مضي شهر وأسبوعان علي عملي مدقِّقاً لغويّاً، بدوام جزئي، في موقع »شعاع» الإلكتروني. لم يكن هذا النوع من العمل، بالنسبة لي، يتطلّب جهداً كبيراً، بالمقارنة مع مهنة الصحافة نفسها، فقد كنت أتهيّب الكتابة، كما لو أنها عملية جراحية معقّدة في الدماغ، عدا بعض المحاولات المتعثّرة التي احتفظ بها في دفترٍ خاص، لم يطّلع عليه أحد، قبل أن اقتحم العالم الافتراضي بصفحة علي موقع الفيس بوك تحمل اسماً مستعاراً، هو ميخائيل جبران، اقتبسته من اسمي كاتبين مشهورين هما: ميخائيل نُعيمة، وجبران خليل جبران. اهتممتُ أولاً، بتصحيح الأخطاء اللغوية المريعة التي يرتكبها الآخرون في كتاباتهم علي الحائط الأزرق، وكأنهم من العجم، لفرط انتهاكهم اللغة الفصحي، وتحطيم القواعد في وضح النهار، إلا أنني أهملت ذلك لاحقاً، لعدم استجابة أحدٍ لما أقوم به من تصويب للأخطاء، فسلامة اللغة آخر ما يفكّر به هؤلاء الحمقي. بحكم الخبرة، لم أعد أنظر إلي اللغة كجسد مقدّس، أو مكان إقامة غير قابل للتحوّل، أو للتلوّث بشوائب اللغات الأخري، إنما كجسر عبور في اتجاهين للنكهات والأصوات والألوان. أقول لنفسي، كيف لي أن أتأبطَ معجم سفينة الصحراء وحده، وأنا أعبر شوارع اليوم المزدحمة بالأبراج والمولات ومحطات القطارات؟ هل ينبغي عليّ أن أخلع سروالي الجينز، وساعتي الرقمية، وجهازي الخليوي، وأرتدي عباءة جدي الحادي عشر، استجابةً لفتوي طارئة؟ كانت هذه الأسئلة تلحُّ عليّ، كلّما بزغت أمامي صورة أحد الأسلاف، وحمولة ميراثهم الثقيل: صهيل خيل، وسيوف ملوّثة بدماء القبائل الأخري، وطعنات، وغزوات، ونساء مفجوعات، وهجرات قسرية، وقبور أولياء وعشّاق بأسماء مجهولة. عملي الإضافي في الموقع الالكتروني، أتي بتوقيته تماماً، لجهة تصريف الضجر، ومواجهة الخسارات المتلاحقة، والندبات العميقة التي وضعتني في مهبَّ الحيرة والخذلان واليأس، كان آخرها هجرة ثريا صبّاغ إلي باريس: ابتكرتْ سيرة ذاتية لا تخصّها، سيرة متخمة بالاضطهاد والملاحقات الأمنية ومخاطر العيش في البلاد. روت لي بسخرية، كيف وضعتْ ملفّها الضخم أمام موظفي السفارة الفرنسية في بيروت بثقة، ولم يحتج الأمر وقتاً طويلاً للموافقة علي طلبها اللجوء، وستعترف لاحقاً بأنها أضافت إلي سيرتها الملفّقة بنداً مثيراً، يتعلّق بمكابداتها في بيئة تحاصر رغباتها بوصفها مثليّة جنسيّاً! الآن فقط، أتذكّر كيف انطفأت علاقتنا مثل شمعة، إذ كانت تذوي تدريجياً، علي وقع خلافات في المواقف، ووجهات النظر، في معني العيش، حتّي في ما يخصّ طريقة تحضير صينية بطاطس في الفرن، ونسبة الفلفل إلي الملح، إلي أن غرقنا في بئر العتمة كغريبين، إثر مشاحنات صاخبة، كانت ثريا تشعلها يومياً لإقناعي بفكرة اللجوء، واستنشاق هواء آخر لا يشبه رائحة هذا المستنقع، مشاحنات أدت بنا، في نهاية المطاف، إلي الانفصال نهائياً. كانت عبارتها الأخيرة لي، قبل مغادرة البلاد، بمثابة ثأر مؤجل: هنيئاً لك قوقعتك البائسة أيها الحلزون، وأضافت متهكّمة: آمل أن تكون جملتي سليمة لغويّاً. لم أغادر مقعدي في الصالة. تابعتُ احتساء قهوتي بصمت. كنت أراقب حركة انزلاق عجلتي حقيبتها