ورد النيل هنا كل يوم أتأمل النيل الهامد، يلمحني ورده فيقبل علي فرحاً، أراقب العابرين والجالسين، السيارات الغريبة والمراكب الفقيرة، أراقب الكون، أسند ظهري للسور القريب من الأرض، أو أحاول احتضانه تحت إبطي لأري اتجاهاً واحداً محدداً، ولم يكن نفير انصرافي سوي الشمس تخبطني علي قفاي لسعاً حاداً، فألملم نظراتي، ثم أكومها فتتجه نحو المرأة صاحبة الوجه الرائق، بلا إرادة مني، كانت تملأ كيسها الشفاف القوي، مدسوسا نصف جسدها في الصندوق المترب، تتحسس أحشاءه بيدين طويلتين، ثم تضع بحذر كفّها بما التقط، داخل الكيس الضخم. كوّرت قطعة قماش سوداء مغبرة باهتة، طبطبت عليها فوق رأسها، ثم أشارت لي باسمة، فأرسلت عيني نحو النيل المرتجف، لكنها أحكمت ربط كيسها الضخم ثم أشارت لي ثانية، فمشيت وتيداً بحذاء يئز، رفعت الكيس ناظرا إليها، فقالت: »أنادي لك من ساعة، أنت واقف من زمان؛ وعدلت كيسها فوق قماشتها المتربة، بلا إجابة تنتظرها مني، ثم رمت بقدمها للأمام، ربما كان جلبابها أزرق ثم صار بنياً أو شيئاً كالبني، حين ارتمت عيناي خلف حذائها البلاستيكي الأحمر، تراجعت بظهري سائداً إياه علي السور القزم، لملمت عينيّ من حول صندوق القمامة الذي كان يودعها في رزانة مفتعلة، مشيت بهدوء نحو عرض الشارع، تسمرت في انتظار سيارة تذهب بي بعيداً، لكنها ابتسمت، فوجدت وجهها- الذي طالما رأيته رائقاً- متجعداً كصباحاتي، بعينين زرقاوين حادتين وشفتين رفيعتين كانت تلمحني، البنايات الزاحفة لم تعد تخيف بقايا النيل، اعتاد اقترابها منه خلال ثلثي عمري الأخيرين، بينما اقتربت ثانية من العجوز بثغر مفتوح وقلب ضاحك، فأحاطتني عيناها. حين رأيت الجرافات تزيل ورد النيل بطول المصرف، كانت قابضة علي ذيل ثوابها ببقايا أسنان، تركع خلف الجرافات، ثم تأخذ الورد المنتزع لتضعه في كيسها البلاستيكي، كانت تعيده للنيل مرة أخري، لكن رماح الحديد وقوالب الطوب الأسمنتي قد انتشت فابتعلتها في روية. كان المكان مختنقاً ومفزوعاً كان المكان مختنقاً ومفزوعاً من العدد البشري الذي يسكنه، شكل هائم يضم بين منحنياته المتعددة عشرات الأرجل والعيون والأذرع، لاتستوعب هذه المساحة سوي ربع العدد الموجود فعلياً علي الأكثر، والسبب جلي. - مافيش مواصلات - ولاميكروباص فاضي... - تاكسي منين ياسيدنا؟! غالباً هنمشي لحد ما بيان لنا صاحب.. - يابنتي مش قادرة.. اتصرفي.. - الزحمة لحمة... المساحات الخالية حول الشكل البشري العشوائي، لم تشجع أي فرد علي التزحزح من مستقره، كل واحد قد تسمر في موقع محدد، بعد أن لف ودار وراح وجاء كثيراً، بعد أن جري خلف الميكروباص الذي يئن مما يحوي، أو هرول وراء السائق المندفع، هرباً من القادمين بمركبته الفارغة. كل شخص في جزب واختبر، تحركات ومواقف واندافعا، أوصلته لمكانه الحالي، سواء باختياره بعد اختبار الخيارات الفاشلة والناجحة وغير المجدية، أو بإجبار الكتلة الجسدية الضاغطة من كل اتجاه له علي أن يلزم حدوداً لايتخطاها. لم يكن هناك انفراج أو انبساط في المستقبل القريب المولي، كان الوضع المختلط للسيارات والميكروباصات والمركبات المتباينة، يبدو بلا نهاية، الكل متداخل، والحركة بطيئة، حتي أنها لاتكاد تظهر للفاحص