أقنعة على الجدران وكرسي مريب، مشاهد لأول مرة من داخل جزيرة المجرم الجنسي إبستين (فيديو)    ترتيب مجموعة منتخب مصر بعد الجولة الأولى من مباريات كأس العرب    طقس اليوم الخميس.. بداية نوة جديدة وتقلبات عنيفة    الأحفاد جمعتنا، إعلامية شهيرة تفاجئ حسن شحاتة داخل المستشفى (صور)    «ما تسيبوش حقه».. نداء والد السباح يوسف محمد خلال تلقى العزاء (فيديو وصور)    استشهاد 6 فلسطينيين في غارات إسرائيلية على جنوب قطاع غزة    ممثل وزير الشباب يشارك في وداع السباح يوسف محمد إلى مثواه الأخير.. فيديو وصور    «مياه الجيزة» تعلن إصلاح كسر خط قطر 1000 مم أمام مستشفى أم المصريين    اليوم، آخر فرصة لسداد رسوم برامج حج الجمعيات الأهلية 2025 بعد مدها أسبوعا    قناة دي فيلت: إذا لم تجد أوكرانيا المال لتغطية عجز الميزانية فستواجه الانهيار الحقيقي    دولة التلاوة.. المتحدة والأوقاف    اللهم إني أسألك عيش السعداء| دعاء الفجر    نائب وزير المالية: تمويل 100 ألف مشروع جديد للانضمام للمنظومة الضريبية| فيديو    في جولة محطة العبادلة بالقليوبية.. فودة يشدد على التشغيل القياسي وتعزيز خطط الصيانة    الصحة: لا تراخيص لمصانع المياه إلا بعد فحوصات دقيقة وضوابط رقابية مشددة    أحمد حمدي يكتب: هيبة المعلم    بالمستند.. أكاديمية المعلم تقرر مد موعد المتقدمين لإعادة التعيين كمعلم ل31 ديسمبر    الصحة: خدمات شاملة لدعم وتمكين ذوي الهمم لحصولهم على حقوقهم    حلمي عبد الباقي يكشف إصابة ناصر صقر بمرض السرطان    دراما بوكس| بوسترات «سنجل ماذر فاذر».. وتغيير اسم مسلسل نيللي كريم الجديد    وزير الخارجية الفنزويلي: استقبلنا رحلات جوية حملت مواطنين مرحلين من الولايات المتحدة والمكسيك    د. خالد سعيد يكتب: إسرائيل بين العقيدة العسكرية الدموية وتوصيات الجنرال «الباكي»    جمال شعبان يُحذر: ارتفاع ضغط الدم السبب الرئيسي للفشل الكلوي في مصر!| فيديو    نجاح جراحة دقيقة لمريض يعاني أعراضًا تشبه الجلطة في الجانب الأيسر    لا خوف من الفيروسات.. الصحة توضح سبب شدة الأعراض في هذا الموسم    أستاذة بمعهد بحوث تكنولوجيا الأغذية تكشف أفضل أساليب الطهي للحفاظ على جودة اللحوم    محمد رجاء: لم يعد الورد يعني بالضرورة الحب.. ولا الأبيض يدل على الحياة الجميلة    موعد صلاة الفجر.....مواقيت الصلاه اليوم الخميس4 ديسمبر 2025 فى المنيا    أكسيوس: إسرائيل تحذر من استئناف الحرب في حال استمرار تسلح حزب الله    وزير الثقافة يُكرّم المخرج القدير خالد جلال في احتفالية كبرى بالمسرح القومي تقديرًا لإسهاماته في إثراء الحركة المسرحية المصرية    حظر النشر في مقتل القاضى "سمير بدر" يفتح باب الشكوك: لماذا تُفرض السرية إذا كانت واقعة "انتحار" عادية؟    