هناك أسفل عنوان محطة بهجورة جلس المهاجر بهجوري يمسك عيدان القصب ويرتدي الجلباب الأبيض متذكرا حكايات من دفتر قرية بهجورة بأقصي الصعيد. عينه تفتحت علي خضرة وعيدان القصب وحلم السفر إلي القاهرة وأقلام رصاص وأوراق تتراقص بنشوة تحتاج إلي اللون لينبض ويتنشق عبيرها بأحلي اللوحات، مسك الطفل الصغير طباشير وكتب علي حيطان الحارة الضيقة توقيع بهجوري .. حلم الفنان يقظ دائما، يلعب لا ينام. في سن صغيرة رسم زوجة أبيه، وفي المدرسة تحولت الخطوط البسيطة والشخبطة إلي خطوط واضحة تحمل هموما طفولية تعاني مرارة اليتم والوحدة واختيار الصعب.. جمع تفاصيل الوجوه والناس وراح يرسم الأستاذ وينال كل يوم »علقة»، ويبدأ فاصل العقاب برفع اليدين (التذنيب) ولكنه ظل يبتسم ويكتسب كل يوم جماهيرية.. طفل يشغله الرسم.. يرسم الكيمياء والأحياء ويحول الأشياء إلي أشخاص تنبض وتحس. يلعب فقط بالرسم وظلت العادة حتي اليوم، يرسم كل الناس والوجوه، لا يوجد شخص قابله إلا وكان نصيبه بورتريه.. تركيبة خاصة.. فكان من الطبيعي أن يرسب ويحصل علي أقل الدرجات، لكن والده يطالبه بإعادة الدراسة ليحصل علي أعلي الدرجات مثل ابن تقلا بيه أكبر أعيان القرية.. وفي كل مرة يتراجع المجموع ويبقي حلم الفنون الجميلة، يبكي أمام أخيه الأكبر الذي يتفهم حلمه وهو الدارس في الجامعة الأمريكية بمنحة مجانية لتفوقه، وبابتسامة رضا يقدمه الشقيق الأكبر إلي صديق عمره الأستاذ بكلية الفنون الجميلة كمال أمين الذي وضع تمثال سقراط وطالبه برسمه، ولأن المشاغب داخله يرفض النمطية ويتمرد حتي علي ذاته رسم الشاب الأسمر الصغير الذي قدم إليه الشاي .. هو لا يرسم الجماد ولكنه يرسم الحياة، يتمني رسم حيطان الزمن، مجنون فن.. ابتسم الأستاذ كمال مبشرا بميلاد فنان كاريكاتير مشاغب كفنه. يتمرد الفنان داخله مرة أخري علي الأسلوب التقليدي في الرسم ويتعلم من أستاذه الحسين فوزي أن الفن لعبة وتبقي كلماته: العب يا ابني بالقلم. واستوعب بهجوري اللعب فحتي الآن لم يكبر الطفل داخله، في مرسمه يلعب ويلعب، تنظر إليه تجده لا يرسم بل يلعب باللون، ومن شدة اللعب يدهشك العمل، ويبقي المعلم الأكبر بيكار (لقد تعلمت وسمعت من أستاذي بيكار أن الرسم يمكن أن يشعرك باللون دون أن تفتح علبة الألوان، درجة الخط تصبح ذلك النغم اللوني فتصبح الوردة المرسومة بخط واحد وردية اللون، أيضا اللون فرحة جديدة لها لهفة الطفل). شهادة بهجوري في أستاذه بيكار تؤكد أصالة ذلك الفنان وقيمة أستاذه (للفنان بيكار فضل كبير علي في الدراسة وفي الحياة، تعلمت منه الكثير، كان يدفعنا إلي الأفضل دائما وهو أول من شجعني في مجال رسوم الأطفال، فقد قدمني ضمن تلاميذه إلي دار المعارف وشاركت في سلسلة الكتاب العجيب برسم وتأليف قصة أم الضفاير) والطفل يبقي همه الدائم. البهجوري المولود في 13 ديسمبر 1932 والده كان يعمل مدرسا تزوج مرتين وأنجب 12 ولدا وبنتا .. فانشغل بأولاد الحارة ومشاغبة الأولاد رغم وحدته التي أخرجه منها أستاذه بيكار الذي قدمه لصاروخان في أخبار اليوم وهمس في أذنه: اسمع ياصاروخان الواد ده عنده عين غريبة .. وفعلا اتصل