رئيس هيئة المحطات النووية يهدي لوزير الكهرباء هدية رمزية من العملات التذكارية    أحمد موسى: محدش يقدر يعتدي على أمننا.. ومصر لن تفرط في أي منطقة    ارتفاع سعر الذهب اليوم بالسودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الخميس 9 مايو 2024    رسميًا.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الخميس 9 مايو 2024 بعد الانخفاض في البنوك    خبير اقتصادي: صندوق النقد الدولي يشجع الدعم المادي وليس العيني    مئات المستوطنين يقتحمون بلدة "كفل حارس" في الضفة الغربية | شاهد    «الرئاسة الفلسطينية»: نرفض الوجود الأمريكي في الجانب الفلسطيني من معبر رفح    ولي العهد السعودي يبحث مع الرئيس الأوكراني مستجدات الأزمة الأوكرانية الروسية والجهود الرامية لحلها    أنشيلوتي: هذا هو أفضل فريق دربته في مسيرتي    في بيان رسمي.. الزمالك يشكر وزارتي الطيران المدني والشباب والرياضة    فينيسيوس: الجماهير لا يمكنهم تحمل المزيد من تلك السيناريوهات.. ولم يكن لدينا شك بالفوز    «جريشة» يعلق على اختيارات «الكاف» لحكام نهائي الكونفدرالية    مع قرب بداية شهر ذو القعدة.. موعد عيد الأضحى ووقفة عرفات 2024    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في السعودية: تخطيط لاستمتاع بأوقات العطلة    ارتفاع ضحايا حادث «صحراوي المنيا».. مصرع شخص وإصابة 13 آخرين    العظمى بالقاهرة 36 درجة مئوية.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الخميس 9 مايو 2024    "الفجر" تنشر التقرير الطبي للطالبة "كارولين" ضحية تشويه جسدها داخل مدرسة في فيصل    سواق وعنده 4 أطفال.. شقيق أحمد ضحية حادث عصام صاصا يكشف التفاصيل    برج الأسد.. حظك اليوم الخميس 9 مايو: مارس التمارين الرياضية    من يرفضنا عايز يعيش في الظلام، يوسف زيدان يعلق على أزمة مؤسسة "تكوين" والأزهر    محمود قاسم ل«البوابة نيوز»: السرب حدث فني تاريخي تناول قضية هامة    ليس مرض مزمن.. سبب وفاة والدة كريم عبد العزيز    القضاء هيجيب حق أخويا.. شقيق ضحية حادث عصام صاصا يوجه رسالة مؤثرة    وزير الصحة التونسي يثمن الجهود الإفريقية لمكافحة الأمراض المعدية    محافظ الإسكندرية يكرم فريق سلة الاتحاد لفوزهم بكأس مصر    هل يعود إلى الأهلي؟... مصدر يوضح موقف محمد النني الحالي مع آرسنال    أيمن يونس: واثق في لاعبي الزمالك للتتويج بالكونفدرالية.. وزيزو "قائد الأحلام"    تعرف على موعد إرسال قائمة المنتخب الأوليمبي    رئيس جامعة القناة يشهد المؤتمر السنوي للبحوث الطلابية لكلية طب «الإسماعيلية الجديدة الأهلية»    محافظ الإسكندرية يشيد بدور الصحافة القومية في التصدي للشائعات المغرضة    وكيل الخطة والموازنة بمجلس النواب: طالبنا الحكومة بعدم فرض أي ضرائب جديدة    تحالف الأحزاب المصرية يجدد دعمه لمواقف القيادة السياسة بشأن القضية الفلسطينية    وزير الخارجية العراقي: العراق حريص على حماية وتطوير العلاقات مع الدول الأخرى على أساس المصالح المشتركة    ماجد عبدالفتاح: 4 دول من أمريكا الجنوبية اعترفت خلال الأسبوع الأخير بفلسطين    أخبار الحوادث اليوم: حجز السودانية بطلة فيديو تعذيب طفل بالتجمع.. والسجن 5 سنوات لنائب رئيس جهاز القاهرة الجديدة    طالب صيدلة يدهس شابا أعلى المحور في الشيخ زايد    رئيس لجنة الثقافة: الموقف المصرى من غزة متسق تماما مع الرؤية الشعبية    حسام الخولي ل«الحياة اليوم»: نتنياهو يدافع عن مصالحه الشخصية    بالصور.. «تضامن الدقهلية» تُطلق المرحلة الثانية من مبادرة «وطن بلا إعاقة»    متحدث الوزراء: المواعيد الجديدة لتخفيف الأحمال مستمرة حتى 20 يوليو    التحالف