المارشال ويفل سعد زغلول في المارشال "ويفل" المعين قائداً عاماً في الهند صفات كثيرة تدعو إلي إعجاب بني قومه وغيرهم من الأمم، أشهرها القيادة العسكرية البارعة، وليس أقلها شهرة بأقلها استحقاقا للإعجاب والثناء. فمن صفاته التي لم تكن تعرف بين الجماهير إلا قليلا شغفه بالأدب والشعر وذوقه الصالح الذي يملكه بين نخبة الناقدين من أصحاب المختارات، وتتجلي علي أحسنها في كتابه الذي أصدره بعنوان "أزهار رجال آخرين" وجمع فيه طائفة من أبلغ القصائد المأثورة لمختلف الشعراء. وإلي جانب صفات خلفية كريمة لها في ميزان الإنسانية وزن راجح، وهي صفة الوفاء لذوي الفضل عليه، وأشهرهم بيننا اللورد اللنبي القائد المعروف ومندوب بريطانيا العظمي عندنا عدة سنين. فهذه صفة خلقية بلغ مع آصالتها فيه أنها تستوجب له المناقشة كما تستوجب له الثناء، لأنها سوغت له أن يحكم بالتخطئة علي كل عمل يصطدم بأعمال رئيسه القديم المحبوب.. ومن هذه الأعمال كل ما وقع فيه الصدام بين اللورد اللنبي وزعيمنا العظيم سعد زغلول رحمه الله. كان من الصفات التي تفرغ لها المارشال "ويفل" أخيرا كتابه عن "اللورد اللنبي في مصر" وهو الجزء الثاني لكتابه الأول بعنوان " اللنبي»دراسة في العظمة ". ففي هذا الكتاب ساقته الدراسة إلي الإلمام بحياة زعيمنا سعد زغلول واضطره الصدق إلي الشهادة له بما لا يستطاع إنكاره، ثم اضطره الوفاء لرئيسه القديم أن يعترف بما اعترف به وكأنه يود الإنكار لو استطاع! قال في الفصل الذي عنوانه غضب أمة : "كان في ريف مصر سنة 1919 كثير من المواد التي تتهيأ للالتهاب، وكان ملهبها هو سعد زغلول الذي قدر له أن يصبح بطلا قوميا وخصما بارزا للسياسة البريطانية خلال السنوات الثماني التي تلت تلك السنة » ولم يكن سعد زغلول نموذجا غير جدير بتمثيل أبناء قومه في صفاتهم وعيوبهم، لأنه كان رجلا من صميم قومه كما كان عراب باشا الذي انتهت ثورته بالاحتلال. فكان أول مصري صميم من غير الدم التركي تولي المناسب الوزارية، وكان أمينا غيورا علي وطنه مع قدرة بينة علي الخطابة الجياشة المتوهجة والملكة الفكاهية النفاذة، وله قامة طويلة مهيبة ووجه بارز الصدغين ضيق العينين، ويصبح في بعض أوقاته شجاعا صريحا وفي غير ذلك من الأوقات أميل إلي الحذر والتردد، وفي وسعه أن يجتذب القلوب ولكنه قد يتفق له أحيانا أن يجنح إلي التصلف والخشونة، ولم تكن له ذرية، ولكنه كان يستريح جداً إلي رؤية الأطفال الصغار ويعامل السيدات بلا اختلاف معاملة الفروسية والمجاملة.. وكانت حياته الزوجية مثلا يقتدي به في عشرة الأزواج، وكانتظ قرينته كريمة مصطفي فهمي باشا رئيس الوزارة الذي تعاون طويلا مع اللورد كرومر في الحكومة المصرية. ومما عرف عنه أنه كان لا يطيق أن يري قسوة علي حيوان، وروي عنه حين كان بمنفاه في جبل طارق سنة 1923 أنه دعي إلي قرية تقام فيها حلبة لصراع الثيران، فبلغ من مصادمة المنظر لشعوره أنه فارق المكان لساعته وأعرب لمضيفه بأسلوبه الذي لا يحاكي عن رأيه فيه وفي آداب بلاده. ومن أقواله المروية "إن الحيوانات لا تتكلم ولكنها تفهم.. وأن الناس يتكلمون ولكنهم أحيانا لا يفهمون". ثم قال: "وليس زغلول بقائد مخلوق لقيادة الأمم كما علم الذين اختاروه للقيادة بعد فترة وجيزة، فكثيراً ما كان يرتاع من القمة الخطرة التي ارتقي إليها، فهو علي الجملة معتد بنفسه شديد الغيرة علي زعامته بعيد المطامع في هذا النطاق، وقد أصاب مارك انتوني حين قال إن المطامع يتبقي أن تصاغ من مادة أصلب وأقوي، ولكن المصري المتعلم في الجملة قليل الاحتمال للمتاعب والمخاوف، وربما استغل زغلول أحيانا ما عاناه من بلاء في مساعيه لخدمة قومه فبالغ في تصوير ذلك البلاء، إلا أن الثوار في بلاد أصلب عوداً من ذاك. فقد كان أقل شجاعة وحنكة، بل أقل قدرة علي الهوادة والمصانعة من خصم آخر للسياسة البريطانية معاصر له وهو دي فاليرا..". والشح بالثناء ظاهر في هذه