القانون يحدد عقوبة صيد المراكب الأجنبية في المياه الإقليمية.. تعرف عليها    مشاجرة بين طالبات وزميلتهم تتحول إلى اعتداء بالضرب عليها ووالدتها    ماكرون يستعد لإعلان تعديلات جديدة على العقيدة النووية الفرنسية    أحدهما دخن الشيشة في المحاضرة.. فصل طالبين بالمعهد الفني الصناعي بالإسكندرية    تواصل عمليات البحث عن 3 صغار بعد العثور على جثامين الأب وشقيقتهم في ترعة الإبراهيمية بالمنيا    اليوم، آخر موعد لاستقبال الطعون بالمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    كأس إيطاليا – إنتر ونابولي وأتالانتا إلى ربع النهائي    خبر في الجول - انتهاء مهلة عبد الحميد معالي ل الزمالك في "فيفا" ويحق له فسخ التعاقد    وليد صلاح الدين: لم يصلنا عروض رسمية للاعبي الأهلي.. وهذا سبب اعتراضي على بسيوني    علاج ألم المعدة بالأعشاب والخلطات الطبيعية، راحة سريعة بطرق آمنة    بيراميدز يتلقى إخطارًا جديدًا بشأن موعد انضمام ماييلي لمنتخب الكونغو    الإسكان تحدد مواعيد تقنين الأراضى بمدينة العبور الجديدة الإثنين المقبل    احذر.. عدم الالتزام بتشغيل نسبة ال5% من قانون ذوي الإعاقة يعرضك للحبس والغرامة    هل يجوز لذوي الإعاقة الجمع بين أكثر من معاش؟ القانون يجيب    الحكومة: تخصيص 2.8 مليار جنيه لتأمين احتياجات الدواء    قناة الوثائقية تستعد لعرض سلسلة ملوك أفريقيا    هجوم روسي على كييف: أصوات انفجارات ورئيس الإدارة العسكرية يحذر السكان    أهلي بنغازي يتهم 3 مسؤولين في فوضى تأجيل نهائي كأس ليبيا باستاد القاهرة    استئناف المتهمة في واقعة دهس «طفل الجت سكي» بالساحل الشمالي.. اليوم    بالأسماء.. إصابة 8 أشخاص في حادث تصادم ب بني سويف    تصادم موتوسيكلات ينهى حياة شاب ويصيب آخرين في أسوان    آثار القاهرة تنظم ندوة علمية حول النسيج في مصر القديمة واتجاهات دراسته وصيانته    العناية الإلهية تنقذ أسرة من حريق سيارة ملاكى أمام نادى أسوان الرياضى    مصر تستورد من الصين ب 14.7 مليار دولار في 10 أشهر من 2025    الشباب والرياضة: نتعامل مع واقعة وفاة السباح يوسف بمنتهى الحزم والشفافية    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مرتكزات أنثوية في الحجرة رقم 13
نشر في أخبار الأدب يوم 23 - 12 - 2012

نعرف من التاريخ أن سقراط كان يعلم أصدقاءه أن الفلاسفة وحدهم، من دون الناس جميعا، هم من يجب ألا يكون لديهم أي خوف من الموت، ذلك أن الروح، هي ذلك الجزء الذي يكون علي الخصوص الكيان الشخصي لكل إنسان، عالمة بكل شيء ولا زمن لها. فهي لا يمسها التغيير أو الجهل، وذلك علي اعتبار أن الموت هو تغير في حال الكائن، وبالتالي لا يستحق الحزن، ذلك لأن الروح عالمة بكل شيء ولا زمن لها، فهي لا يمسها التغيير أو الجهل، وقد لا نعرف نحن ذلك، لأننا سقطنا في خطأ التفكير في أنفسنا بنفس الطريقة التي نفكر بها في الأشياء المحسوسة. فكل هذه الأشياء توجد جميعا في حال الصيرورة فتدخل إلي الوجود وتخرج منه. ونحن أصبحنا مخطئين نعتقد أن لنا بداية ولنا نهاية، وأننا لا نوجد إلا لفترة قصيرة ثم نفني تماما. ويعرف الفلاسفة أن الأفكار لابد وأن تكون بلا زمن ، وباعتبارها كذلك، لايمكن أن تكون لها نهاية أو بداية. ثم هم يعلمون أيضا أن العقل لايمكن أن نميز بينه وبين مضامينه، ومادامت هذه المضامين هي أفكار لازمن لها فلابد أن الذهن أيضا لايموت، وبالتالي، فإن الفلاسفة لا يجب أن يخافوا من الموت أو يصيبهم الحزن بسببه.