الوطنى يقدم خدمات بأكثر من 16 مليار جنيه خلال عامين    «زووم إفريقيا» في حلقة خاصة من قلب جامبيا على قناة CBC.. اليوم    عبد المجيد عبد الله يبدأ أولى حفلاته الثلاثة في الكويت.. الليلة    مستشهدا بواقعة على صفحة الأهلي.. إبراهيم عيسى: لم نتخلص من التسلف والتخلف الفكري    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعل لنا في كل أمر يسراً وفي كل رزق بركة    دعاء الليلة الأولى من ذي القعدة الآن لمن أصابه كرب.. ب5 كلمات تنتهي معاناتك    سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء في ختام الأسبوع الخميس 9 مايو 2024    استشاري مناعة يقدم نصيحة للوقاية من الأعراض الجانبية للقاح أسترازينكا|فيديو    متحدث الصحة يعلق على سحب لقاحات أسترازينيكا من جميع أنحاء العالم.. فيديو    الكشف على 1209 أشخاص في قافلة طبية ضمن «حياة كريمة» بكفر الشيخ    أول أيام شهر ذي القعدة غدا.. و«الإفتاء» تحسم جدل صيامه    أيهما أفضل حج الفريضة أم رعاية الأم المريضة؟.. «الإفتاء» توضح    رئيس«كفر الشيخ» يستقبل لجنة تعيين أعضاء تدريس الإيطالية بكلية الألسن    موعد وعدد أيام إجازة عيد الأضحى 2024    بالفيديو.. هل تدريج الشعر حرام؟ أمين الفتوى يكشف مفاجأة    حزب العدل: مستمرون في تجميد عضويتنا بالحركة المدنية.. ولم نحضر اجتماع اليوم    «اسمع واتكلم» لشباب الجامعات يناقش «الهوية في عصر الذكاء الاصطناعي»    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يتفقد مستشفى الصدر والحميات بالزقازيق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنة البرابرة
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 04 - 2014

أينما اتجهت، في شوارع دمشق وساحاتها وجسورها، يرافقني طيف خوسيه ساراماغو، في مشاهد من روايته " العمي" بعدسة فرناندو ميراليس. أردد عبارة منه " ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمي!". يجيبني بهدوء العارف" لا أعتقد أننا أصبنا بالعمي، بل نحن عميان من البداية. حتي لو كنا نري.. لم نكن حقاً نري"، ثمّ أستعيد قولاً مأثوراً من الإنجيل" أعمي يقود أعمي، كلاهما يقع في حفرة".
العتمة أيضاً تستدعي ما يشبهها في الكتابة.
أن تتلمّسَ كأعمي تضاريس الكيبورد، علي ضوء شمعة، وموسيقي صاخبة لتعطيل أصوات القذائف، والألم "بجرعات كبيرة". عتمة وموسيقي وصوت مؤذن، وبقايا ثلج الأمس عند حافة النافذة، وذاكرة تستدرج علي مهل روايات الآخرين عن مصائد الموت المخادعة.
ستبقي الرواية ناقصة، بغياب الرواة الذين غادروا المكان باكراً، إلي قبور مجهولة. البلاغة وحدها لن تعوّض التفاصيل الكاملة لفزع الضحايا بالدقة التي جرت فيها الوقائع. هناك لحظة خاطفة وعصية علي الوصف: الراوي الذي نجا بالمصادفة، سيفتقد حدة التركيز، فما عاشه تحت القصف المباغت، أو في المعتقل، أو لحظة الفرار من الموت المحتّم، أو لحظة الاختطاف، أو الانتهاك، لن يتكرر مرّة أخري بالتفاصيل نفسها، أو ما يسمي " حلاوة الروح".
بصحبة شهاب الدين بن أحمد البديري الحلّاق
لستُ مؤرخاً، ولم أرغب يوماً، بأن أكون في موقع المؤرخ.
فترة الجحيم التي خبرتها عن كثب، أرغمتني علي المصالحة مابين ابن خلدون وابن عساكر، في تدوين يومياتي، فقد كنتُ عالقاً في أتون النار، أحصي أنواع العنف، وأسباب الخراب، وعمق الهاوية. أسجّلُ أرقام عدّاد الموتي: مائة يوم، مائتا يوم، خمسمائة يوم ..
لم تكن عاصفة رعدية عابرة، كما أنها لم تكن ربيعاً من أزهار الكرز، مثلما كنتُ أتأمل. تدحرجتْ كرة الثلج فوق أرضٍ زلقة، فكان عليّ أن أدوّن وقائع ألف يومٍ ويوم من الجحيم، وربما أكثر، فالأمر مرهون بقوة اشتعال الوقود، وجهة الريح.