بالفنان عبد الغني أبو العينين أشهر فنان وصانع مجلات في ذلك الوقت واستعانت به روزاليوسف مع فنانها الأول عبد السميع وبعدها اختار عبد السميع أخبار اليوم كطلب مصطفي أمين ليبقي بهجوري الشاب الصغير منفردا في أهم قلاع الكاريكاتير في الوطن العربي، وبغلاف عن ايزانهاور أخذ بهجوري صك الغفران ليدخل جنة روزاليوسف، يرسم الغلاف والرسوم الداخلية ويحدث ثورة في خطوط الكاريكاتير الذي غرق في التقليد وأكاديمية الأداء، حاول أن يكسر المعتاد ويصدر الدهشة إلي المتلقي الذي اعتاد علي رؤية خطوط غير مدهشة يغلفه بقالب ديناميكي التعبير، أسلوبه كان صادما للمتلقي، ولكن ذكاء روزاليوسف كان وراء نجاحه فقد تحملت دهشته وجرأة تفكيره مؤكدة أن الكاريكاتير لن يهتز بخروج عبد السميع من المجلة وخطوطه المدهشة كانت كثيرا ما تتسبب له بالمشاكل، يتذكر بهجوري: »أنا أول من رسم جمال عبد الناصر بأنف الصقر وكنت أريد أن أقول إنه جاد بشكل زائد، لكن الرقابة فهمت الرسم علي أنه يرمز إلي القوة، وحين دعوني إليهم قالوا إن الرئيس يضحك علي رسومي، وفي يوم طلب مني إحسان عبد القدوس رسم رجال الثورة، فرسمت صلاح سالم بطريقة أغضبته، ورسمت الليثي عبد الناصر بشكل قاس وعلق عبد الناصر علي كثير من أعمالي في أكثر من اجتماع» .. وذاع صيت الفنان الشاب صاحب ملحمة بورسعيد وهو الكتاب الكاريكاتيري الذي فضح فيه بهجوري قسوة العدوان ونزع ورقة التوت من كل الأنظمة التي تدعي الحرية، كتاب يحمل فكرا خاصا للبهجوري امتزجت فيه اللوحة التشكيلية مع الخط القوي والمبالغة المدروسة في انسجام خطي رائع ترجم إلي اللغات الثلاث لتصل الرسالة أسرع من اجتماعات الرؤساء ودواوين الهيئات الدولية. وبعدها ركن بهجوري إلي التأكيد علي أسلوبه، أحب حياة الصعلكة مع أبناء جيله وظل شاغله الدائم حلم السفر الذي سبقه إليه صديق عمره رجائي حيث سافر إلي اليابان، ولكنه اختار موطن بيكاسو في أيقونة إنسانية ماركة بهجوري، نما الحلم وزاد الدافع حتي كانت النكسة التي أطاحت بأحلام جيل كامل لم يدرك حجم الألم النفسي القاسي سوي قلمه الصغير وريشته المغموسة بأحبار شديدة السواد راحت الألوان وبقي اللون الواحد وقبل أن تمتلكه الروح الانهزامية انتفض مع أبناء جيله إلي ترسيخ رد الاعتبار ورسم بشكل آخر وبروح أحسن، وراح حلم السفر جانبا وبقي يبدع وينتج ويغني أشعار صلاح جاهين والأبنودي بالانتصار وبضرورة الثأر .. لأنه صعيدي جدع وجد أن حلمه الخاص لابد أن يتلاشي أمام حلم الوطن في البقاء .. وفي عام 1979 كان سفره إلي بلاد السحر طالبا من جديد يدرس الحياة والفن وقبل وهو ابن الثلاثين أن يجلس علي تختة مع شاب صغير يدرس ويتعلم الفن واللغة باع أول لوحاته ب 500 فرنك ليصرف علي طموحه الخاص ترك عالمه الخاص في مصر رغم نصيحة الأصدقاء لا تترك كل شيء أنت الآن وصلت إلي مرحلة النجومية وهناك ستبدأ من تحت الصفر ولكنه مجنون فن بجد، سافر وتعلم ودرس وحصل علي كل الجوائز واختار الفترة واختارته، كان صاحب موقف من كامب ديفيد اختار النفي الاختياري فلم يتقبل السادات رسومه واعتبره ساخرا أكثر من اللازم. في باريس اختار أن يكون بيكاسو