أما الناس العاديون فهم الذين يقعون في الخطأ الفادح الذي يجعلهم يعتقدون أن الإنسان، كسائر المخلوقات الأخري، يصيبه التغير، وبالتالي الفناء، أو الموت، ولذلك فإنهم يصابون بالحزن أمام الموت، وهو الحزن بسبب موت الآخرين، لا بسبب موتهم هم، لأن الأموات أنفسهم لا يشعرون بالحزن، وإنما هم بالقطع مشغولون بشيء آخر غير الموت. فالموت يسبب الحزن لمن يعاين تجربة موت الآخر، فلا يمكن للإنسان الحي أن يعاين موته الخاص، وإنما الآخرون هم الذين يعيشون حالة الموت. إن حزننا علي موتانا يهددنا بشعور وبحقيقة الانفصال عن اتصال حياتنا الفردية، حتي إننا قد نبلغ في حزننا حد الشعور بأننا قد غادرنا الحياة نحن أيضا، أو إلي الإحساس بأن الحياة، بدون من كانوا يصنعون حياتنا بعلاقاتهم بنا، لا جدوي منها. وقد نبلغ حدا من الحزن نري فيه أننا أصبحنا كالموتي بعد فقداننا موتانا. وكان كير كيجارد يدعو للتغلب علي اليأس ، الذي هو أعلي درجات الحزن، ليس عن طريق بلوغ حالة الخلود التي لا تغيير فيها (والتي هي المرض حتي الموت في ذاته) بل بأن نحمل الموت إلي تاريخنا الشخصي، وذلك بنقل معني الحياة إلي الآخرين. وفي الحقيقة، فإننا بمثل هذا الموت فقط نستطيع أن نحيا علي الإطلاق. وهذا هو الموت الذي يطمح إليه الفنانون والشعراء والروائيون، وكل من يعيشون في الحياة علي شفير مشاعرهم وليس أفكارهم، ويتحسسون طريقهم في الكون بموهبتهم الفطرية في الإحساس بنبض الأشياء التي تتحول وتتغير، لأن التغير هو الذي يحضر في جعبته أعشاب الحزن التي يدمنها الفنانون.
حجرة أمل دنقل
ولأن هويدا صالح من الفنانين وليست من طبقة الفلاسفة، فهي تستطعم الحزن وتمضغه كالسحر الراقي الذي يأخذ البشر إلي جزيرة الأحزان ليتغني، معهم، بألحان أبولو العذبة المالحة الحزينة. وذلك حينما قابلتها المفاجأة المذهلة التي واجهتها والموتَ بشكل مباشر وقوي وصادم وفجائي، وهي ، في مفاجأتها الأولي،( تنصت لهسيس الأشياء، وترجئ دموعا ربما غافلتها حين نطق الطبيب بالكلمات الحاسمة) ص 11. وهي معنية جدا ب (الذي سيتبقي من امرأة كانت دوما صاخبة وشغوفة ؟!) ص11. ولأن الحياة والموت يتعلقان بالدرجة الأولي بمن نعاشر ، فقد انصب تفكيرها علي (كل المحيطين بها) وعلي كيفية ملاقاتها لهم (كيف ستلاقي كل العيون) ص12. وكيف سيكون (وقع الصدمة عليهم) ص 12. ولكنها لا تعود في الخطوة الثالثة إلي نفسها ومشاعرها الخاصة وهي تدخل إلي مركز الأشعة، بل تشغلها الممرضة التي تعد جهاز الأشعة، وهي (الممرضة) تدندن بلحن مألوف، فهذه الممرضة تمارس عملها اليومي المعتاد لا أكثر، وتتعامل مع المرضي كالأدوات، فهي لا تشعر بهم، ولا تحس بما يعتلج في دواخلهم من خوف أو أحزان، فالمريضة ليست أكثر من (حالة). والطبيب أيضا، لا يري فيها أكثر من حالة، فهو لا يتكلم معها، وإنما يشير لها أن ترقد هنا، وأن ترفع ملابسها حتي منتصف بطنها، ويضع المعجون البارد ببرود، حتي إنها تبلع سؤالها الذي كانت تريد أن تسأله للطبيب الذي كان صامتا لدرجة جعلتها تبتلع سؤالها. ولأنها ليست أكثر من حالة ، فهي لم تشعر بأي خجل من كشف ملابسها حتي منتصف بطنها.
