1 هيأ كتاب عوض القرني »الحداثة في ميزان الإسلام» عند القارئ السعودي العام تصورا ذهنيا يربط الحداثة بالعمالة للأجنبي، والإلحاد، والخيانة الوطنية، والخطر علي الدين. هذا الكتاب من أخطر الكتب التي صدرت في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وخطورته لا تتأتي من قيمته المعرفية أو المنهجية، بل من تلقيه من قبل القارئ العادي، وفي الطريقة التي انتشرت بها أفكاره. يمكننا أن نوصف تلقي الكتاب بين القراء السعوديين العامين بنظرية الاتصال ذي الخطوتين. نتجت هذه النظرية عن دراسة الانتخابات الأمريكية عام (1940). وفقا لهذه النظرية فإن الناخبين الذين غيروا رأيهم، لم يتأثروا بشكل مباشر بالرسائل التي وصلتهم من الصحف أو الراديو، إنما غيروا رأيهم بتأثير شخصي من قادة الرأي المحليين الذين تابعوا الأحداث مباشرة من الوسائط، ثم شرعوا يؤثرون في أتباعهم بشكل أساسي من خلال الاتصال بهم وجها لوجه. تبعا لهذه النظرية فالموقف الذي بناه كتاب »الحداثة في ميزان الإسلام» تجاه الحداثة، لم يكن بسبب مباشر من الكتاب المطبوع والموزع بكميات هائلة ومجانا، بل استند إلي أقلية محدودة من الدعاة والوعاظ والمذكرين الذين قرأوا الكتاب، وناقشوا أفكاره وتمثلوها، وحفظوا شواهده الأدبية. ثم شرعوا ينقلونها إلي القارئ العادي من خلال الاتصال بهم وجها لوجه، سواء كان هذا الاتصال عن طريق المحاضرات أو المخيمات أو ما سمي في تلك الفترة بمجالس الذكر. يلزم إذن ونحن نحلل الصراع بين الحداثة وخصومها، ألا ننظر إلي كتاب »الحداثة في ميزان الإسلام» علي أنه هو وحده الذي بني موقف القارئ العام من الحداثة، بل إلي الكيفية التي استقبل بها القارئ العام الكتاب، وإلي الكيفية التي انتشرت بها أفكاره. هناك أقلية تعرف الكتاب، وقد قرأته فعلا، ومن المؤكد أن اتصال هذه الأقلية الشفهي بالقارئ العام هو الذي هيمن علي مواقف القارئ العام وليس الكتاب المطبوع، وأن اتصال هذه الأقلية بالقراء العامين قد اتخذ أشكالا متعددة بداية من الوعظ والمحاضرات، وانتهاء بمجالس الذكر التي سادت في تلك الفترة من الصراع. 2 الآن إذا عرفنا كيف نقرأ الصراع الذي دار بين الحداثة وخصومها آنذاك من وجهة نظر القارئ العادي الذي يهتم بالشأن العام الثقافي فسيقدم لنا الصراع توضيحات مهمة عن فقر المعلومات الأولية الأدبية عند القراء العاديين. لا بد لهذا القارئ العام من أن يعرف مفهوم الحداثة ومفهوم التقليد لكي يحسن التعامل مع النقاش. قد يكون القارئ العام مع هذا أو ضد ذاك. هذا لا يهم بقدر الحاجة إلي المفاهيم والمعارف الأدبية الأولية التي يحتاجها هذا القارئ العام. لا يقتصر الضعف في المعارف الأدبية العامة عند القارئ السعودي العام، بل هو حالة عامة بين القراء العرب العامين، وهو ضعف يمكن أن نعبر عنه بالأمية الأدبية، أي عدم توفر المعارف الأدبية الأولية عند القارئ العام. وعلي حد علمي لا يوجد قاموس عربي للمعارف الأدبية الأولية يستعين به القارئ العربي العام علي أن يفهم النقاش الأدبي العام الذي يجري أحيانا عن الحداثة والتقليد، أو عن شعر التفعيلة والشعر العمودي أوعن قصيدة النثر وقضايا أدبية أخري قد تثار هنا وهناك. ما المعارف الأدبية الأولية؟ هي الإطار المعرفي اللازم لكي يتوافر للقارئ العام فهم كاف للأدب، بحيث يمكنه التعامل مع القضايا الأدبية التي تعرض له في حياته سواء عبر الصحف أو عبر وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي. ينبني هذا التعريف علي اعتبارات تخص القارئ المتوسط ثقافيا، فمثلما هناك حاجة إلي أن يعرف القارئ العام ما يكفي من قواعد كرة القدم وقوانينها لكي يقرأ مقالا تحليليا عن مباراة بين منتخبي مصر والسعودية، كذلك هو في حاجة إلي أن يلم بمعارف أدبية أولية حتي يتسني له تكوين رأي في قضية أدبية مثارة بين الرأي العام. تخص المعارف الأدبية الأولية القراء غير المتخصصين في الأدب الذين لم يتلقوا الخدمة الجيدة من النظام التعليمي، إذ يتخرج هؤلاء وحصادهم من المعارف شذرات أدبية من هنا ومن هناك، ثم يجدون طريقهم إلي الحياة بحيث يتعين عليهم أحيانا أن يناقشوا قضايا أدبية ملحة في المجتمع العربي كقضايا الأصالة والمعاصرة، والقديم والجديد والحداثة والتقليد. نحن لا نتوقع من قارئ أن يعلق علي قضايا كهذه إذا كانت حصيلة قراءاته لا تتجاوز مقررات دراسية فقيرة، ومبنية علي غير أسس. وأعتقد أن أفضل الطرق لسد هذه الثغرة في الثقافة هو التيقن من أن كل الطلاب (بما فيهم طلاب الجامعة) قد درسوا الإطار الأساسي للمعارف التي نسميها معارف أدبية أولية. 3 يتألف إطار المعارف الأدبية الأولية للقارئ العادي من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو: معرفة المفاهيم التي لا تتغير أهميتها مع الزمن. يحتل هذا العنصر مكان القلب من المعارف الأدبية الأولية كمفهوم الأنواع الأدبية، ومفهوم اللغة الأدبية وغيرهما من المفاهيم التي تشكل لب فهمنا للأدب. هذه المفاهيم هي الهيكل الأساسي الذي تُبني عليه الثقافة الأدبية. غير أن هذا لا يعني أن هذه المفاهيم محصنة ضد التغيير، إنما المعني أن تغيرها يأخذ شكل وضعها في نوع أدبي، وليس إبدالها بمفهوم جديد. فالحديث عن الأشكال السردية كالقصة القصيرة أو الرواية، مثلما هو الحديث عن الأشكال الشعرية كالشعر العمودي أو التفعيلة أو قصيدة النثر، هو حديث عن أشكال أدبية معاصرة لنا، فما زال يعيش بيننا ممثلون لهذه الأشكال القديمة والحديثة، قاصون وروائيون وكذلك شعراء يكتبون الشعر العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر. غير أن هذه الأشكال الأدبية سردية كانت أو شعرية، لا تشترك في تاريخ نشأتها، ومعظم هذه الأشكال الأدبية لم تكن موجودة، فالرواية مثلا لم تكن موجودة في الأدب العربي القديم، وكذلك شعر التفعيلة وقصيدة النثر، لكن ما يميز الأشكال الأدبية هو أن كل شكل أدبي تتاح له الظروف ينتشر ويسود، ويحتل مركز الصدارة في الكتابة والنشر والتوزيع كما يحدث للرواية الآن. لكن ما يجعل الأشكال الأدبية فريدة من نوعها هو أن انتشار وذيوع أي شكل أدبي لا يقضي علي الشكل الأدبي الأقدم منه، فحين انتشرت كتابة ونشر قصيدة التفعيلة، لم تقض علي القصيدة العمودية، وحينما شاعت الآن كتابة ونشر قصيدة النثر لم تلغ قصيدة التفعيلة، مثلما هي الرواية الآن التي تحتل صدارة المشهد لكنها لم تستطع أن تنهي كتابة القصة القصيرة. هكذا إذن، فبإمكان أي شكل من الأشكال الأدبية أن يستمر، وأن يتصدر أي مشهد ثقافي كتابة ونشرا، وأن يعيش إلي ما لا نهاية، وإذا كنا قد فكرنا في لحظة ما أن شكلا أدبيا قد قضي عليه كالمقامة مثلا، فإننا سنجد من يمثله الآن، وما نشر الآن لعائض القرني (مقامات القرني) يشير إلي عودة ذلك الشكل حتي لو فرغ من مضمونه، وانحط إلي أدني شكل يمكن أن يُكتب به. ربما يعود السبب في تعاصر الأشكال الأدبية القديمة والجديدة وتعايشها، إلي أن تاريخها يختلف عن تاريخ العلوم، وهو أقرب إلي تاريخ الفلسفة، فمثلما يدور صراع من أجل سيادة أشكال فلسفية جديدة علي أخري قديمة من غير أن تلغيها، كذلك هي الأشكال الأدبية، فالصراع بينها يكون من أجل السيادة وليس من أجل الإلغاء، لذلك لا يمكننا الحديث عن موت الأشكال الأدبية، فالشكل الأدبي لا يُقضي عليه، وهو قادر في كل مرة علي أن ينهض من جديد متي ما توافرت الظروف المناسبة، وبالتالي فالحديث عن موت شكل أدبي هو حديث غير دقيق، ذلك أن الأشكال الأدبية كالبشر مجبرة علي أن تتعايش بالرغم من أن بعضها يعيش مقهورا. 