هل قلت تدوين يومياتي؟
ليست يوميات بالمعني المتداول، إنما هي "سرديات الشهود" في المقام الأول، وحوادث، وآلام، وانتهاكات، عشتها يوماً بيوم، لجهة اختلاط الخرائط ، وتعدّد الهويات، واشتباك الرواة. علي الضفة الأخري، كنتُ منشغلاً في إعادة اكتشاف هويّة ممزّقة. هويّة لم تخضع يوماً لاختبارٍ قاسٍ، كالذي تواجهه اليوم، تحت وطأة أسئلة خشنة، لطالما كانت مؤجلة وغائمة ومراوغة، أو علي نحو أدقّ، أسئلة غير مسموحٍ بها، فالشعارات الكبري، كانت العباءة التي تحجب علل الجسد وأورامه وأشواقه، وتوقه إلي الطيران عالياً، العباءة التي تمنع الجلد من تقشير الحراشف الاصطناعية التي لُصقت به قسراً، كي لا يجرّب السباحة، بعيداً من مستنقع العفن. كان علي أسماك المستنقع، أن تمجّد السباحة في نهر بردي العظيم حتي بعد جفافه، بأناشيد حماسية صاخبة، وشعارات رنّانة في مديح الأشنيات والطحالب والخواء، وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن شيئاً لم يتغيّر، أو يحتضر ببطء مثل مريضٍ مزمن في غرفة الإنعاش، بكيس من السيروم معلّق بأنبوب ضيّق ينتهي بوريدٍ مفتوح علي الهلاك. أتأمل من خلف الزجاج حركة الأنبوب، نقطة، نقطة. نقطة تنحدر من الأعلي، ثم تنزلق إلي الأسفل، قبل أن تتسرّب إلي الجسد الغارق في غيبوبته.
توابل " الهويّات القاتلة" تجتاز طريق الحرير، في متاهة الجغرافيا والتاريخ. المتاهة الرملية في صحراء الأسلاف، منذ أن دكّت خيول الفتوحات الإسلامية أبواب دمشق بالسيف، والصلوات الخمس، ودفع الجزية، قبل ألف وثلاثمّائة وسبعة وسبعين عاماً. هكذا غرقتُ علي مهلٍ، في استعادة مرويات مؤرخين، وورّاقين، ومصنّفين قدامي، خبروا جحيماً مماثلاً، عاشته دمشق، في قرونٍ خلت، بقصد حياكة الخيوط المتشابكة التي وسمت هذه الفترة العاصفة، علي غرار ما فعله هؤلاء، لقناعتي الراسخة بأننا نعيش الأهوال نفسها، بنسخة ثانية، وربما بنسخة ثالثة أكثر فتكاً، وأكثر بربرية.
في أروقة الجامعة، درستُ تاريخ الأمم، والأنثروبولوجيا، ومنهج البحث التاريخي، واللغات القديمة. لكنني، بعد أربع سنوات، من غبار المعارك، وصليل السيوف، والخناجر المسمومة، وأصوات المنجنيقات، ورائحة الدم، والدسائس، والهزائم، والانتصارات، لم يبق في ذاكرتي من مآثر الأجداد، علي صفحات تلك الكتب، غير عبارات محدّدة مثل" فقأ عينيه"، و"جدع أنفه"، و" ثكلتك أمك"، و" إني أري رؤوساً قد أينعت وحان قطافها".
أحاول أولاً، اقتفاء أثر طارق بن زياد بعد عودته إلي دمشق، قادماً من الأندلس بصحبة موسي بن نصير، من دون أن أجدَ ما يدلُّ عليه، فالمرويات التاريخية الضئيلة، تفيد بأن هذا المحارب المغامر مات معدماً، عند عتبة الجامع الأموي، من دون وصيّة، عدا خطبته المشهورة، المشكوك بصحتها في الأصل، ولا أحد يعلم إلي اليوم، أين يقع ضريحه؟ أما رفيق رحلته موسي بن نصير فقد عوقب بشدّة، بسبب رفضه أمر سليمان بن عبد الملك بأن يتأخر في طبريا، في طريق عودته من الأندلس، محمّلاً بالغنائم النفيسة، ريثمّا يموت شقيقه الوليد بن عبد الملك، ويخلفه في المُلك، فيُحسب فتح الأندلس، علي عهده، وليس لمصلحة عهد شقيقه المريض. مات الوليد بعد أربعين يوماً، من وصول موسي بن نصير إلي دمشق، وما إن بدأ عهد سليمان بن عبد الملك حتي أمرَ بإحضار موسي، وأمرَ بإقامته في الشمس إلي أن كاد يهلك، وأغرمه أموالاً عظيمة، ودسّ إلي أهل الأندلس بقتل ابنه عبد العزيز بن موسي الذي استخلفه الأب علي أرض الفتوحات الجديدة.