ولأن الموتي المؤقتين، أقصد الذين يضعهم المرض علي مشارف الموت، مرعوبون من الفناء، من الرماد الذي سوف يتخلل مسامهم ويحولهم لرماد مثله، خائفون حد الهلع من فكرة الفناء، فإنهم يتعلقون بالأشياء التي حولهم، يلاحظونها، بل ويتعاملون معها ، كما لو كانت - مثلهم أشياء تنتظر أن تصير إلي فناء مثلهم أيضا. فالشاعر أمل دنقل يعبر عن الأشياء التي حوله في الغرفة التي يقيم فيها، وفي غرفة العمليات، والأشياء التي يأتي بها الزوار، كالأزهار، ويلاحظ الطيور والخيول، كل ذلك في ديوانه الغرفة رقم 8، تلك الغرفة التي قضي فيها أواخر أيامه لتلقي العلاج الذي كان يعلم تماما أن لا فائدة منه
ثلاثة أنغام
ولأن هويدا صالح روائية عرفت أساليب السرد المختلفة، وتمرست عليها، فهي تعزف أسلوبها السردي المقسم علي ثلاثة أنغام، فالمقطوعة النغمية الأولي وضعتها تحت عنوان ( خطوات خمس نحو ممر ضيق) وتشغل حوالي ثلاث وثلاثين صفحة، من صفحة 11 إلي صفحة 43. أما المعزوفة الثانية فجاءت تحت عنوان ( ذكريات قديمة وحديثة لذلك الجسد المريض) وقد جاءت في حوالي ثلاث وعشرين صفحة من صفحة 47 إلي صفحة 70، والمعزوفة الثالثة جاءت اعتبارا من صفحة 73 وحتي نهاية الرواية، أي في صفحة 117 أي أنها شغلت حوالي أربعة وأربعين صفحة.
