي تحمل العنوان والتاريخ يعني الكثير. فوداعا أيها العمل الطيب (مايو 7891)