سأغنِّي لك ما عشتُ، غنائي بعض حزني! فأنا في داخلي أنزف أيامي، وأستعذب في الوحشة لحني لم أعد أعرف هل أبكي علي أحبائي - وقد كانوا مصابيح حياتي - أم أغنِّي ها أنا أبحث في الظلمة عن قطرة ضوءٍ أرتجيها - يا إلهي - فأعنِّي ليس لي غيركِ، لا غيرُُكِ أشتاقُ إليه، فإذا الدنيا لديه، وأراه نور عيني! سأفتح نافذتي وأطالع وجهك، يأتي مع النيل والشمسِ، يُبحر صوب الجنوبِ، أُرافقه، وأنا ذائبٌ في المدي السلسبيلْ سيأخذني نحو أهلي، ونحو صباي، وكينونتي، في ظلال النخيلْ وأنتِ معي، فانظري كيف كنتُ وكانت خُطايَ، وكانت طفولة هذا الزمان الجميلْ وكيف تهدّل يومي عن الأمسِ، كيف التجاعيدُ تزحفُ فيَّ، ولم يبْقَ إلا القليلْ أمدُّ يدي، فأُلامسُ بعض التصاوير، خضرةَ لونٍ، وسحْرَ فضاءْ أطالع مملكتي، ويصافح سمعي هديلُ يمام، ورجْعُ غناء ونايٌ شجيٌّ، يثير حنين السّواقي تشاركهُ رجْع أنّاته في حياء ونجلسُ متّكئيْن إلي جذع زيتونةٍ، هَرِمت، وهي تقرأ سفْر السماء وعُشٍّ من القشِّ، كان يزيِّن أغصانها، وهو يحملني ذائبًا في المساء هنالك، أصغيتُ للطير، والكونِ واتَّسعت رئتي، وانطلقتُ وراء حروف الهجاءْ! سيتسع الوقتُ، لا تُسرعي فلديكِ من العمر ما يحتويك لألف سؤالْ أُحدّث عن صاحبي الطفلِ، يخطو ويمرح، مفتتحا جلوات الخيالْ وعن صاحبي، عائدًا بكراريسه، وريشته، الوجودُ يشاغلهُ، والحياةُ احتمالْ ينوءُ بها فوق ظهرٍ ضئيلٍ، تحمّل عبْءَ الدروسِ، وعبْءَ المعاني الثقال يخوّض في الطين عند الشتاءِ وينشُدُ في الصيف معني الظلالْ! علي النيل، سيري بوجهكِ، هذا الذي كم أضاء حياتي وصيَّرني عاشقًا مستهاما، أُهدهد حُلميَ في عُمق ذاتي تعاليْ مع الموج مُتَّجِهًا للشمالِ، قد اغرورق الأفْقُ، واتسعت ذكرياتي وعانقني منه سحرٌ تحدَّر من عالم الخلدِ، تُنشدهُ أغنياتي ووجهُكِ، يبقي المنارَ الذي بدَّد الليلَ، فانسحقت ظلماتي! لوجهكِ، دومًا أُغنِّي وأعشقُ فيه الصفاءَ الذي لا يُحدّ تخلّص من طينةٍ عُتِّقتْ فكانت نساءً، تجمّع فيهنَّ شوك وورد وصُفِّيَ من خلْطةٍ شابها عناءٌ ويأسٌ وصدٌّ وردّ ولم يبق إلا نسيمُ القري يُعاودُنا، ساكبًا في العيون عُرامَ الليالي، وسرَّ الأبدْ ويبقي لنا النيل، يحمل عُمريْنِ، سارا لمحرابهِ دون وعْد سمعْنا به هتفاتِ الضلوعُ وذقنا به لُغةً للجسد! ستبقيْن ليلاتي، يعشقها قيْسُها، ويُغنِّي لها منذ صار فتاها سأخلعُ بُرْدًا يُغطّيكِ عالمهُ البدويُّ، وأُبعد عنكِ أوابدهُ، والشِّياها وأُغرقُ وجهكِ في النيلِ، وهو يباركُ سمْتكِ، يرعاكِ في كلِّ صوبٍ، ويُدنيك زاويةً واتجاها ويحتضنُ الفتنةَ المشتهاةَ، يطامن من صهدها إذ تناهي أسيرُ إليكِ بحلم الرجالِ، وأرجع منتشيا يتباهي علي النيل، يجمعنا حُلْمُنا وفي شاطئيْه خفضنا الجباها نغني له، ويغني لنا، ويمزجنا عندما نتماهي ونسأله ما الذي يستبيهِ بشيخوخةٍ، لا يعاني سواها هنالك، يرفعُ من حاجبيْه، ويسخرُ من بلدةٍ قد أتاها!