والمعزوفة الثانية تعبر عن عنوانها خير تعبير، فهي عبارة عن ذكريات قديمة وحديثة لذلك الجسد المريض، وبالطبع فإنها رجعت مع الفلاش باك إلي مواقف هامة من حياتها، وأول هذه المواقف هو موقف الجنس، وكيف أنها ككل بنات جنسها كانت تعتبره عيبا وعارا يجب إخفاؤه وعدم الجهر به أمام الآخرين، فينما وقفت أمام المصوراتي، ولامست أنامله نهديها ... ارتعشت، وبحثت في خوف عن عيون أبيها، ومع أنها تمنت أن تسعد أكثر بالشعور الجنسي، إلا أن فكرة التابو كانت تمنعها من الاستمرار في أمنياتها هذه ص 74 . ويختلط الجنس عندها بالحلم الذي يظل يراودها لفترة طويلة، وهي تتشوق إلي رجل الحلم الذي كانت واثقة من حضوره، فهو كما يعبر هو عن نفسه في الحلم قائلا : أنا الملك جئت، ص53. ولأن الأحلام تعبر في الغالب عن الرغبات المكبوتة كما قال فرويد، فإنها تتلبس رداء الشعر ، وتنحو اللغة هنا إلي التعبير الشعري واستخدام المجاز. ص55. ، 57، 58، 94 . ويبدو أن التيمة الأنثوية للموت تتجسد في البلوغ والآلام المصاحبة لحدث الطمث الذي يفاجئ المرأة، كما حدث مع المرض المخيف، ومن المعروف أن إحاطة الجنس بالمحرمات والقيود جاء مع الانتقال من المجتمعات الأمومية إلي المجتمعات الأبوية فقبل ذلك الانتقال لم تكن الثمرة محرمة أصلاً بل كان الفعل الجنسي حدث يُحتفي به بما يتسق مع موقعه من حياة الإنسان. وأهمية انتقال الخبرات الأولي للمرأة من عهد الطفولة إلي عهد البلوغ نفسيًا وجسديًا، تتمثل في إظهار مكانة وأهمية أول حدث فيزيولوجي مميز في حياة المرأة، وهو الطمث، في أزمنة سابقة لتحول هذا الحدث إلي عار ودنس. وكذلك الآلام المصاحبةص 62.
وفي الجزء الثالث المعنون بيوميات أخري لذات المرأة، نجد أن المشكلة الأكبر تتمثل في اعتيادية الحياة، فهي تمارس دورها كأم بنوع من القصور الذاتي الذي تستعمل فيه حتي جسدها لتحقيق رغبة ابنتها في الذهاب إلي الرحلة وتتولي إقناع الأب بذلك حتي ولو كان الثمن أن تهبه جسدها الذي نسيته علي سطح البيت القديم المليء بالحطب الناشف. ص 73، 74، 75.ثم تلهو بأحلامها الصغيرة، كالمشي حافية علي كوبري قصر النيل، أو أن تتأمل محل جروبي وحلمها القديم الذي لم يتحقق بارتياده، وبإحساسها بهروب الزمن، وبالاستماع إلي موسيقي موزارأو الحلم بالآتي.
تقديس الجسد
الكاتبة هنا مثقفة بشكل ماكر، أي أنها تستخدم قواعد الدراما الإغريقية التي تؤثر في النفوس كما أثرت في تاريخ الأدب والفن، ولكن لأنها فنانة بالدرجة الأولي قبل أن تكون مثقفة، فقد عرفت كيف تخبئ ما تريده في عباءة من اللعب الهادف، الذي يعطي الفن قوته السحرية علي الولوج إلي دواخل النفوس، فبطلة هويدا، مثلها مثل كل البشر، ترتكب الخطأ التراجيدي الفادح الذي يستوجب العقاب، وخطؤها يتمثل في روايتها هذه، في غفلتها عن ثعبان المرض الغادر الذي يمكن له أن يفاجئ الناس وهم في عز ولعهم بالحياة، فبطلة هويدا صالح، من النوع المستمتع بحياته، ونجد ذلك في "ذكرياتها القديمة والحديثة عن ذلك الجسد المريض"، فقد حاولت أن تستمتع بتفاحة الجسد، وتشعر باللذة حين تلمس أنامل المصور نهديها، ولكنها