شريط طويل ومكرّر، من الغزوات والفتوحات والثورات والمذابح واهتزاز العروش، يعبر أمامي بالأبيض والأسود، عدا كدمات حمر داكنة، هي أختام فاتحين وملوك وخلفاء وولاة وقادة جيوش وجنرالات وانقلابيين. أختام ممهورة بالدم، أو الإذلال، أو "اسلم تسلم"، من دون أن أقعَ علي طوق نجاة. كنتُ أكتب إذاً، "كي أنجو"، مدفوعاً برغبة محمومة في تدوين حياةٍ مقطّعة الأوصال، عالقاً في بئرٍ عميقة، من دون سلالم، وتائهاً في سرابٍ لا نهائي، مثل طريدة في مرمي أنياب الوحوش، وغارقاً في كوابيس بلا ضفاف.
التقيتُ أولاً، بمؤرخٍ جليلٍ هو ابن عساكر، وقد انتهي للتو، من تدوين " تاريخ مدينة دمشق" فأخبرني في باب " ما جاء من الأخبار والآثار أن الشام يبقي عامراً"، بقوله " تخرب الأرض ويعمر الشام ، حتي يكون من العمران كالرمّانة ، ولا يبقي فيها خربة في سهل ولا جبل إلا عَمُرت. وليغرسن فيها من الشجر ما لم يُغرس في زمان نوح ، وتُبني فيها القصور اللائحة في السماء ، فإذا رأيت ذلك فقد نزل بك الأمر"، لكنه فاجأني، بعد صمتٍ وشرود، وهو يتأمل رقعةً أخري من مؤلفه الضخم، بعبارة ثانية ، بدّدت طمأنينتي في الحال، بقوله " لتهدمن مدينة دمشق حجراً حجراً، فأوَّلُ الأرضِ خراباً الشام"، ثمّ عدّل من جلسته، وقال " إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط، كان الشام في رخاء وعافية ، وإذا كان الشام في بلاء وقحط، كانت فلسطين في رخاء وعافية ، وإذا كانت فلسطين في بلاء وقحط، كانت بيت المقدس في رخاء وعافية". ودّعته، وقد ازدادت حيرتي، مما أنا فيه. كانت تضللني شجرة رمّان مثقلة بالثمّار تارةً، وطائرة تلقي حمولتها من البراميل المتفجّرة طوراً، استدرجُ مشاهد الخراب، واستغاثات المحاصرين تحت القصف، ومشاهد النزوح الجماعي، وجثث القتلي المتروكة في العراء، وفتاوي الجهاديين في تبرير الهلاك، إلي أن تعثّرتُ بأبي حيّان التوحيدي، فوجدتُ تطابقاً بين ما كتبه في مقدمة كتابه " المقابسات"، وما أرغب تدوينه اليوم. قلتُ لنفسي " إن تفصلنا عشرة قرون كاملة، فهذا ليس مهماً، فنحن، علي أية حال، لم نتقدّم خطوةً واحدة إلي الأمام، أم إننا تراجعنا إلي الوراء آلاف الفراسخ لنصطدم بالجاهلية الثانية؟".
كان هناك فرق تقني بسيط في الأدوات، فقد نسخ أبو حيّان التوحيدي مقابساته بريشة مصنوعة من جناح طائر، فيما كنتُ أكتب يومياتي علي كمبيوتري المحمول مباشرة.
وقعتُ علي ضالتي من دون عناء، في السطور الأولي من المقدِّمة ، كما لو إنها كُتبتْ لأجل هذه اللحظة تماماً، فهو يقول " إني نقلت هذا الكتاب والدنيا في عينيَّ مسودّة، وأبواب الخير دوني منسدّة، لثقل المؤونة، ولقلة المعونة، وفقد المؤنس، وعثار القدم بعد القدم، وانتشار الحال بعد الحال. هذا مع ضعف الركن، واشتعال الشيب، وخمود النار، وسوء الجزع، وأفول شمس الحياة، وسقوط نجم العمر، وقلة حصول الزاد، وقرب يوم الرحيل". ما إن ودّعت التوحيدي الذي كان منهمكاً في نسخ " البصائر والذخائر"، وربما " الإمتاع والمؤانسة"، لم أعد أذكر تماماً، علي الأرجح، بسبب انفجار مباغت، حتي وجدتني وجهاً لوجه مع حلّاق دمشقي عاش في القرن الثامن عشر، يدعي شهاب الدين أحمد بن البديري الحلّاق. كان هذا الحلّاق مؤرخاً شعبيّاً، لا تخلو الوقائع التي كان يسجّلها في مخطوطته " حوادث دمشق اليومية" من طرافة، كأن يقول مبتهجاً بقدوم أحد الأولياء إلي دكّانه " ومما منَّ الله عليّ أن حلقتَ رأسه واغتنمت دعاءه".