العرب لم يرسم الكاريكاتير فقط بل أبدع اللوحات التشكيلية بأسلوبه الخاص والنحت والتصوير والبورتريه كل الأشكال الفنية، يتذكر: »جلست ساعات طوالا أمام لوحات بيكاسو أستنشق رائحة ألوانها الزيتية وأمعن النظر في أعماله التي أعشقها دائما وكان هدفي أن أصل إلي مستواه وأن أحقق العالمية مثله وأعتقد أنني حققت إنجازات دولية وعرضت أعمالي في دول كثيرة وأستطيع أن أجزم أنني حققت إنجازا أفضل منه لأني أحمل مصر داخلي حتي وأنا مقيم بباريس وكوني أرسم مصر مهد حضارات العلم فأنا حققت شيئا أفضل لأن بيكاسو ضيع علي نفسه فرصة الانفتاح علي بوابة الشرق». يظل فن الكاريكاتير بعد 1952 مديناً لاثنين: الأول كان مهموما بتطوير الفكرة وهو المبدع صلاح جاهين والثاني: بهجوري الذي قام بتطوير الأداء.. فالكاريكاتير قبل ذلك امتاز بالفكرة واضعا أسلوباً جديداً في تناول الفكرة الاجتماعية فكانت ابتكاراً لشخصية »أم العيال» ولعل اسم الشخصية يوضح المقصود منها، وهي السيدة المهمومة بالإنجاب المستمر والمتكرر وما يطرأ عليها من متغيرات نتيجة الظروف الاجتماعية ومشاكل الأسعار والدخل المنخفض للزوج وتربية الأولاد... وقد اهتم بهجوري باعتباره مصوراً بارعاً بنقل تفاصيل الوجه مركزاً علي تأثير الحالة، علي شحوب الوجه والعيون المترقبة المهمومة، واستطاعت هذه الشخصية أن تساهم إلي حد ما في إبراز مشكلة زيادة النسل وتأثيرها علي التنمية، في صورة واضحة من معاناة المرأة المكبلة بالأولاد ومصاريف البيت والتربية لدرجة تفقد أنوثتها وقد صورها بهجوري بحرفية رائعة بعيدا عن السياسة، ولكن بأبعاد اجتماعية ترصد تدهور حياة الأسرة. واهتمام بهجوري بالكاريكاتير قد يتراجع في درجة اهتمامه، ويبقي التشكيل الهاجس الدائم له وحتي لا تملكه عفريتة التشكيل يبدع بهجوري أعظم اللوحات التشكيلية بروح كاريكاتيرية فتجد عمق المبالغة في التصوير مع جاذبية اللون، من يستطيع أن يرسم أم كلثوم في معرض كامل دون أن يشعرك بتكرار اللوحة؟ نفس الملامح ونفس التكوين ولكنك تشعر في كل مرة أنك أمام عمل متفرد خاص، هي أيقونة بهجوري التشكيلية بجانب كتابته عن أيقونات حياته التي يتفرد فيها بأسلوب سردي تشكيلي خاص، أديب يكتب بروح الفنان التشكيلي وفنان يرسم بتكوينات لفظية من إبداع كاتب، تشعر أن اللوحة عمل أدبي يعشق الحوار والصور الجمالية والبلاغة الخاصة في أيقونة الجسد، هنا يمتلكه كرسي الاعتراف يعترف أمام راهب نفسه ويحوله إلي تجربة ذكية يقدم لنا نفسه في اعترافات تفصيلية يخلع رداء التبرير ويعترف وتبقي أيقونته الخاصة في مرسمه الكائن أمام قهوة النصر يرسم زبائن القهوة، يعرفهم جميعا، يسمع صوت الصنايعية ويتحدث عنهم كأنهم سيمفونية تعزف له، الصخب عنده حياة، فقد اختار أن يستريح الملاح 6 شهور في مصر ونصف السنة في حضن معشوقته الخاصة باريس، وعندما يجتمع الخط واللون والتجربة وعبير النغم الهادئ ينفجر الفن داخله يأتي إلي مرسمه بحارة صغيرة بشارع شامبليون يرسم أجمل اللوحات ويبقي حلمه بتحويل مرسمه إلي متحف أو مزار سياحي فلن يورثه أحد، ولكن لديه كل يوم مولود جديد، فنه الباقي كعلامة من تاريخ مصر.