تخشي من أبيها، رمز القوة والبطش والقهر. وهي تنصت باهتمام إلي دردشات زميلاتها في المدرسة عن الزواج والعلاقات الزوجية. وكذلك هي من النوع الذي يقدس الجسد بعفوية شديدة وتلقائية بريئة، حتي تنهرها المدرسة وتمنعها من نط الحبل الذي ربما يعري فخذيها، ولنلاحظ هنا وجود الرقيب الغاضب الناهي الآمر في كل واقعة من وقائع المتعة، وكأن الإنسان لم يخلق إلا لتلقي ألوان الألم فقط، ولتحرم عليه كل أنواع المتع، وهي كما رأينا ساحرة مسحورة كما تقول هي ص 59 : لأن للبنوتة سحرا وفيضا، والقلب لم يعرف الحزن والخوف، لم يعرف كيف يعشش في الروح، فقد قاومت البنت قسوة من يخافون عليها طوال الوقت، لعبت، جرت، واحتملت توبيخ الجميع،وأعطت لليد فرصة للملامسة، والروح فرصة للفرح. وللحم فرصة ليشكل روحها، تقول ص 60 عن حبيبها الذي تجاهلها،: " أقسم لو نظر في عيني ، لحبسته فيهما؛ لعلمته كيف تُعْشَقُ امرأةٌ مثلي" هذه هي البنت التراجيدية، البنت التي وقعت بين مخالب القدر الغاشم فيكون العقاب القدري المفاجئ الذي يتمخض عن تأثير البنج في حجرة رطبة، تتوه بين طيات الحلم الذي ظل يراودها بين حين وآخر، ولكنه لم يتحقق أبدا، وكأنه جودو الذي لا يأتي ولكننا لا نكف عن انتظاره. ولأنها مولعة باللعب، اللعب الفني واللعب الواقعي، فإنها تقرر أن تجعل اليوم لها، لها وحدها، ص63، فتنظر إلي السماء الصافية، فالسحاب الأبيض يشكل صورا سريالية، والطريق طويل إلي المدرسة، فقد قررت أن تمضي الوقت في تشكيل صور للسحاب وفق مزاجها النفسي، إننا نري هنا طفلة بكل معاني الكلمة، تلعب بالطبيعة، وبالواقع، وبالفن. هذه هي القدرة علي مواجهة الموت، القدرة علي أن نحيا بشكل عميق، القدرة علي أن نعرف طعم الحياة، ويكون لحياتنا معني، كما يكون لموتنا - كذلك معني. لا أن نحيا ونموت دون أن ندرك لذلك طعما أو هدفا او إحساسا. إن الفن الراقي هو العدسة الكاشفة للنفوس التي معادنها من ذهب، وأحداث الحياة ولهيبها قادرة علي تجليتها والقضاء علي خبثها، وإظهار مفاتنها.
ولأن الحلم يظل حلما، ولأن الشعر هو لغة الحلم، فنحن نختبئ من خوفنا الدائم من الموت في عباءة الحلم الفضفاضة .. ولكن يطفو علي سطح السرد، شعر كأنه الشعر، شعر لأنه يأخذنا إلي آفاق لم تطأها قدم قبل ذلك، وتمنينا بالمتعة، وبالسعادة الأبدية، وهنا غلطتنا الدرامية جميعا، غلطة أن نسهو عن الحقيقة الكبري، عن الموت الرابض لنا في ثواني الوقت، يسخر من غفلتنا، وهذا السرد، الذي قلت عنه إنه شعر وليس شعرا في نفس الوقت، هو الأسلوب الحميم الذي تتدثر به الكاتبة وتغطي به عوراتها الخائفة من الموت، وتحس أن ذلك نوع من العار، وهي ، بالقطع، تعي أننا جميعا، نحن البشر، نرتعد خوفا وهلعا من هذا المخبوء لنا بين أحراش الزمن، ينتظر ، ويسن أنيابه، ويحضر لنا قارورة السم الزعاف. هذا الأسلوب السردي الكثيف، يعطي الرواية لونا من ألوان الأسطورة اليومية التي تحيطنا بالسرد الكوني :
أيها الراحل في دمي
هلا بسطت يد الهوي
الروح تشتعل والجسد أيضا
فقط تهفو إليك الروح، فلْتَحِنّْ
تعال لتنقذها من ألم
لم تعد قادرة علي تحمله. ص55.