المصادفة وحدها، هي من أنقذت هذه المخطوطة النفيسة من الضياع، فقد أراد الشيخ محمد سعيد القاسمي أن يبتاع شيئاً من عطّار، فوضع العطّار ما باعه في ورقة مكتوبة، ولما عاد الشيخ إلي بيته، فتح الورقة وقرأ ما فيها، فأدرك أنها جزء من مخطوطة تاريخية، فعاد علي الفور إلي دكّان العطار، وحصل علي بقية الكرّاسة، حتي اجتمعت له مخطوطة شهاب الدين أحمد البديري الحلّاق" حوادث دمشق اليوميّة".
خلال تسجيلي هذه اليوميات، كنتُ مذعوراً من ضياعها، أو فقدانها فجأة، علي غرار ما حصل للبديري الحلّاق، نتيجة ضغطة زرّ خاطئة علي الكيبورد، أو أن يتوقّف الكمبيوتر بسبب عطلٍ مفاجئ، أو ألّا أتمكّن من إتمامها، بسبب انفجار قذيفة ما. فنحن كائنات المصادفة وحسب، كأن تكون علي بعد أمتارٍ من سيارة مفخّخة، أو قذيفة هاون، أو صاروخٍ ضال. وكان أشدُّ ما يفزعني وجود قنّاص، علي سطح بناية مجاورة. أنظرُ من نافذة غرفتي التي تقع في الطبقة الأخيرة من بناية قديمة، في زقاق فرعي، من حي الصالحية، إلي الأسطح المجاورة، وأتخيّل قنّاصاً لا مرئياً يكمنُ خلف الأطباق اللاقطة، أو خزّانات المياه، أو النافذة المقابلة لنافذتي مباشرةً، فأنا في مرماه تماماً. وهاأنذا أتخيّل طريقة موتي، وكيف سأقع عن الكرسي ببطء، ليرتطم جسمي برخام أرضيّة الغرفة، فيما ستتلوّث شاشة الكمبيوتر المفتوحة أمامي بدمي، من دون أن أكمل الجملة الأخيرة.
كنتُ أوزّع ما أكتبه علي أكثر من دهليز سرّي في الكمبيوتر. أرسلُ ما أنجزه إلي بريدي الالكتروني، ثمّ أتأكد بأنني استلمت الرسالة، أو أخزّنه في فلاش ميموري، أو أطبعه ورقياً. القنّاص الوهمي يعطّل عملي، كلما نظرتُ عرضاً، من نافذتي إلي السطح المقابل. أستعيد صورته من الأفلام، ومن حكايات الآخرين" إياك أن تكون ثالث العابرين في شارع يقطعه القنّاص. فالقنّاص أو صائد الرؤوس يشاهد العابر الأول، ويصوّب علي الثاني، ويصيب الثالث". كان سائق التاكسي الذي تعاقدتُ معه أخيراً، لمرافقتي إلي مكان عملي، ظهيرة يومي السبت والثلاثاء، من كل أسبوع، قد روي لي ما فعله قنّاص منذ أيام، في محيط ساحة العباسيين، حين استهدَّفَ بائع شاي علي دراجة هوائية، يتخذ ركناً في ساحة مجاورة لموقف حافلات الضواحي. لم يكن بائع الشاي طريدته الأولي، إنما شخص آخر، كان يقف بالقرب منه. رصاصة في ساقه اليسري، أوقعته أرضاً. يهرع بائع الشاي لإنقاذه، فتأتيه رصاصة في قدمه اليمني، ثمّ رصاصة ثانية، وثالثة، في أنحاء متفرّقة من جسمه، يزحف بائع الشاي نحو حافلة صغيرة متوقّفة، يختبئ بين العجلات، علي أمل النجاة، فيوجّه القنّاص رصاصاته نحو عجلتي الحافلة المكشوفتين أمام منظار بندقيته الأوتوماتيكية، فتهبطان فوق الجسم الجريح. أفكّر بمصير هذا البائع، وكيفية تحطّم أضلاعه، وأنينه المكتوم، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فوفقاً لرواية سائق التاكسي، لا تزال جثته ترقد أسفل الحافلة، منذ أشهر، من دون أن يتمكّن أحد من سحب الجثة المتعفّنة.
