بلغة تأخذك لفخ البساطة، لغة تتراوح مابين المعاش/اليومي وأيضا تتراوح بين قربها من العالم الصوفي بلحظات ،ثم بلحظات أخري تقترب من المجازية الزاهدة- يفاجئنا، سيد محمود بديوانه «تلاوة الظل» ( الصادرمن دار العين - القاهرة)، أربعة ظلال / عناوين تترواح بين سردية النص وبين الدلالية فيما وراء النص، وكأن ظلال الأعمي تتوحد مع الزهرة /الأنثي/ الحرية/ الذات ، في ظلال أخري للبحر حيث بدء التوحد والاشتهاء للأغنية المفقودة وصولا لموسيقي الحجرة كخلاص للبحث عن الذات وعن ظل آخر غائب ومفقود ألا وهو ظل الشجر، هذه الأربع متتاليات للظلال هي عناوين المتن الداخلية ( أعمي يتعثر في الضوء- أنتِ زهرة - في البدء كان البحر- موسيقي الحجرة)، وللتقرب من عوالم تلال الظل كان لنا هذا الحوار مع الشاعر سيد محمود الكتابة ألم وفرح و رصد إشعال الحريق بالديوان مزيج للفقد واليومي داخل النص ، وأيضا مزيج من المناجاة خصوصا بأعمي يتعثر في الضوء ، فهل ذلك المزيج المعادل لتلاوة الظل ؟ - لا أعتبر كل الديوان عبارة عن حالة من الفقد وإنما الديوان يعبر عن حالة تواصل تحاول رسم مسار لعلاقة بين رجل وامرأة ، ومسار للتحول بداخل تلك العلاقة،الجزء الأول يتكلم عن امرأة نورانية من خلال مناجاة مع الرب أو طلب من الرب من خلال خطاب موجه لذات عليا (امنحها/اعطها ) وهناك دائما خطاب موجه لذات عليا ، ثم بالجزء الثاني هو وصف لهذه المرأة النورانية ، أما بالثالث والرابع فهناك تفاعل مع هذه المرأة النورانية بحيث تنتهي حالة التجريد والتصور الميتافيزيقي يختفي تدريجيا وبتقديم محاولات اللمس لها عن قرب ، وربما يكون هاجس الفقد تسرب من كونها نورانية بالبداية وربما أيضا من خلال المناجاة التي كانت بالجزء الأول ، وهذا كله نتيجة الشعور بأنها امرأة بنت الميتافيزيقا وليست بنت الواقع، وهذا بسبب الاحساس بالطابع الروحي لنصوص الديوان، والإيمان في حد ذاته هو فكرة مجرة، والجمال وكل المثل العليا هي أيضا مثل مجردة، وبالتالي نستشعر مسافة مع هذه المرأة النورانية، وكما يشعر المؤمن بحالة من الطمأنينة والاستقرار برغم أن تلك الحالة قد لايشعر بها من حوله ، ، وإذا قرأنا كل تراثنا الصوفي سنجد المراوحة الدائمة بين الفقد والاكتمال وبين القلق والإيمان ، بين الوجود والعدم ، ومن هنا جاءت لعبة التوتر مابين الحياة واللاحياة، الذهني واللاذهني بالديوان. القاموس الصوفي ولكن القاموس الشعري الصوفي يبدو غير ملموس بشكل كبير بالديوان أو بالأصح هناك زهد كبير جدا بالديوان علي مستوي اللغة كقاموس شعري؟ - جلال الدين الرومي أيضا كان قاموسه بعيدا عما هو متعارف عليه بالقاموس الصوفي كتعبير الوجد أو الشوق ، والديوان ليس حالة صوفية كاملة ولاحالة من الرومانسية كما يظن البعض ،ولكنني أردت الكتابة عن روحية فعندما أقول «أنتِ زهرة /وأنا آنية من خزف / بدأنا معا من طين الحديقة» وهنا ليس كلاما عن الحنين والشوق والوجد ، أردت الكتابة عن محبوبة تتجلي أمامي ولا أريد أن أكشفها ،أكتب بإحساس المناجاة وذلك واضحا جدا بالأهداء عندما قلت « إلي صوت روحي وصداه». السلم الموسيقي الديوان اتخذ شكل السلم الموسيقي بالتصاعد من حيث المناجاة وتقديم المرأة النورانية بداية ثم وصفها تمهيدا لإنزالها من العلياء المجردة لتتلامس مع الواقع جسديا وانفعاليا، بمعني الانتقال من العام للخاص فالأخص هل كان هذا التدريج متعمدا؟ -الحقيقة أعترف أنني عندما بدأت الكتابة بهذا الديوان لم أكن أتعامل معه بشكل كتاب سينشر وبالفعل كنت أكملت مايقارب من نصف العمل ،وإنما كانت الكتابة بشكل حوار مع نفسي ومع آخر أعرفه أود عبره ترك أثر أتركه لهذا الحوار ،وعندما تحول هذا الأثر لمعطي فني ، قررت أن ان أترك الأثر لقاريء عبر التفكير في الكتابة من خلال حالة تتعدي مايخص ذاتي ، يتعامل معها هو كيف يشاء ، وأن هذه النصوص تستحق حياة أخري بمعزل عني، ومن هنا بدأت إعادة تبويب الفصول وبنائه ليأخذ هذا الشكل الفني ، وهذا ما فعلته عبر إحساسي بالمسار البياني لعلاقة ما يمكن تلمس أثرها - وكما قلت أنت أيضا وتلك ملحوظة ذكية- علاقة تبدأ بالمرأة النورانية ثم وصفها بالجزء الثاني وأخيرا بالجزء الثالث اختفاء التعثر وليس الضوء أما بالجزء الرابع فأحاول الحفاظ علي حاسة اللمس داخل الأعمي الذي يتعثر في الضوء،بمعني آخر حاولت بالجزء الثالث والرابع التحدث عن علاقة مع تلك المرأة، ليست علاقة بمعني الفعل بالضرورة وإنما أيضا عبر الحوار. ولكن محاولة انزال هذه المرأة النورانية للأرض وعمل علاقة معها من خلال اللمس مثلا ، وضحت بها اشارات أو حالة من الايروتيكية المغلفة بزهد في السرد؟ - الحقيقة لم أكن علي استعداد للتضحية بالمرأة التي قدمتها بالجزء الأول والتي ناجيت الرب من أجلها والتي وصفتها بجزء «أنتِ زهرة» ،ولا أريد كسر هذا التصور، لذا لم أكن متحيزا لكتابة الجسد لحرصي علي تلك المرأة بالأساس ، وبالمناسبة الايروتيكية كتابة راقيه عن التصور الفني للكتابة الجسدية، وأزعم أني قرأت كثيرا عن الايروتيكية وهناك «يان استورتسيس» ديوانا كاملا عن الايروتيكية ومن يقرأه وهو الديوان الذي حاول سعدي يوسف كتابة نص موازي له- مختلف عن الذي كتبه سعدي يوسف او هنري ميللر، وأنا حاولت الكتابة عن تلاوة عاشق بالجزءين الأولين ثم بالنهاية حاولت الكتابة عنها وعن الطبيعة وعن الظل الذي بالفعل مايعطي للفكرة تأصيلا، فالشجرة مكنونة بظلها ،وظلها مفسر لها، وأنا لدي تصور أردت أن أقدمه من خلال حب علي تخوم الجسد كما وصفه صديق لي، ومن هنا الايروتيكية بالديوان هي في النور وليست في الظلام. النفس الشعري النفس الشعري بالديوان نفس يتراوح ما بين القصر والطول ، فتارة نجد التكثيف الشديد وتارة نجد الاستمرار قليلا ، وأيضا نجد بالنفس الشعري في تلاوة الظل وكأنه قصيدة طويلة وكأن الديوان كتب في جلسة واحدة ، فهل تتوافق معي وإلي أي حد. - كانت المقاطع مغرية بالتوقف أو مغرية بالبوح بمقابل أخري قصيرة النفس؟ كنت أكتب ومضات وأنشرها أحيانا علي الفيس بوك، قد تكون صالحة للتجاور مع نصوص الهايكو في ذهابها للحظة القنص الفني هي تذهب للصورة الشعرية مباشرة،تذهب مباشرة ولاتتعثر في المجاز ،كنت أكتب بشكل خاطف جدا ،واريد هذه اللغة التي تعبر عن حالة يومية وانا أري كتابي بشكل واضح جدا هو كتاب يوميات الأساس. وماذا أثر الخلط اليومي والمجازي علي القصائد بالديوان؟ - الحياة اليومية أردت تناولها بالديوان ولكن كيفية التلاوة لتلك الحياة هي ماجعلت الديوان يخرج بذلك الشكل ، ولم أضح بهذه التلاوة كي لاأضحي بالحبيبة من خلال تركها في عنف الحياة اليومية وتركها لآثامها ، لكي أحررها ، وأن أحافظ بالأساس علي علاقة أشبه بالكريشنتو ليس بها فوضي الحياة اليومية ، ومن هنا كانت اللعبة حيث الإيهام بأن هذه العلاقة نورانية تارة وتارة أخري الإيهام بأنها علاقة علي الأرض ، لذا جاء المجاز مع اليومي،وبالفعل كنت أكتب بصفة يومية أزاحت بعضها وحذفت البعض الآخر،ولم أكن أنتوي التأريخ لهذه العلاقة وإنما أردت الخوض في تجربة الأثر للنهاية بمعناه الصوفي. لهذا السبب كان التحرر من الزمان والمكان بالأساس؟ - عندما تقرأ «جلال الدين الرومي» يصعب وضعه بمكان أو زمان ،هي نصوص تسعي لخلق حياة فقط ،وبالنسبة لي كنت أود الخلاص والتحرر من تلك التجربة ،وأود أن لاتنتهي القصيدة كما يقول محمود درويش، فلدي احساس بأن هذا الكتاب هو بذرة لشجرة كبيرة ربما تصل لغابة لذا تركت نفسي ولم أرد أن اتحكم بالقاريء، وكتابي هو نص طويل للحوار،حوار مع ذاتي ومعها ومع الطبيعة والبحر ومع الرب، وقصدت ذلك شعار الديوان عندما قلت «غرامنا علامة مائية/لايقوي الآخرون علي فهمها/لوحة في متحف قديم/ لايمسها غبار/غرامنا تلاوة الظل للشجر»وبالفعل أردت أن يكون الديوان مجرد علامات مائية لايستطيع أحد فك شفرتها. مابين الاحساس بالحسرة والتمني هناك كسر للمأثور الشعبي والحنين بالديوان؟ - تقصد الحديث عن الغناء للموتي، أو الحديث عن الخزائن التي نتركها ،حين تحن طويلا للمكان لا تعد إليه تلك مقولة سليم بركات وأنا أحبها كثيرا،لا انفصال في التعامل مع الحنين أو الذكري، فبالنسبة لي ليست الذكري موضع الألم ، والديوان يتحدث عن أفق وليس طريقا مسدودا، والكتاب يناهض فكرة الموت،وأنا منشغل جدا بالأثر. من الواضح أن هناك تأثرا كبيرا بالديوان بالعارف بالله جلال الدين الرومي فهل هناك نص معين له انعكس علي الديوان؟ - سأكشف لك سرا، كنت أقرأ دائما جلال الدين الرومي ولا أحسه، باعتباره نصا محفزا ولكن هناك نصا قرأته ،لا أتذكره الآن ولكن معناه أن هناك شخصا تسرب إلي بستان و سرق وردة وقال له البستاني :أنا البستان كله أعطيك..هذه العبارة الجميلة التي تخلو من المعني الشعري أعطتني كل هذا ، لذا رأيت مقطع «أنتِ حديقة مزروعة بأشجار ملونة ...وأنا البستاني». بجزء «في البدء كان البحر»لماذا التوطئة برغم وضوح العنوان جيدا؟ - للتأكيد من خروج العلاقة من مرحلة التعثر لمرحلة الوصول،حتي بدون أهداف للعودة، إنها رحلة من أجل الرحلة فقط ،كرحلة الدخول لإيثاكا ، والمقصود هنا الوصول لارض من أجل نصب خيمة لي من اجل المرأة النورانية. رهان ليس خاسراً هل الديوان يتحدث عن الرهان بصرف النظر عن كونه خاسرا أو رابحا؟ - بالفعل به رهان ولكن ليس الرهان الخاسر وإنما رهان يخلد معني ويمجد أثره، بدليل النهاية المفتوحة وليست المغلقة ، والكتاب من اللحظة الأولي يقترب من لحظة الفقد، لكنه ينجح في التغلب عليه لأنه هذا كتاب لايتحدث عن رهان خاسر،والديوان يقاوم الفقد ولايتناول الفقد و الرثاء إنما يعلو فوقهما من أجل رهانه الخاص بتمجيد تلك العلاقة التي بين رجل وامرأته النورانية المتجلية له والتي لايكشف عنها بسهولة. ماذا عما وراء النص أو المحذوف بتلاوة الظل؟ - أفكر معك بصوت عال في هذا، وحاولت أن أقلل كلما سنحت الفرصة من الخوض بالتفاصيل وفضلت التعامل مع الكتلة كالفن التشكيلي، لكي لايترهل النص، وكنت اريد الكتابة عن سيدة تنتمي للاسطورة وليست للواقع، والديوان بالطبع به محذوف، ولكن لابد من التخلص من النثار كما يقول صلاح عبد الصبور،بحيث تكتب بخفة وليس باستخفاف.
أخيرا في ظل العودة للكتابة بعد توقف دام خمسة عشر عاما، ما الذي استفزك للكتابة ولماذا تلاوة الظل الآن وهل الكتابة ألم ام فرح بالنسبة لك؟ - الكتابة ألم وفرح في آن ، والكتابة هي رصد اشعال الحريق، لا أحترق فيها ولا انتظر رمادها، سنوات التوقف لم تمنعني عن الشعر أو القراءة، أنا أخاف من الشعر دائما ، وأتعامل معه بحرص شديد،وأقدسه، كنت أتجنب مزالقه،وعندما اتحول من حكم إلي لاعب كان لابد من معرفة ما لديّ من امكانيات ، لذا كتبت ما أعيشه لكي أصدقه، وعندما عدت للكتابة بدأت بكتابة الأغنية ، ولكن عندما توهجت اللحظة لديّ كانت لحظة الكتابة وكان خروج الديوان.