في غبشة مابعد الغروب، وكانت ماتزال تمطر، وصل إلي عمارة الطبيب، بعد إلحاح من أهله ألا يسكت علي مرضه ، وأنهم سألوا فدلهم الناس علي هذا الاستاذ الجامعي الاختصاصي في الأمراض الروماتزمية. كان سابقا يصاب بهذا الوجع، وباسبرينة والتغطية جيدا ليلاً، ينقشع الوجع، فيوقن انه مجرد برد. استند بيديه علي الدرابزين، وحاذر وهو يضع قدمه علي كل سلمة، حتي لايشتد ألم ينغزه في جنبه الأيمن وظهره. وصل إلي الطابق الثالث حيث يريد. باب الشقة منفرج الضلفتين، وبعض المرضي قد جلسوا علي كراسي لصق حوائط الصالة. ومستخدم شاب يجلس خلف مكتب معدني صغير غير بعيد من حجرة الفحص. دفع المطلوب، ودار بعينيه خارجاً يبحث عن موطيء. فرأي بعضهم من احتل درجات السلم الصاعدة، وافترشوا البسطة، هم بالذهاب إليها، لكنه استشعر برودة تسري في جسده. نظر داخل حجرة مجاورة لحجرة الفحص فرأي طاولة حديدية، أسرع وركن بمقعدته علي حافتها. وأزاح هواء بارد ستارة تغطي نصف الحجرة تقريبا، فبانت طاولة مبطنة بجلد زيتي مشقق، يبدو انها تستخدم لمرضي العلاج الطبيعي. ولم تلبث ان جاورته علي الطاولة سيدة قدرها في الخمسينيات من عمرها، برفقتها شابة، ساعدتها في الجلوس علي الطاولة. واسترعي انتباهه تدافع الواقفين في المدخل ، يفسحون الطريق لرجل متوسط القامة خرج من بينهم. وعقبت امرأة علي البسطة: - عارف ربنا.. فانتبه أنه مكث أكثر من ساعة، فقد حان وقت صلاة العشاء. فتحت الشابة شنطة قماشية، أخرجت منها سجادة، فرشتها خلف الستارة وأشارت للسيدة. ركز ناظريه علي باب العيادة، ليري الطبيب حال عودته، محاولا استعادة ملامحه التي رآها خطفا وهو يخرج . لم يستعد شيئا ذا بال، سوي أنه يرتدي جاكته كمونية اللون، بزراير صفراء لامعة علي صفين. ذهب إلي المستخدم متمحكا بالسؤال عن دوره، وهو يود السؤال عن مكان المسجد، بعيد أم قريب. طمأنه أن المسجد قريب وأنه سيأتي حالاً. عاد إلي الطاولة الحديدية، وكانت السيدة قد انهت صلاتها، فود لو يريح جسده خلف الستارة علي الطاولة الجلدية. ولحظت السيدة زمزأته فسألت: -حضرتك من المنصورة ولما أومأ بالايجاب قالت: - جئنا من دمياط، ونخشي أن نتأخرفلا نجد عربة تعود بنا. قال: - كان ينبغي الحضور مبكراً. - جئنا بعد العصر، وقبل أن يحل دورنا نزل الطبيب لصلاة المغرب وعقبت الشابة تخفف عنها: - اليوم آخر الأسبوع ، لذلك فالمرضي كثيرون لأن غداً وبعد غد إجازة. انسحب داخل نفسه، وقد لاحت أمامه الإجابة علي تعجبه عندما طلب المستخدم ستة وستين جنيها، فقال في نفسه لماذا ليست سبعين أو ثمانين جنيها..؟! اهتدي الآن إلي أن ستين جنيها أجرة الفحص وخمسة جنيهات للمستخدم ، وجنيه لامرأة في معطف أبيض تطل عليهم في الحجرة من حين لآخر كأنها تطردهم منها، ولايدري من سحنتها ومن ملابسها غير المهندمة هل هي ممرضة أم عاملة نظافة. وبينما يسخر من نفسه لانشغاله بأمر كهذا، أحس بحركة في الحضور أخبرت بعودة الطبيب. ذهب إلي المستخدم يستعلم عن دوره، فطمأنه أن الباقين علي كثرتهم سينصرفون سريعا، لأن أغلبهم حضر لإعادة فحص. وصدق هذه المرة، فلم يلبث أن ناداه. طالعه الطبيب بابتسامة مرحبة، باتساع وجه أسمر شعر خشن قصير، ولفت نظره منديل مطرطر من جيب جاكته العلوي. هم بشرح علته، وكان قدلاك ذلك في ذهنه عدة مرات ، حتي استقر علي الكلمات التي تمكن الطبيب من فهمه، فإذا، فإذا به يبادره: - ردد ورائي.. اللهم.. ويحفزه مشجعاً بهزة من رأسه، فلم يجد بداً من الانصياع ، حتي وصل في دعائه إلي تقبل كل مايرزأنا الله به، فقال ضاحكا: - بدون ألم. ابتسم الطبيب وأشار إلي طاولة الفحص. وهو يخلع جاكتته، كادت تفلت منه ضحكة وهو يتساءل: إذا كان الطبيب قد طلب من الله فعل كل شيء، فلماذا يأخذ ثمن الفحص؟. تمدد علي الطاولة وهو يقول - عندي.. - اخلع حذاءك. وبعده فك أزرار القميص، وحين شرع يشمر فانلته عن جنبه وظهره، أعاد الطبيب ذراعيه إلي جانبيه، ورفع إحدي قدميه إلي أعلي وسأل: - تشعر بشيء - لا ثني ركبتيه وضبط أسفلهما: - كيف الحال - لاشيء طلب منه رفع جذعه لأعلي وضبط أسفل ظهره: - ها.. - لاشيء - لست مريضاً بالروماتزم - وهذا الوجع - التهاب في الأطراف العصبية وجلس خلف مكتبه يحرر تذكرة طيبة وفي الصيدلية سأل الصيدلي عن ماهية الأدوية فقال أغلبها مسكنات. فاستفسر : - منومة..؟ - بعضها .. وتناول كل علبة يدقق في الثمن، وينقر علي آلة حاسبة صغيرة. تابعة وهو يجمع الأرقام في ذهنه، وأصابعه في جيبه تتأكد من كفاية الأوراق المالية: هل يطلب من الصيدلي حذف الأدوية المنومة..؟ أم الأفضل أن يستأذنه في استشارة الطيب بشأنها..؟. استقر علي الرأي الأخير.. وهكذا يسترد التذكرة وينصرف دون حرج.