كتب شهاب الدين أحمد البديري الحلاق يومياته، خلال القرن الثامن عشر، في الفترة الممتدة بين عامي ( 1741 و 1762) علي وجه التحديد، وقد كانت دمشق يومها، تعيش فترة قلاقل، وحركات تمرّد، ومجاعات، في عهدي سليمان باشا العظم، وأسعد باشا العظم. وفي أيام الوالي الأخير، وصلت أحوال البلاد إلي ذروتها في ارتفاع الضرائب، وسوء المعيشة، والنهب " بما لا يحصي بقلم"، فقام أهالي دمشق بتمرّد واحتجاجات وإضرابات بسبب غلاء أسعار الخبز وانتشار المجاعة، وللمطالبة بقطع "دابر الفساد"، وهو ما جعل السلطان العُثمّاني يصدر فرماناً ينفي بموجبه والي دمشق إلي جزيرة " كريت"، ومن ثمّ قتله في أنقرة إثر خلاف بينهما. هذه الحوادث اليومية التي كان يسجلها البديري الحلاق ببلاغته العاميّة، صارت بعد قرنين ونصف القرن، سجلّاً معرفياً للمدينة، وسيرة للعوام والرعاع واللصوص، و"بنات الخطا"، ومواكب الحج. ولم يخطر في بال هذا الحلّاق الشعبي، أن مخطوطه هذا سيكون وثيقةً نادرة عن دمشق القرن الثامن عشر، والحياة اليومية لهذه المدينة العتيقة، ببؤسها من جهة، ومقاومة أهلها للمظالم من جهة أخري.
من موقعه، في دكان الحلاقة، في حي الميدان، كان البديري يدوّن يومياته مما يري ويسمع، بعين ترصد التفاصيل الصغيرة، من دون أن يتدخّل في مجريات الأحداث، إلا في ما ندر. وإن كان يميل إلي المبالغة في وصف ما يجري، تبعاً للموروث الشعبي في سرد الحكايات، لجهة تهويل الوقائع، وكأنه امتداد لتجربة المقريزي في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" الذي دوّن فيه تفاصيل المجاعات، وضروب المحن والمآسي، وطبقات الحياة اليومية في مصر المملوكية.
كان البديري الحلّاق يرصد فيضان نهر بردي بالطريقة نفسها التي يسجّل فيها وقائع محمل الحج، أو نزهة للوالي في غوطة دمشق، أو"إطلاق المحابيس" إثر عفو عام من الوالي للتخفيف من وطأة الاحتجاجات الشعبية.
بعد نحو قرنين ونصف القرن، سنقرأ ما كتبه هذا الحلّاق الدمشقي، وكأنه حدث للتو بالتفاصيل نفسها. يقول في وصف ما حدث في حي الميدان، إثر هجوم عسكر الوالي لوأد الاحتجاجات" فهجمت العساكر علي الميدان، ولم يبقَ فيها مكان إلاّ ودخلوه، وأذن لهم المتسلّم بالنهب والسلب من السويقة إلي آخر الميدان، فنهبوا وقتلوا، فلم تبقَ دار ولا دكّان إلاّ نهبوها وهدّموها، فسلبوا الأموال، وقتلوا الرجال، وسَبَوا الحريم، وفضحوا نساءهم، ودام ذلك إلي وقت العصر.. وأنا سرتُ مع من سار، فوجدناها قاعاً صفصفاً، والقتلي بها مطروحة، والأبواب مكسّرة، والدكاكين مخرَّبة، وجدرانها متهدّمة. والحاصل حالها حال تقشعر منه الأبدان، ووقع الإرجاف والخوف والهمّ والغمّ في دمشق الشام". سأقع علي عبارة موحية، في متن هذا المخطوط، تختزل ما أرغب أن أدوّنه بخصوص أحوال الشام "ومع ذلك فالطاعون مخيِّم في الشام وضواحيها، مع الغلاء ووقوف الأسعار"، ثمّ سأتوقّف عند حادثة مشابهة، لما تعيشه دمشق اليوم، بالتفاصيل نفسها أيضاً، وقعت في العام 1158 " في هذه الأوقات، زاد غلو الأسعار، وقلّت الأمطار وعظمت أمور السفَهَة والأشرار، حتي صار رطل الجبن بنصف قرش والبيضة بمصرية وأوقية السيرج بنصف الثلث، ومد الشعير بنصف قرش، ومد الحمّص بنصف قرش، ومد العدس بنصف قرش، وغرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً، بعدما كانت بخمسة وعشرين قرشاً، وأوقية الطحينة بأربعة مصاري، والدبس كل ثلاثة أرطال بقرش، ورطل العسل بقرش وربع، وكل شيء نهض ثمّنه فوق العادة، حتي صار مدّ الملح بنصف قرش".
