تلقفته السواعد القوية وهو يتأرجح من الحبل المتدلي من الونش الرابض فوق سفينة الشحن العملاقة، محاطا بإطار حديدي سميك.. لصقت عليه عبارات تحذيرية من الفتح بطريقة غير سليمة وضرورة التخزين في أماكن جيدة التهوية، ثم بيانات عن الطول والعرض والارتفاع وبلد المنشأ.. - إنزل كمان.. خذ عليك يا أسطي شعبان.. هات علي بقة.. بشويش.. كان الجنود يقفون فوق سيارة نقل حكومية ابتلعت الصندوق داخلها وأغلقوا بابها الخلفي ثم انطلقت بما تحمله.. بينما سأل سائق العربة الشاويش حسنين الذي يجلس بجواره بسذاجة ماكرة: - هو الصندوق ده فيه إيه يا عم حسنين؟ - يا سلام ياحضرة الباشويش لو تعطوني الصندوق لينام عليه الأولاد بدل نومتهم علي الأرض.. رد حسنين وهو يلف سيجارة ويلصقها بلعابه دون أن ينظر إليه: - مهمات.. كان الصول حماد أمين المخزن واقفا بقامته المحنية قليلا عاقدا يديه خلف ظهره وقد استبد به القلق فراح يمشي أمام المخزن جيئة وذهابا.. حان موعد انصرافه منذ عشر دقائق ويريد أن يغلق المخزن لكنه لايستطيع قبل أن يصل الصندوق ويدخل المخزن ويطمئن عليه ويقيد محتويات في دفتر الأحوال.. يشعر بتنميل في ساقيه فيسحب كرسيا أعرج من داخل المخزن يجلس عليه لحين مجيء حسنين بالصندوق.. كبر في العام المنصرم عشرة أعوام مرة واحدة.. زاره خلالها ضيوف ثقال أعجبهم الحال فقعدوا ولم يبرحوا جسده.. السكر، الضغط، تصلب الشرايين.. فإذا وقف قليلا اشتكي ساقاه وإذا مشي أنهكه السير ويبدأ تنفسه يتهدج ويزوم ويموء كأن قطا محبوسا بين رئتيه.. ثمانية وثلاثون عاما قضاها في خدمة الحكومة كان مثالا للشرف والنزاهة والانضباط.. لم يبق له حتي يبلغ سن المعاش سوي شهر واحد.. أو بالتحديد ستة وعشرون يوما.. يريد أن يكون ختامها مسكا.. يفيق من إغفاءته علي صوت الشاويش حسنين وهو ينزل من السيارة العسكرية التي وقفت أمام المخزن: - إنت نمت ياحضرة الصول؟ ينتفض حماد وهو يصيح بحدة: - اتأخرت ليه ياحسنين.. كان زماني في البيت.. يجيبه حسنين بينما كان الجنود يقومون بحمل الصندوق داخل المخزن: - عبال ما شحنا الصندوق وخلصنا الأوراق وختمناها في الميناء.. يدخل حماد معهم المخزن بصحبة حسنين، الذي يبادره قائلا: - هو الصندوق ده فيه إيه ياصول حماد؟ يجيبه حماد: - مهمات.. يصيح حسنين متعجبا: - كل الهلمة التي علي الصندوق أختام وأوراق وتحذيرات وتقول مهمات.. ينهره حماد: - وإحنا مالنا.. علينا نشحن الصندوق في المخزن ونقيد محتوياته ودمتم.. ثم يفتح دفتر الأحوال الضخم قائلا: - افتحوا الصندوق وطلعوا ما فيه.. - ما تخليها لبكرة ياحضرة الصول الصباح رباح ويوم من يوم قريب.. - ما ينفعش ياحسنين أي شيء يدخل المخزن لابد أن يقيد في دفتر الأحوال.. يميل حسنين علي أذن حماد محدثا إياه بصوت خفيض: - أمانة عليك يا صول حماد تعطيني الصندوق بعد ما نفرغ ما فيه أحط فيه هدوم الشتاء التي بهدلتها الرطوبة وأكلتها العتة.. يرد حماد بلهجة حاسمة: - هذا صندوق عهدة يا حسنين.. لو خرج من المخزن فيها س و ج.. دعك من الصندوق ومليني.. يغمغم حسنين في تبرم: - أنت حنبلي أكثر من اللازم يا صول حماد.. ثم يمد يده داخل الصندوق مخرجا بعض القطع: - اكتب يا سيدي عدد 1 قطعة بشبوري.. بالرغم مما كان يعانيه من تململ ووخم ورغبة في الذهاب إلي المنزل ليقيل بعد الغداء، فقد أطاح العمل بنعاسه وراح يتحرك في المخزن بنشاط ويصيح محدثا حسنين: - قل لي يا حسنين بشبوري عادي أم قلاووظ.. يرد حسنين بضجر: - عادي ياصول حماد.. عادي.. لم ينته الصول حماد ومساعدوه من إفراغ صندوق العهدة من محتوياته وقيدها في دفتر الأحوال قبل المغرب.. وراح حسنين يدق بأصابعه علي الصندوق: - قوي ومتين.. يا بخت اللي حتكون من