د. احمد سخوخ ظهور المسرح كان جزءاً من حركة التنوير التي رافقت صعود البرجوازية التي كانت في حاجة إلي التعبير عن حاجتها الثقافية والفنية . ( أدركنا يا أمير المؤمنين فإن الفسق والفجور ، قد تفشيا في الشام فهتكت الأعراض ، وماتت الفضيلة ، ووئد الشرف ، واختلطت النساء بالرجال) هكذا خرج الشيخ سعيد الغبرا في وجود السلطان عبد الحميد أثناء صلاة الجمعة بالأستانة، منذراً خليفة المسلمين ، محذراً إياه والمصلين من (البدعة) الجهنمية التي تهدد العقيدة الدينية ، وما تحدثه هذه البدعة التي تسمي ب " المسرح" في نفوس الناس من فسق وفجور وفحشاء وكان الشيخ سعيد الغبرا ، قد جمع توقيعات شيوخ المدينة وأغنيائها ، وقد شد الرحال إلي الاستانة محتجاً إلي الحكومة العثمانية لمنع التمثيل في سوريا ، بعد أن عجزت كل محاولاته في دمشق عن غلق مسرح أحمد أبي خليل القباني . وكان قد تقدم هو وشيخ المدينة بمكتوب إلي والي دمشق يحذره فيه ، من أن : ( وجود التمثيل في البلاد السورية مما تعافه النفوس الأبية ونراه علي الناس خطباً جليلاً ورزءاً ثقيلاً ، لا ستلزامه وجود القبان ينشدون البديع من الألحان بأصوات توقظ أعين اللذات في أفئدة من حضر من الفتيان والفتيات ، فيمثل علي مرأي من الناظرين ومسمع من المتفرجين أحوال العشاق ، فتطبع في الذهن سطور الصبابة والجنون وتميل بالنفس إلي أنواع الغرام والشجون والتشبه بأهل الخلاعة والمجون . فكم بسببه قامت حرب الغيرة بين العوازل والعشاق . وكم سُلب قلبُ عابد وفُتن عقلُ ناسك ، وحُلَّ عقد زاهد . والخلاصة فإنهم مثَّلوا بالتمثيل أشنع الأوصاف زاعمين أنه أُسس كل ( رزيلة وفعل وبيل.)(1) وفي حقيقة الأمر لم يكن الشيخ سعيد الغبرا ورفاقه من شيوخ الرجعية يدافعون عن الدين ولا عن الفضيلة ، وإنما كان دفاعهم عن مصالح شخصية صغيرة ، ووقوفهم ضد حركة التنوير الجديدة التي بدأت مع صعود الطبقة البرجوازية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واهتزاز صورتهم المقدسة مع ظهور المسرح وظهورهم علي خشبته . وعلي النقيض من هذا التحليل ، فإنه الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس يعرض في كتابه ( بيانات لمسرح عربي جديد) رؤية الدكتور شاكر مصطفي الذي كان يري أن القباني كان يقدم شخصيات لأمراء وحلول معبراً عن المجتمع الاقطاعي انئذ ، والذي كان يعيش في ظل السلطان العثماني ، وإذا كانت الطبقة البرجوازية قد أهملت هذا المسرح ، فلأنها لم تجد فيها ما يمثلها ، في الوقت الذي اعتذر السلطان وحاشيتة له بالمال والراتب عن إهمالهم الأول له ويري ونوس أن استنتاج الدكتور شاكر مصطفي هذا ، لم يكن منطقياً ، وهو الاستنتاج الذي يزيد السؤال المطروح تعقيداً ، فإذا كانت النصوص التي قدمها القباني ، لا تعبر إلا عن قيم ومفاهيم مجتمع إقطاعي يترنح أمام ضربات البرجوازية ، فلماذا قاد إذا ممثلو المجتمع الاقطاعي بتركيبته الدينية ذلك الهجوم العنيف علي القباني ؟ خاصة أن الذي ذهب إلي الاستانة ، لم يكن من أفراد الطبقة البرجوازية ، وإنما أحد شيوخ هذا النظام الاقطاعي الديني ، وهو سعيد الغبرا بعد أن جمع 26 توقيعاً من الشيوخ والأعيان ، وهنا يعيد ونوس طرح السؤال : لماذا وقفت الرجعية الدمشقية بهذه الشراسة ضد تجربة خليل القباني ؟ في محاولة لتحليل الأسباب الحقيقة وراء هجمة الشيوخ والأعيان ضد مسرح القباني ، يؤكد ونوس أن القرة قوز كان ينتشر في أنحاء دمشق ، وكان يصور مواقف ماجنة ، ويستخدم ألفاظا بذيئة ، ويقدم أحداثا مخجلة ، لماذا إذن والأمر هكذا ذ القرة قوز ؟ وهنا يصل ونوس إلي دافع شيخ الغبرا وصحابته غير الأخلاقي ، فلم تكن الدوافع الأخلاقية التي استندوا عليها ، إلا قناعاً ويخفي الرجعية وراءه الأسباب الحقيقة . ونصل بذلك إلي رأي الدكتور إبراهيم الكيلاني الذي كان يري أن القباني قد تنبه إلي الخطر المحدق بمسرحه ، فلجأ إلي استرضاء زعماء الرجعية ، فقاسمهم الربح ، وكان نصيب الشيخ سعيد الغبرا ضئيلاً ، فشد الرحال إلي الأستانة عاصمة الخلافة بعد أن أعجزته الحيلة عن محاربة أبي خليل القباني في بلده ، وهنا يصف ونوس هذا الأمر باعتباره ( وضاعة أخلاقية) البدعة : أن النظام الإقطاعي كان يقوم علي التحالف بين كبار الإقطاعيين ورجال الدين ، كما يقول لوتسكي . وحين أخذت الدولة العثمانية في التفكك نتيجة للفساد ، شكل رجال الدين معارضة شرسة قاومت كل تحديث ورفعت راية (البدعة) في وجه كل تغير يمكن أن يمس النظام الإقطاعي القائم " فحاربوا إصلاح الجيش ، وانضموا إلي شراذم الإنكشارية في ثورتها ضد النظام العسكري الجديد . قالو : ( إن التعليم العسكري من الأمور التي لم يعرفها الإسلام . النظام الجديد بدعة ، وكل بدعة حرام ، إنه من بدع الكفار ، والأخذ به ما هو إلا تشبه بالكفار .)(2) ومسألة البدعة كما يري ونوس ليست إلا ذريعة مطاطة يستخدمها رجال الدين لتحقيق أغراض سياسية إجتماعية واضحة كانت سلاحهم لإيقاف انهيار طبقة الإقطاع المتحالفين معها . وبعد منتصف القرن التاسع عشر توسعت الرجعية الدينية بالمقابل في استخدام السلاح البدعة . وبعدها أسرعت الرجعية الدينية تتحالف مع طبقة السلطة الجديدة وقد توطدت الصلات بين الرأسماليين والتجار الجدد ورجال الدين ، يتبادلون المنافع لتعويض أي تحول اجتماعي جديد يمكن أن يهدد سلطتهم أو نفوذهم السياسي . ويرصد ونوس عوامل خطر البدعة الجديدة أي المسرح علي رجال الدين في عوامل ثلاثة : ظهور المسرح كان جزءاً من حركة التنوير التي رافقت صعود البرجوازية التي كانت في حاجة إلي التعبير عن حاجتها الثقافية والفنية . العرض المسرحي يشكل حدثاً إجتماعياً ؟ أدي إلي إنزعاج الرجعية الدينية من تأثيره علي الجماهير . يتعلق هذا العامل ، بعملية التشخيص التي تؤدي في النهاية إلي إزاحة الفوارق بين الطبقات التي كانت الطبقة الرجعية الدينية تسعي إلي تأكيدها بصرامة ، حيث ينزع التشخيص عن هذه الطبقة مع الملوك والنبلاء هالة القداسة بتصويرهم علي خشبة المسرح والسخرية منهم أحمد أبو خليل القباني لقد شكل القباني (1833 1903) الريادة الثانية في المسرح العربي بعد ريادة مارون النقاش في بيروت نهاية عام 1847 .. وكان القباني قد تأثر بالنقاش ، وبعروض المسرح التركي ، لارتباطه بأصول تركية ، وبالمسرح الفرنسي أثناء ولاية الوالي صبحي باشا الذي شجعه علي تقديم عروضه المسرحية ، والتي بدأت في بيت جده بمسرحية ( ناكر الجميل ) حول عام 1865 وقد تلاها بمسرحية (الوضاح) في كازينو الطليان ، وبعدها توالت أعماله المسرحية ، وحين تولي مدحت باشا ولاية دمشق عام 1878 ، بدأ نجم القباني في الصعود بعد أن امر الوالي باء عطائه تسعمائة ليرة لإنشاء مسرح كلفه ألفي ليرة ، وشكل مع إسكندر فرح فرقتهما المسرحية ، وحين نُقل الوالي مدحت إلي الحجاز ، انتفضت الرجعية الدينية علي القباني . إثر عرضه لمسرحية (أبو الحسن المغفل ) بدعوي ظهور هارون الرشيد علي خشبة المسرح ، وعلي أثر صرخة الشيخ سعيد الغبرا ضد (بدعة) القباني ، أغلق مسرحه ثم أحرق. وقد حرض شيوخ الرجعية الصبية والأطفال لملاحقة القباني بالسب والشتم : أبو خليل النشواتي يا مزيف البنات
ارجع لكارك أحسن لك ارجع لكارك نشواتي
أبو خليل مين قلك علي الكوميضا مين دلك
ارجع لكارك أحسن لك ارجع لكارك قباني
أبو خليل القباني يا مرقص الصبيان
ارجع لكارك أحسن لك أبو خليل القباني
وقد ترك القباني دمشق إلي حمص وبعد عامين سافر ومعه اسكندر فرح إلي مصر عام 1844 ، ليبدأ رحلته الفنية من الإسكندرية حتي استدعاه الخديو توفيق إلي القاهرة وقد ظل بها مع تنقلاته إلي الخارج حتي عام 1900 ليعود إلي دمشق وقد مات بها بعد أعوام ثلاثة مروا من شيوخ الغبرا . هوامش : فرحان بلبل : المسرح السوري في مائة عام ، نقداً عن أدهم الجندي ، منشورات وزارة الثقافة ، المعهد العالي للفنون المسرحية ، دمشق،1997 سعد الله ونوس : بيانات لمسرح عربي جديد ، دار الفكر الجديد ، بيروت ، 1988.