الباحث المدقق، كان جنود شرطة متاثرين في الفجوة الضئيلة، يحاولون بخطي عاجزة، أن يقتنصوا ثغرة، لم ينتبه لها »عربجي» عربة كارو أو فتي مغطي بالشحم والغضب وهو يقود »تيريسيكال» ثلاثي العجلات، لكن الجميع قد اقتنصوا كل الفرص وأرباعها وأشباهها، فلم تبق نافذة ولم ينج ثقب إبرة. هذا ما كان واضحاً أمام الشباب الممتليء عريض الكتفين الذي فرق شعره اللامع من الجانب، كان يضغط علي أصابع قدميه بكل جسده، ليتثبت بالموقع الممتاز، الذي يجعله أقرب لاقتناص أول فرصة تلوح، كان يضغط أصابع يديه في بعضهما، ضامناً بينهما جهاز اتصاله الحديث، الذي يظهر من بينهما كأنه حيوان أليف محاصر، يحاول الإفلات ولا يستطيع حتي التنفس، بينما هو ينسج سيناريوهات متنوعة لمحاولات سرقة جهازه الأثير وكيف سيمنع هذه الكارثة، كان يضغط أصابع قدميه وأصابع يديه وأسفل جبهته فوق حاجبيه، كانت رأسه مضغوطة بشكل تلقائي فبدا كجوال منتظم مضغوط غريب الهيئة، بينما لمعان شعره النائم هو مؤشر وجوده، والومضة التي تشير لحيز يشغله. كانت العبارة تتأرجح أمام عينيه.. - مافيش مواصلات... كانت العبارة تقفز من أمام عينيه نحو رأسه وأذنيه، تتراقص فوق لسانه، يجب أن يتكلم. شفتاه تتحركان رافضتين ضغطه عليهما وجزه بأسنانه، كي يمنع لسانه من الخروج، لكن ضغوطه الواعية علي أعضاء جسده، وعلي نفسه، للصمت، لم تصمد أمام ضغط الجسد العشوائي الضخم، كانت أصوات المنتظرين، همساتهم وصراخهم وتنهداتهم تضغط أكثر. يجب أن ينطق، يضيع صوته حتماً في الصخب والزحام، لن يسمعه أحد، فليستر عن روحه بكلمتين لن يسمعهما أحد، ربما لن يسمع نفسه من الضوضاء المتواصلة، كان خوفه والكتلة البشرية يتصارعان رأسا برأس، لأول مرة في حياته يرضخ خوفه المغطي بأمان مأمول، سيحدث إن لم يسمعه أحد، تحركت شفتاه، تركهما يتمتمان بحرية.. - مافيش... مواصلات... قالها بصوت منخفض، ثم أعادها مرة أخري كتمتمة لتعويذة أسطورية، لم يسمعه أحد كما توقع وتمني، هو نفسه لم يسمع صوته، لكن كلماته رن جرسها في رأسه، أعادها مرة أخري بصوت أكثر ارتفاعاً.. - مافيش مواصلات. حين أعادها بصوت عال في المرة الثالثة، انتبهت له المرأة ذات الخمار البني الفاتح والنظارة السميكة، انتبهت له البنت التي ترتدي نقاباً أسوداً مغبراً ممتداً علي الأرض تحت قدميها. النتبه له الرجل الأصلع، صاحب البطن العظيمة، التي تبدو جزءا مستقلاً عن جسده. - ولا ميكروباص فاضي.. قالها الرجل وهو يضع كفيه حول »كرشه»، وكأنه يسنده أو يحدد محيطه الحقيقي، أزمة الرجل تفوق أزمة الفتي ذي الشعر اللامع، بل تفوق مجموع أزمات الواقفين جميعهم. الرجل يحمل كتلة ضخمة ملتصقة به يجب أن يحملها في ركضه نحو الفرصة، وأن يجلسها وأن يحميها. كان يبدو كامرأة سمينة حبلي في شهورها الأخيرة، لكن المرأة المتخيلة ستوفد روحاً جديدة في هذه المعركة، روحاً تحلم وتحب وتلعب وتحيا، أما كتلته الضخمة الصديقة فلن تجلب شيئاً نافعاً لأحد ولا حتي له هو. ربما انفك الكرب فعبر ميكروباص أو أكثر ينقصه راكب أو ركاب، لكنه علم، أن حتي هذه المعجزة، ستزيد حسرته، وتضاعف أمنه، سيندفع مع المندفعين، يهرول بين الراكضين، ثم سيتوقف فجأة ليمسح عرق جبينه ووجهه وأذنيه، بكف