4 إذا تجاوزنا المفاهيم الأدبية الجوهرية التي تمثل القلب في المعارف الأدبية الأولية للقارئ العام فسوف نصل إلي العنصر الثاني. يتعلق الأمر بعمليات القراءة. وسأركز هنا علي فكرة واحدة فقط هي فكرة معني النص الأدبي. فما يفترض أن تقدمه المعارف الأدبية الأولية للقارئ العام أن معني النص الأدبي لا يُكتشف كما يُكتشف البترول، إنما يكوّن ويُبني كما بُنيت الأهرامات. وأن كل قارئ يكوّن معناه، وأن القراء المختلفين سيكونون معني مختلفا. يجب أن تتحمس المعارف الأدبية الأولية لتعدد المعني، فالقراء مختلفون مثلما هم الناس مختلفون ومبتكرون بشكل بديع. لماذا تتحمس المعارف الأدبية الأولية للتعدد في تكوين المعني؟ لأن طرق تفكير الناس مختلفة، ولأن المعني ليس شيئا يمكن أن يمنحه أحد لأحد، ولأن تكوين معني ما لا ينجم عن مجرد تلقيه من آخرين، ولأن المعني ليس ثابتا ولا نهائيا، وأخيرا لأن المعرفة عملية تغيير مستمرة، فما يعترف به الناس اليوم علي أنه حقيقة، يعتبر مؤقتا، وبالتالي تكون معرفتهم معرضة للتغير في ضوء ما يستجد من أفكار وخبرات ومعلومات. أما الأهم فهو أن الاعتراف بأحقية القارئ في أن يكون معناه يجعل من القراءة شيئا أكير من مجرد علاقة بين إنسان ونص، وتتحول القراءة من حيث هي تكوين للمعني المختلف والمتعدد إلي فضائل يومية، ليس فقط في القراءة بل في الحياة. يعني تكوين المعاني المختلفة من قبل القارئ العام طرقا متعددة للرؤية والشعور والتفكير. بهذه التعددية في المعني تتكامل وجهات النظر المختلفة، ويدعم بعضها بعضا. كل قارئ يكون معني من المعاني، جانبا من الجوانب، خبرة منفردة لها الحق في أن تتبلور، وأن تضيف معني من المعاني المحتملة. وبهذا التعدد في تكوين المعني يتدرب القارئ العام علي الحياة. كل قارئ يكوّن وجها من وجوه الحقيقة، وجانبا آخر من جوانب الواقع، كل قارئ يضيف لونا آخر إلي طيف الحياة، وكما قال (يونج) تتطلب الحقيقة، إن كانت موجودة أصلا، كونشرتو من الأصوات المتعددة. لو سألنا كاتبا عن نوع القارئ الذي يسعي لأن يكون من قرائه لأجاب أنه يريد قارئا يملك نوعا من الإطار الذي ندعوه المعارف الأدبية الأولية. لن يتوقع الكاتب قارئا قادرا علي أن ينتج عملا أدبيا، إنما يتوقع قارئا قادرا علي أن يقرأ عملا أدبيا ويستمتع به. ما ينشده الكاتب هو قارئ قادر علي أن يناقش قضايا إبداعية، وبتعبير آخر: قارئ تتوافر عنده المعارف الأدبية الأولية. 5 العنصر الثالث من عناصر المعارف الأدبية الأولية هو فهم تأثير الأدب في الإنسان وفي المجتمع. سأكتفي بما كتبه ماريو بارغاس يوسا (نوبل للأدب 2010) في مقال عنوانه »لماذا نقرأ الأدب؟». كتب ما يلي »إني مقتنع بأن مجتمعا بلا أدب، أو مجتمعا يرمي الأدب –كخطيئة خفيّة-إلي حدود الحياة الشخصية والاجتماعية هو مجتمع همجي الروح، بل ويخاطر بحريته. ليس الأدب نشاطا للمترفين، إنما هو نشاط لا يستغني عنه لتشكيل المواطنين في مجتمع حديث وديموقراطي، أي مجتمع مواطنين أحرار. يتعرف البشر من خلال الأدب علي أنفسهم وعلي الآخرين، بغض النظر عن اختلاف وظائفهم، وخطط حياتهم، وأمكنتهم الجغرافية والثقافية، أو حتي ظروفهم الشخصية. يساعد الأدب الأفراد علي أن يتجاوزوا التاريخ، ويفهموا بعضا بعْضا عبر الزمان والمكان. لاشيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي يظهرها الأدب، أي أن كل الأمم متساوية، وأن الظلم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال. لا يوجد من يعلم البشر أفضل من الأدب أن يروا-برغم فروقاتهم العرقية والاجتماعية-ثراء الجنس البشري. لا يوجد مثيل للأدب يجعلنا نكافئ ونمجد فروقنا من حيث هي مظهر من مظاهر الإبداع الإنساني متعدد الأوجه. الأدب مصدر ليعرف البشر أنفسهم وتكوينهم عبر أفعالهم وأحلامهم وما يخافون منه.