شعرية الأسلوب
وحينما نتكلم عن شعرية الأسلوب في الرواية ، ليس المقصود بذلك شعرية الخيال المتجسد في الكلمات فقط، وإنما المقصود أيضا، شعرية نسج الأحداث ذاتها، فالحث، كأسلوب السرد تماما، له مظاهر دالة، وهو في أغلب الأحيان يكون دالا علي جهامة الوقائع، أو ارتباكها، أو أنها متسقة ودالة وهادفة، وربما تكون دالة علي الحالة النفسية والمزاجية، فهذا الحدث البسيط الدال يأخذنا إلي عوالم شديدة الإحساس والوقع في النفوس، ( إنها كانت تود أن تنفرد بذاتها، التي تركتها هناك علي سطوح منزل ريفي قديم، كانت تفترش كومات الحطب والبوص والغاب الجاف الذي تستخدمه أمها في إيقاد الفرن، لكنها هناك تنام علي كوماتها وتتأمل صفحة السماء الزرقاء، وتصاحب النجيمات. وتحلم. ولما لم تر ذلك الحلم الذي نسجته علي مهل، تركتها وجاءت إلي بيت الرجل الذي تفنن في الصراخ والانشغال عنها.)ص 74.
هذه الأنغام أو هذه المرتكزات التي تتجسد فيها عذابات المرأة الحساسة الولعة بالفن بكل أشكاله، تقف علي عدة مرتكزات أساسية قد تجعلنا نعتقد أنها تخص أدب المرأة فقط، أي ما يطلق عليه البعض الأدب الأنثوي، ولعل من أبشع المرتكزات الأنثوية تجربة الموت، موت الابن، خصوصا لو كان هذا الابن مازال في بطنها، أي موته وهو جنين. أي ما يعرف في الأدبيات الشعبية باسم (السقط)، وهذا يذكرها بمرتكز وبألم آخر، هو ألم الزواج. وهويدا لا تنسي أبدا فنها، وأنها تكتب رواية أو ترسم سيناريو لما حدث، وأنها أنثي بكل مرتكزات هذه الكلمة، فهي تتدخل بشخصها في الحدث علانية باعتبارها الفنانة الكاتبة، فتقول عن ليلة الدخلة إنها (كئيبة بشعة)، وهذه الليلة تستحق هذا الوصف غالبا عندما تكون الواصفة امرأة، أي أنه مرتكز أنثوي، وهذه الليلة أيضا لا تستحق هذا الوصف عند الرجل إلا في حالة واحدة ، هي حالة إصابة الرجل بالعُنَّة، أي عدم القدرة علي ممارسة الجنس، ولذلك نستطيع أن نطلق علي هذه الرواية أنها رواية أنثوية بكل ما تحمل الكلمة من معني، وعندما نعود إلي هويدا الفنانة الكاتبة ،نجد أنها قررت أن (تفكك المشهد وتعيد تركيبه لتصل بها {الشخصية الرئيسية في الروايةْ} إلي غرفة واسعة يتوسطها سرير عرس لامع بمفرشه الوردي، وملاءاته الحريرية، ويقف في الكادر {لاحظ كلمة الكادر، وهي تستعملها كما لو كانت تناقش مع مخرج العمل كيفية إخراجه}، ونعود لنقرأ معها ... ويقف في الكادر رجل متلهف يلقي بملابسه بسرعة علي حافة السرير، وهي جالسة علي كرسي التسريحة، تفك الطرحة التلي البيضاء، وترمقه بذات الفزع الذي رمقت به العجوز العجفاء قبل ذلك بمشهد { لاحظ أيضا قولها : قبل ذلك بمشهد}. ص 110.والكاتبة طبعا تخاطب القارئ وتشركه معها في رسم خطة الحدث... ونحن هنا نخرج نهائيا من لعبة الإيهام الروائية، فالكاتب حريص علي إيهام القارئ بأنه يحكي له حكاية حقيقية، بل إننا نجد بعض القراء عندما يريدون أن يمتدحوا عملا قصصيا فإنهم يقولون إن هذه الأحداث واقعية ، بمعني أنها قد حدثت بالفعل، متجاهلين تماما أن اللعبة الفنية لها قانونها الخاص الذي يختلف عن القانون الواقعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.