الكبيرة، وأثرهما المتعرّج فوق رخام الحجرة، وهي تتجه نحو الباب الذي تركتهُ مفتوحاً وراءها، كآخر خيط يربطني بها. (اكتشفتُ أثناء خروجي من المنزل بأنها قد شطبت اسمها عن جرس الباب الخارجي، وبقي اسمي مشنوقاً بمفرده، في فراغ الاطار). كنتُ أعالج غيابها، وكأنها لم تكن يوماً، مثل جرح بسيط أحدثته شفرة حلاقة في الذقن، يلتئم برشقة خاطفة من ماء كولونيا النسيان. لكن تقريراً موسّعاً،قرأته بالمصادفة، في أحد المواقع الالكترونية عن ترجمة يومياتها إلي اللغة الفرنسية، واحتفاء الصحف الباريسية بها، أثار سخريتي، لسعة خيالها في تأليف وقائع مفزعة لم تعشها يوماً، ولقدرتها الفائقة علي تلفيق سيرة مستعارة من أوجاع الأخريات، استلتها من صفحات مدوِّنات مجهولات كتبن تجاربهن في الانتهاك والخوف وحوادث الخطف. كنت سعيداً- إلي حدٍ ما- بالقفص الزجاجي المخصّص لي كمكتب في بناية شاهقة وأنيقة: أراقبُ حركة الغيوم وأشكالها من خلف زجاج الغرفة في الطبقة التاسعة، وأحياناً ألقي نظرة نحو العربات المسرعة في الاتجاهين، علي أوتوستراد المزّة، بعد حادثة اصطدام مروري بين عربتين، أو مشاجرة ما في الحديقة المجاورة، أو أنتهي إلي التلصّص علي شرفات البيوت المقابلة التي لا تخلو من مناظر مبهجة لنساء لا يكترثن بالأعراف وأسباب الحشمة، من دون أن أهملَ حركة الأجساد في ممرات الموقع بين مكاتب التحرير، أو من خلف الزجاج الذي يفصل بين المكاتب المتجاورة. لكنني سأكتشف تدريجياً بأن الأخطاء لا تكمن في اللغة وحدها، إنما في تأويل عبارةٍ ما، بما ليس فيها، وفي كمائن المجاز، وذلك بإشعال حطب الضغينة، وإيقاظ الأسلاف من قبورهم كي يعيدوا تمثيل الجريمة مرّة أخري، بالوقائع نفسها، كما يحدث في شريط جنائي مصوّر. في الأيام الأولي من عملي، كنت منهمكاً بتصحيح قواعد الجملة الإسمية، وأحكام الهمزة، والأفعال الناقصة، دون أن يعنيني ما يكتبه محرّرو الموقع وضيوفه من الكتّاب من آراء أو أفكار أو تحقيقات صحافية، إلي أن غرقت بقراءة مذابحٍ من طرازٍ آخر، تتعلّق بالمحتوي نفسه.هناك رائحة عفن تتسرّب من بين السطور، عن طريق تلقيم الجملة بديناميت الكراهية، في إدانة العدو المتخيّل، وبمعني آخر إذكاء صراع الهويات وتنابذها، الهويات الصغري خصوصاً، تلك التي خرجت من تحت الجلد مثل ثآليل عصيّة علي الشفاء. فادعاء العمل علي تربية دود القزّ، لن ينتج حريراً بالضرورة، إنما أشلاء هويات ممزّقة لا تحمي صاحبها من صقيع العزلة، وهذا ما جعلني أعتني بفحص هويتي الشخصية أولاً، الهوية التي لم تقلقني يوماً قبل هبوب العاصفة التي ذهبت بالبلاد والأوتاد. لم تعد المعاجم وحدها ما يشغلني، أو الفرق بين همزتي الوصل والقطع، والهمزة المتطرفة والهمزة المتوسطة، وحذف حرف العلّة من آخره. تراكمت كتب أخري فوق مكتبي، علي هيئة جثة ديناصور محنّط.