غليظة أقرب للأحمر منها للون جلد انسان عادي، كان يمسح عرقه بكفيه ثم يجففهما في بنطاله أو قميصه القطني كيفما اتفق، حين لمحته المرأة صاحبة الخمار، انتفض جسدها جزءاً من ثانية، لرؤيته يمسح عرقه بيده وفي ملابسه، ثم وجهت نظرها للفتاة المنتقبة، المغمضة عينيها، حالمة بانتهاء الوضع السييء بأي شكل. - يابنتي مش قادرة... اتصرفي... فتحت الفتاة عينيها ببطء ونظرت لأمها في استغراب ساكن، لم تنطق. كانت عبارة أمها غير منطقية ولامفهومة في هذا الحدث الخانق المحيط بهم، بأشكال متباينة من شتي الاتجاهات، لكنها لاحظت نظرات أمها المضطربة نحو الرجل ذي الكرش لواسع، فنظرت إليه بخمول وفكرت، كيف سينتهي اليوم الذي لابد له من نهاية، نهاية اليوم تحمل لها الحلم والعاطفة المشتعلة. في النهاية يجب أن ينتهي هذا الحشد وتختفي هذه الكتلة الإنسانية اللانهائية، لتستطيع العودة مع أمها لشارعهم المحبوب، لبنايتهم المعشوقة، لتعبر أثناء صعودها للأعلي طابق الولد النحيف ذي الشعر الكثيف الملفوف حول بعضه، لنظرته النافذة التي تدفنها وتلهبها، استفاقت فجأة علي صوت يعلو الهمهمات والضحكات والزعيق المختلط، كان صوتا قوياً متبجحاً، شعرت برذاذ الفم الذي أطلقه ينفذ من نقابها لأسفل رقبتها.. - الزحمة لحمة... كان يطلق العبارة مرات بصوت جهوري صاخب، يبدو كرقصة كائن بدائي يستعد لذبح رفيقه، كان صوتاً مزعجاً ومقلقاً في النهاية، يقترب من جسدها وهو يمد شفتيه السائلتين باللعاب الواضح... - الزحمة لحمة يابشر... لم ينه الموقف المرعب سوي لقطة فجائية لأمها، تهبط بحقيبتها الواسعة الثقيلة كصخرة فوق ظهر الفني المهلهل، كانت ضرباتها تزيده صراخاً وهو يهرب تاركاً الزحام. - تاكسي منين ياسيدنا؟! غالباً هنمشي لحد ما يبان لنا صاحب.. بصوت هاديء واضح تماماً، عبر الولد الأقصر لرفيقه- الذي يشبهه تماماً كلنه أطول- عن القرار الذي وصل إليه، بعد مناقشات واستنتاجات وتخمينات وتطلعات مختلفة، عبثت في رأسه، كانا يحملان بالتبادل، كيساً بلاستيكياً ضخماً، يفوق القصير حجماً، ليس ثقيلاً، لكنه يشغل حيزا ضخماً، يعيق الذي يحمله عن الحركة الصحيحة، كانت وظيفة أحدهما، الدخول في السباق، من أجل حجز مقعدين له ولرفيقه، ثم يضعان الكيس فوق أرجلهما بأي وضع يكون، يقف الذي يحل دوره حاملاً الكيس، لايقدر علي وضعه علي الأرض، كي لايضيع جزءاً من فرصة قد تلوح في الأفق الباهت، يقف الآخر في وضع الاستعداد، يراقب ويستنتج ويحاول الحصول علي أفضل الأماكن المتاحة، لنيل مقعدين من مركبة، تستطيع عبور ملحمة الزحام اللا نهائية، استمر كفاحهما ما يزيد علي الساعتين، حتي أن كل الأفكار والتخمينات والاقتراحات قد طرحت ونوقشت، لم يتبق غير الحل الوحيد المتاح، الحل الأكثر صعوبة، أن يتحركا، يبدأان في السير نحو هدفهم البعيد. كان قراراً حاسماً ولا وقت للنقاش فيه. تكفي الساعتان اللتان ضاعتا، في الانتظار والكر والفر دون أي عائد أو فائدة. اقتراح التاكسي ورفضه لم يستغرق سوي لحظات الكلام، كان اقتراحاً مرفوضاً من طارحه نفسه، قبل أن يحوله لكلمات، بلا هدف سوي الكلام. - تاكسي منين ياسيدنا؟! غالباً هنمشي لحد ما يبان لنا صاحب.. كان رداً كأمر بوجوب البدء في المسير.