ويسجّل وقائع ما حصل هذا العام في حي ساروجة وما أصابه من دمار ورعب وفرار" ثمّ أمر حضرة الباشا أن يوجهوا المدافع علي سوق ساروجة، فوجهوا ما عليهم وأمر بضربها بالكلل فضربت، فما كان بأقل من حصة يسيرة حتي احترقت الدور وتهدّمت البيوت، واحترق بيت القلطقجي وعدم عن آخره، ونهبت العساكر كل ما فيه، ثمّ سري النهب في بقية الدور، فنهبوا وقتلوا ومثّلوا وبدّعوا، وذهب الصالح والطالح، حتي صارت محلة سوق ساروجة قاعاً صفصفاً. وأما ابن القلطقجي فإنه فرّ هارباً بعد ما بذل من الشجاعة هو وجماعته الغاية القصوي". وتكرّر الأمر ذاته في الميدان، إثر عصيانٍ آخر" ثمّ أمر حضرة الباشا أن تدار المدافع علي جهة الميدان فوجهوها، وكان رأس المفسدين بها مصطفي آغا بن خضري جربجي، حتي سمي نفسه سلطان الشام، وعنده زمرة من الأشقياء يتقوّي بهم، وبها أيضاً أولاد الدرزي أحمد آغا وخليل آغا ولهم بها دولة وصولة فحين بلغ هؤلاء المفسدين بأن حضرة أسعد باشا وجّه عليهم المدافع بالعساكر أوقع الله الرعب في قلوبهم، وركنوا للهرب والفرار، وطلبوا البراري والقفار. وبانهزامهم وهربهم تقطّعت قلوب بقية من كان من الشجعان من أهل الميدان، فمنهم من هرب ولحق بساداتهم، ومنهم من قبر في المغاير والقبور، ومنهم من غطس في النهور. ولما وصلت للميدان المدافع لم يجدوا فيها من يدافع فأول ما اشتغلت العساكر بهدم دار ابن خضري، بعد ما نهبوا جميع ما فيها من المتاع وغيره، وكذلك فعلوا بدار ابن حمزة وبغيرها من الدور، حتي نهبوا نحواً من خمس مئة دار، وبعد ذلك اشتغلوا بهدم الدور التي نهبوها".
أعبرُ حاجزاً أمنيّاً، يفصل ساحة يوسف العظمة عن حي ساروجة، وسط دمشق، أتوغَّل في الأزقة الضيّقة، بين دكاكين الميديا، وباعة الأسطوانات المدمجة، ومقاهي الرصيف المرتجَلة، يرافقني طيف البديري الحلّاق، أنعطفُ باتجاه زقاقٍ طينيٍ ضيّق، أتوقّف عند يافطة صغيرة مكتوب عليها بالأحمر مقهي " لاروش".
لاروش، أو الصخرة، اسم غرائبي، لمكان ضيّق ومعتم وغامض، علي الأرجح، كان مستودعاً للخردة، أو بيتاً مهجوراً، يزدحم حول طاولاته المعدودة، طلبة جامعات، وشعراء قيد التمرين، وعشاق، ومدوّنون، أتوا من أجواء التظاهرات والاحتجاجات قبل أن ينسحبوا من المشهد، خشية الاعتقال، أو القتل برصاصة طائشة، وسط إحدي التظاهرات. التظاهرات التي انطلقت من الجنوب، علي هيئة هبّة شعبية دفاعاً عن كرامة مهدورة علي يد جنرال أمني، كان قد اعتقل مجموعة من التلاميذ علي خلفية اتهامهم بكتابة شعارات مضادة للسلطة، وثمّ إهانته لأهالي التلاميذ بأن ألقي كوفية وعقال أحدهم في سلة القمامة، تعبيراً عن سخطه واحتقاره لمطالب الوفد بالإفراج عن هؤلاء التلاميذ، وهو ما يتنافي مع الأعراف العشائرية في الجنوب، فاشتعلت الشرارة، ولم تنطفئ إلي اليوم.