الكلمات، فهي لا تؤخذ إلا علي اعتبار واحد ينزل بها في منزلتها التي تجمل بها، وهو أنها أكرم كلام يسمو به رجل يؤلف كتابا ليبسط فيه الأعذار لبطله ورئيسه اللورد اللنبي، ويمنحه ما ضن به علي منازله في السياسة المصرية البريطانية سعد زغلول. ومع هذا قد أرانا المؤلف بطله ورئيسه في صورة تدل علي مبلغ امتلاء نفسه بشخصية سعد زغلول. فقد كان هذا "الامتلاء " هو القوة الجارفة التي دفعت باللورد اللنبي إلي تضييع منصبه في سبيل التغلب علي "الشخصية المصرية" التي نازلته منازلة الأعداء. فلم يطق صبراً » وقد سنحت له الفرصة بعد مقتل السردار » أن يتمهل للتروية في الأمر بضع ساعات، وتعجل في مناورته الإرهابية ذلك التعجل الذي أصابه من جرائه ما لم يصب مندوبا بريطانيا قط في هذه البلاد. كان اللورد اللنبي حريصاً غاية الحرص علي مواجهة سعد دون غيره بمطالب الحكومة البريطانية قبل أن يستقيل. فأرسل إلي حكومته مقترحاته التي يريد منها الموافقة عليها، وأمر كتيبة من الفرسان حاملي الرماح أن تنتظره عند ثكنات قصر النيل لتركض في ركابه إلي بيت الأمة. وقال "ويفل" وهو يعقب علي وصف هذا المشهد الغريب أن اللورد اللنبي لم يلجأ في غير هذه المرة إلي المظاهر الدرامية ومواكب الضجة والخيلاء، ولكنه نسي أن يقول لنا علام يدل لك الاستثناء. وانتصفت الساعة الخامسة مساء ولم يصل من العاصمة البريطانية ردها علي المقترحات. فتهيأ اللورد اللنبي للركوب في ذلك الموكب العظيم، وما هو إلا أن هم بالركوب حتي أدركه موظف من دار المندوب البريطاني علي عجل ملوحا له بورقة في يمينه، وكانت هي البرقية التي تطلع إليها وهو في انتظارها طول النهار. ولم يبق له من قرار الأعصاب في تلك اللحظة ما يحتمل القراءة والمراجعة فاكتفي بنظرة في البرقية علم منها أنها لا تتضمن الموافقة التامة علي اقتراحاته، فتجاهلها ومضي في طريقه بين نفخ الأبواق وطرقات السنابك ليشبع من نفسه شهوة التغلب علي المصري العظيم، الذي وقف له موقف الأنداد. ثم عاد من هذه "الحملة" إلي مكتبه ليعلم بعد فوات الآوان أن الحكومة البريطانية لا تقره علي طلب الغرامة، ولا علي تجديد خدمات الموظفين البريطانيين، ولا علي التوسع في ري الجزيرة بغير حدود أو قيود، وأنها حذفت كثيرا من التنهيد الذي ضمنه ما طاب له من ألفاظ التنديد والإنحاء. ولم تطل به الأيام حتي علم أنه قد اشتري هذه الغلبة بمنصبه العزيز عليه، لأنه صبر في سبيل استيفائه علي معاملات مقصودة من رؤسائه بالعاصمة الإنجليزية كان ينبغي له علي أثر كل معاملة منها أن يسرع إلي الاستقالة، ولكنه لم يستقل حتي نشر خبر استقالته في الصحف الإنجليزية قبل أن يخطها بيديه. إن عظمة العظيم لا تتجلي دائما بمدح المادحين وإعجاب المعجبين ولكنها قد تتجلي أحيانا » بتكلفة الخصوم في منازلتها، وما يندفعون إليه في سبيل الغلبة عليها، فلا يهنأون بشعور الغالب لحظة حتي يبرر لهم من ورائه شعور المغلوب. ولا تحسب أن المارشال " ويفل " كتب ما كتب عن بلاء سعد زغلول وهو يستحضر في خلده أن سعدا قد تعرض للحكم عليه بالموت باقتراح من اللورد اللنبي علي حكومته لم تجبه إليه. وأنه قد تعرض للنفي إلي سيلان قبل مقتل السردار وقبل ولاية الوزارة باقتراح من ذلك اللورد، وأنه حين نفي من بلاده مرتين كان شيخا يغالب الأدواء التي لا يقوي عليها الفتيان مع اختلاف المعيشة والمأوي والمناخ، وأن دي فاليرا لو كان في موضعه لما وجد أمامه أخطارا يخوضها أكبر من هذه الأخطار، إلا أن يكون مطلوبا من الزعيم أن يقذف بنفسه في الهلاك لغير مقصد معلوم. ومع هذا قال المارشال "ويفل" بلسان المقال جهد ما استطاع من ثناء علي سعد وهو يمهد العذر لصديقه ورئيسه اللنبي، وقال بلسان الحال غاية ما يمدحه، المادح لأنه قال إنه رحمه الله كان ملء قلوب الأنصار والخصوم فكتابه الذي وافانا علي مقربة من موسم الذكري الخالدة، تحية مقبولة لتلك الذكري. مجلة »الإثنين والدنيا»آب 1944