نصيبه.. لم يرد عليه حماد.. راح يخرجهم واحدا واحدا من المخزن ثم أغلق بابه الحديدي بإحكام ووضع قفلا ضخما عليه وركب العربة التي انطلقت به في طريقه إلي البيت.. وهو في الطريق راح شعبان السائق يحدثه في أمر أبنائه الذين أصابهم المرض من نومتهم علي الأرض ويأمل في إعطائه صندوق العهدة ليكون سريرا ينامون عليه، فتظاهر حماد بالنوم وهو يطلق شخيرا مصطنعا.. فأسقط في يد شعبان وسكت.. ما إن نزل حماد من السيارة أمام بيته حتي فوجيء بغزال الكهربائي يهرع نحوه وهو يصيح: - ألف حمد الله علي السلامة يا صول حماد.. عدم المؤاخذة أنا كنت معدي بالصدفة من أمام الميناء ورأيتهم وهم ينزلون صندوقا علي عربتكم.. وحياة أغلي ما عندك يا صول حماد تعطيني الصندوق أرص عليه البضاعة بدل ما هي منهوبة في الحارة. هز حماد رأسه لكي يصرفه وسار وهو يقول له: - إن شاء الله.. فتحت له زوجته الباب ثم شهقت: - إيه اللي أخرك يا حماد؟ - كان فيه عهدة بتنزل المخزن.. أسرعت نحوه وهو يخلع ملابسه وصاحت: - صندوق العهدة يا حماد إياك تتصرف فيه.. سأضع فيه جهاز البنت بدل ما يتكسر.. أومأ قائلا دون أن يعقب: - حضري لي الغداء. أسرعت إلي المطبخ.. بينما واصل تبديل ملابسه.. فجأة جاءه صياح ولديه بالخارج وهما يتشاجران: - أنا اللي حاخد الصندوق.. حا عمله مكتب أذاكر عليه.. - لا أنا اللي حاخده.. كتبي كثيرة ومبعثرة في كل مكان.. تنهي الأم الشجار صائحة بلهجة حاسمة: - لا أنت ولا هو.. الصندوق حاخده.. أنا.. يجلس حماد أمام المائدة يتناول غداءه وقد شعر بثقل في رأسه لتأخر موعد الغداء وحرمانه من قيلولته.. توقفت يده وهي تحمل اللقمة إلي فمه وراح يتساءل: - يا تري أنا قيدت في الدفتر البشبوري عادي أم قلاووظ.. خفق قلبه وسقط بين قدميه فالفرق كبير بين الاثنين.. لو حدث جرد مفاجيء الليلة واكتشف أنه قيد خلافا للواقع ستكون مصيبة وربما يتهمونه بالتقصير، والأخطر لو اتهم بالتحايل والرشوة.. هب واقفا عاد يرتدي ملابسه من جديد.. شهقت زوجته: - علي فين يا حماد؟ - علي المخزن.. ابتسمت وهي تقول: - ما تنساش صندوق العهدة. لم يرد وأسرع خارجا من البيت.. ما إن رآه غزال الكهربائي حتي صاح في عشم: - وحياة الغاليين ما تنسي الصندوق ياحضرة الصول.. انطلق كأنه لايسمعه.. عندما وصل إلي المخزن شاهد شعبان السائق ينطلق بسيارته ثم توقف ليقول: - الصندوق يا حضرة الصول علشان الأولاد.. راح يفتح الباب بانفعال وكأن لجنة الجرد ستعقد في التو واللحظة.. بينما كان الشاويش حسنين يمر من أمام المخزن ممسكا بكوب الشاي لمح المخزن مضاء فتوقع أن يكون الصول حماد قد عاد لأمر ما.. فقد اعتادوا منه ذلك يأتي في أي وقت فيجرد المخزن كله أو يعيد التنظيم محتوياته.. ووجدها حسنين فرصة أن يقدم له كوب الشاي ويطلب منه صندوق العهدة بصنعة لطافة عملا بالمثل القائل "اطعم الفم تستح العين".. طرق حسنين الباب كان مواربا دفعه برفق وهو ينادي: - صول حماد.. لم يأته رد.. تقدم حسنين ليجد حماد جالسا أمام المكتب والقلم في يده وقد سقط رأسه علي دفتر الأحوال.. هزه وهو ينادي: - صول حماد.. يا صول حماد.. لم يحرك حماد ساكنا.. صرخ حسنين: - لا حول ولا قوة إلا بالله.. الصول حماد مات.. بعد قليل جاءت العربة معطية ظهرها إلي باب المخزن بينما كان الجنود يضعون جسد حماد في صندوق العهدة لينقلوه إلي بيته ثم حملوه داخل السيارة وهم يرددون: - ارفع كمان.. خذ عليك يا أسطي شعبان.. هات علي بقة.. بشويش.. جلس حسنين يبكي بجوار شعبان والسيارة تتحرك نحو بيت الصول حماد.. فأوقف أحد رجال الأمن السيارة وهو يسأل حسنين: - الصندوق ده فيه إيه يا شاويش حسنين؟ مسح حسنين دموعه وأجاب بصوت مختنق وبحروف متقطعة: - مه ....مات.