هكذا غاصَ معجم »تاج العروس» تحت أكوام كتب التاريخ التي لم تكن من اهتماماتي قبلاً، ذلك أن عملي الأساسي في دار نشر تراثية، تعتني بطباعة المخطوطات والكتب القديمة، مكنني من الاطلاع علي نوعية أخري من الكتب التي كانت ممنوعة، أو تلك التي تُباع سرّاً. كنت أسمع بابن تيمية عرضاً، لكن ما إن خرجت كتبه المحظورة من المخازن في ظل الفوضي التي عمّت البلاد، حتّي أُتيح لي أن أقرأ عناوين بعض كتبه، ومقتطفات منها، مثل »درء تعارض العقل والنقل»، و»السياسة الشرعية لإصلاح الراعي والرعيّة»، و»الاستقامة»، بالإضافة إلي ورود اسمه يومياً تقريباً(بالهاء تارةً، والتاء المربوطة طوراً)، في المقالات المكتوبة للموقع الإلكتروني، والتي تحض علي نبذ فتاويه وتطرّفه الديني ومنهجه التكفيري، لكنني كنت أذهب إلي لغته في المقام الأول، أتأمل بشغف تلك العبارات المصقولة، كما لو أنها منحوتة بإزميل، بصرف النظر عن مقاصده وتحذيراته وفتاويه، كقوله» القلب يصدأ كما تصدأ المرآة»، و»إذا قسا القلب قحطت العين»، و»الاستغفار صابون العصاة». في الفترة المضطربة نفسها، غزت المكتبات ومواقع الكتب الالكترونية كتب تتعلّق بتاريخ الطوائف، والملل والنِّحل، في حرب شرسة لا تقل ضراوة عمّا يجري علي الأرض. طائفة تنبذ الأخري، تمجيد الذات، وهجاء تعاليم الخصم. صفحات مكتوبة ببلطة وليس بريشة نسر، بالدم لا الحبر، بالبغضاء لا الألفة.هكذا انزلقتُ مرغماً إلي قراءات متضاربة، في حروب الحبر، وصراع المذاهب، وهل أنا من »أهل ضرع أم أهل زرع»؟ كنت أتأرجح بين مشهدين متناقضين:علمانية بلاستيكية مصطنعة، في كتابات الموقع، ونفعية دينية، في قبو دار النشر. أجساد مكشوفة هنا، وأخري محتشمة هناك. زجاج شفّاف، وحجارة عتيقة. وكان عليّ أيضاً، طلباً للنجاة المؤقتة، أن أغوص في تاريخ أسلافي، وفقاً لحكايات شفوية مرتحِلة، تنقصها الدّقة عموماً، سواء في تسلسل شجرة العائلة، كتغييب سيرة أحد الأجداد، وحضور سيرة آخر، أو لجهة كتمان بعض الحيثيات التي تلوّث صفاء ماء الحكاية. لستُ ممن يرغب بالإنصات إلي حكاية مكتملة، ومسبوكة بإحكام، الحكاية التي لا تحتاج إلي غربال لمعرفة نسبة الحصي في الرمل، أو نسبة الزؤان إلي القمح. أقول لنفسي، ما جدوي عبور طريق معبّدة إلي نهايتها، من دون منعطفات مباغتة، أو حفرة في الإسفلت، أو عطل طارئ في محرّك العربة، كأن يفرغ خزّان الوقود، في ليل متأخر ومعتم ومخيف، أو أن يقتحم وحش هذا الخلاء؟ الوحش الذي تقوده الرائحة وحدها إلي عزلة كائنٍ آخر، كان يروي حكايته أمام مرآة مكسورة، غير مكترث بدقّة التواريخ والوقائع والخرائط، كما لو أن هذا الوحش يعرف تفاصيل الحكاية قبل مجيئه، وتالياً لا ضرورة لشرح أو تفسير أو فحص أسباب طعنة قديمة في الذراع، أو ندبة في طرف الحاجب الأيمن، أو جرح في كعب أخيل. هذا الوحش هو الحب! الوحش الذي علّمني معني لذّة الألم، ومشقّة الفقدان، ورقة تشابك الأصابع، وكيفية انزلاقها نحو تضاريس غامضة، بقصد تمجيد ملمس الزغب، واستنفار الخلايا النائمة في الظلال. وحش الحب أيضاً، قد يأتي علي هيئة قاطع طريق: بضربة سكين حرير واحدة يدلق الأحشاء، يمزّق طمأنينة الرئتين، يحزّ بسكينه علي العنق، فتفقد النطق تماماً، كما لو أنك في غيبوبة لذّة كبري، لن تصحو منها أبداً. (قبل ثلاث سنوات وسبعة أشهر، كانت ثريا صبّاغ تلك السكين التي من حرير). مقطع من رواية بعنوان »عزلة الحلزون» ستصدر قريباً عن دار نوفل في بيروت