إضاءة خافتة، وغيوم تبغ محترق، ونقاشات صاخبة حول الأوضاع المأساوية التي تعيشها البلاد، والثورة المخطوفة، والحواجز، وحملات المداهمة، قبل أن ينعطف السجال إلي المغامرات الغرامية السريّة، والسجائر الملغومة، بانتظار أفق آخر. يفضّل وائل قيس الذي يعمل موزّعاً جوّالاً للكتب في دارٍ للنشر، مصطلح " شعراء الظل" علي مصطلح " شعراء مقاهي ساروجة" المتداول تهكّماً في هذا الوسط. يبرّر هذه التسمية بحماسة: "جئنا من الظل والعشوائيات والبطالة وغياب اليقين"، قبل أن يستعرض مكابداته اليومية في عبور الحواجز من أعلي أزقة ركن الدين المتاخمة لجبل قاسيون إلي حي ساروجة لقضاء وقت مستقطع مع ما تبقّي من أصدقائه. نصوصه تشبه تسكّعه إلي حد كبير( غداً أو بعد غدٍ، سأبيع نظارتي الشمسية لأشتري "سوزوكي"، أدخّن الحمراء الطويلة، وأشرب الشاي، منتظراً الراكب الذي يعجبني لأقله إلي منزله، سأقول لكِ: أحبكِ، وتقولين: أحبكَ، وعندما اتصل بكِ سيجيبني هاتفكِ: عذراً إن الرقم المطلوب غير موجود في الخدمة بعد. غداً أو بعد غد، لن يكون هناك شيء يمكن أن نسميه "الغد")، بهذه العبثية، وهذا الشغب، يلتقط وائل قيس مفرداته، من دون أن ينكر تأثره بنصوص الآخرين، ولكن بإضافة توابل جديدة إلي معجمه " حين أتصلُ بصديق وأجد هاتفه خارج التغطية، فهذا يعني، علي الأرجح، بأنه معتقل، وتالياً لابد أن تكون مثل هذه العبارة جزءاً من نصّي". ويختزل حسام ملحم الذي انتهي نادلاً في هذا المقهي، بعد خمس سنوات من الاعتقال، بسبب انتسابه إلي تجمّع شبابي مدني محظور، أحوال شباب مقاهي ساروجة بأنهم أبناء الحياة الافتراضية في المقام الأول، فيما تتلاشي التجربة الحياتية إلي حدودها القصوي، ويضيف، وهو يضع فنجان القهوة علي الطاولة المزدحمة" ليس لدي أغلبية رواد هذه الأمكنة ما يفعلونه أكثر من تفريغ فائض حكي، حول الطاولات المتناثرة". من ركنه المعتم، يستل أحمد الحاج جهازه الخليوي، يفتّش عما كتبه علي الشاشة، ويقرأ:" تلك القبلة في ممر المشاة ، بين ساروجة وباب شرقي . سأقبّلك في الريح ، فأنا غريب، أفكّر بأن انتحر بسرعة، من أن انتحر ببطء، وأن أُدفن حياً في أحشاء هذه المقاهي والحانات". يعلّق وائل قيس ضاحكاً، وهو يمج سيجارته الحمراء الطويلة" موقع الفيس بوك أقنعَ معظم الشباب المتعطّلين بأنهم شعراء، ولكن عليك أن تتجاهل الركاكة والأخطاء النحوية والإملائية وحتي علامات الترقيم، وإلا.. ما عليك إلاّ حذفهم جميعاً من القائمة".
أخرجُ من قلب العتمة، أتنفّسُ هواء الشارع بعمق، الهواء الملطّخ برائحة الحرب والضجر والخوف. أعبرُ من تحت قوسٍ حجريٍ قديم، نحو أزقةٍ ملتوية وضيّقة، وعمائر طينية في رمقها الأخير، وحمّام شعبي جري ترميمه حديثا،ً أجفلُ من صوت قذيفة انطلقت للتو، من جهة جبل قاسيون إلي مكانٍ ما، في ضواحي العاصمة. تحضرني صورة تيمور لنك بعد احتلاله دمشق، مطلع القرن الخامس عشر، فقد اتخذ هذا الحيّ قاعدة لنصب منجنيقاته التي كانت تدك قلعة دمشق، وإحراقه المدينة بأكملها، قبل أن ينسحب منها، وسوف يقوم المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار، أثناء مرحلة الانتداب الفرنسي، بالإجهاز علي جمالية هذا الحيّ، أو ما كان يسمي " اسطنبول الصغري"، علي نحوٍ آخر، حين وضع مخططه المعماري الذي يقضي بتصنيف الأحياء التي تقع خارج سور المدينة القديمة، مناطق حديثة، وهو ما أدي إلي هدم معظم البيوت الدمشقية العريقة بهدف إنشاء عمارة حديثة مكانها. انعطفُ نحو بوابةٍ أخري تقودني إلي سوق الخجا المجاور، أضخم سوق لبيع حقائب السفر. هناك سأكتشفُ حركة صاخبة وزحاماً وجلَبة، وكأن سكان المدينة قرروا مغادرتها جميعاً، فأينما التفتَّ ستجد شخصاً يحمل حقيبة سفر، أو يجرّ حقيبة بعجلات وراءه. أقول ُ لنفسي: هل سأُرغم قريباً علي مغادرة دمشق، وشراء حقيبة سفر جديدة، كما يفعل هؤلاء، وهل تكفي حقيبة واحدة لنسيان حطام الأمس؟
فصل من رواية تصدر قريبا عن دار العين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.