129 متدربا اجتازوا 4 دورات بختام الأسبوع 31 من خطة المحليات بمركز سقارة    بشري سارة.. تفاصيل أول إجازة رسمية بعد عيد الفطر    مسئول بأوقاف البحر الأحمر: زيارة وكيل مطرانية الأقباط الكاثوليك تعزز روح المحبة    صندوق النقد: مصر تمتلك حرية التدخل لدعم الجنيه عند الحاجة    عضو ب«مستقبل وطن» يطالب الحكومة بتطوير الجزر الصناعية: تعزز النمو الاقتصادي    «إكسترا نيوز» ترصد إجمالي المساعدات المصرية لغزة عبر معبر رفح خلال 24 ساعة    بيلينجهام يمدح حارس الريال بعد التأهل لنصف نهائى دورى أبطال أوروبا    الاتحاد الأوروبي: نرفض أي عملية عسكرية في رفح الفلسطينية ونخشى حدوث كارثة    ترامب يهاجم المحلفين المحتملين: نشطاء ليبراليون سريون يكذبون على القاضى    وزير الدفاع الأرجنتيني: نتطلع لنكون شريكًا عالميًا لحلف الناتو    سيدات الأهلى يهزمن دى جى إس بى الكونغولى فى الكؤوس الأفريقية لليد    أحمد حسن يكشف مفاجأة بشأن صفقات الزمالك الجديدة    محمد شريف يقود هجوم الخليج أمام التعاون في الدوري السعودي    الشوط الأول.. سيراميكا يتعادل 1-1 مع الاتحاد فى دورى Nile.. فيديو    اتفاقية تمويل لدعم قطاع التعليم والتدريب الفني والمهني مع «الاتحاد الأوروبي»    الحماية المدنية بالفيوم تسيطر على حريق في منزل دون إصابات بشرية    بعلم والدتها.. أب يتهم جاره بالتعدي على ابنته في الجيزة    خنقه بالقميص.. الإعدام لعامل جمع قمامة هتك عرض زميله وقتله في الإسكندرية    وضع 29 مجسما لأشهر معالم وشخصيات الإسكندرية في مدخل ديوان المحافظة    بالأراجوز وخيال الظل.. «القومي لثقافة الطفل» يحتفل باليوم العالمي للتراث    يسهل إرضاؤها.. 3 أبراج تسعدها أبسط الكلمات والهدايا    تكريم سيد رجب وإسلام كمال وأحمد عرابى بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    تعاون ثقافي بين مكتبة الإسكندرية ونظيرتها الوطنية في بولندا.. أبحاث وورش عمل    مفتي الجمهورية يفتتح معرض «روسيا - مصر..العلاقات الروحية عبر العصور» بدار الإفتاء..صور    بعد انتهاء شهر رمضان .. جودر يتصدر نسب المشاهدة في مصر    هل يجوز صيام يوم الجمعة منفردا للقضاء؟.. «أزهري» يحسم الجدل (فيديو)    لو هتخرج من بيتك.. 5 نصائح لأصحاب الأمراض المزمنة أثناء التقلبات الجوية    جامعة كفر الشيخ تستضيف المؤتمر السنوي السادس لطب وجراحة العيون    قافلة طبية تخدم 170 مواطنًا بقرية الحمراوين في القصير البحر الأحمر    رئيس «الرقابة الصحية» يترأس الاجتماع الأول لإعداد وتطوير معايير تسجيل مراكز ولجان البحث العلمي الإكلينيكي (تفاصيل)    تنسيق 2024.. برامج طب وصيدلة لفرع جامعة وسط لانكشاير بالعاصمة الإدارية    شوقي علام يفتتح أول معرض دولي بدار الإفتاء بالتعاون مع روسيا (صور)    الاتحاد الأوروبي: توقيع اتفاقية تمويل جديدة مع مصر لدعم التعليم الفني والمهني    "الإسكان" تكشف تفاصيل مبادرة سكن لكل المصريين وموعد تسليم الشقق الجديدة    الطاقة الإنتاجية لصناعة البتروكيماويات الإيرانية تزيد عن 100 مليون طن    محافظ الشرقية: إحالة المقصرين في عملهم بالمنشآت الخدمية للتحقيق    أرتيتا يرفض الاستسلام للأحزان بعد خروج أرسنال من دوري أبطال أوروبا    تأجيل محاكمة حسين الشحات في واقعة ضرب الشيبي لجلسة 9 مايو    خاص.. لجنة الحكام تعترف بخطأ احتساب هدف الزمالك الثاني ضد الأهلي    وفاة معتمرة من بني سويف في المسجد النبوي بالسعودية    إلغاء إقامتها.. مفاجأة جديدة عن بطولة الدوري الأفريقي في الموسم الجديد    وكيل الأزهر يتفقد التصفيات النهائية لمشروع تحدى القراءة في موسمه الثامن    زاخاروفا: مطالب الغرب بتنازل روسيا عن السيطرة على محطة زابوروجيا ابتزاز نووى    5 خطوط جديدة خلال الربع الأول من العام تستقبلها موانئ دبي العالمية السخنة    وكيل صحة قنا يجتمع مديري المستشفيات لمناقشة اللائحة الجديدة وتشغيل العيادات المسائية    إعادة تشكيل الأمانة الفنية للمجلس الأعلى للتعريفة الجمركية    إعدام طن مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك الآدمي بسوهاج    النواب في العاصمة الإدارية.. هل يتم إجراء التعديل الوزاري الأحد المقبل؟    مدفوعة الأجر.. الخميس إجازة للعاملين بالقطاع الخاص بمناسبة عيد تحرير سيناء    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبى جرائم الاتجار غير المشروع بالعملة الأجنبية    ضربات أمنية مستمرة لضبط مرتكبي جرائم الاتجار في النقد الأجنبي    دعاء العواصف.. ردده وخذ الأجر والثواب    مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون: «لا نتوقع ضرب إيران قبل عيد الفصح»    ردد الآن.. دعاء الشفاء لنفسي    وزير التعليم العالي يبحث تعزيز التعاون مع منظمة "الألكسو"    بلدية النصيرات: غزة تحوّلت إلى منطقة منكوبة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية    علي جمعة: الرحمة حقيقة الدين ووصف الله بها سيدنا محمد    بيان عاجل من اتحاد جدة على تأجيل لقاء الهلال والأهلي في دوري روشن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صداقة في فيينا الجاهلة: الحياة والفن من منظار المرض والجنون
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 03 - 2019

قليلة هي تلك النوعية من الكتب التي يأسرك »الصدق»‬ الذي اتخذته منهجًا لها سابقًا علي أي منهج آخر، »‬الصدق الفني» المدرسة الغائبة لصالح شروط وأشكال أخري تدعي أنها أكثر احترافية في التعامل مع الفن ورؤيته للواقع والحقائق علي مختلف التوجهات.. سياسة، فن، أعراف مجتمعية.
توماس برنهارد في عمله، الذي قام بترجمته سمير جريس، والصادر مؤخرًا عن داري سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع، اختار الالتزام من البداية بذلك الصدق الذي طبع الكتاب كله بسيماه بداية من العنوان الخالي من أي زخرفة فنية »‬صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين»، عنوان كفيل بألا تتوقف أمامه عينا القارئ العادي، إلا إن كان يدرك من هو توماس برنهارد، أو يعرف حجم الإنجاز وراء اسم فيتغنشتاين، لو أن برنهارد يفكر مثلما الحال الآن في المردود التجاري من الكتابة لانتقي عنوانًا لافتًا وكان بين يديه من التيمات التي يشملها عمله ما مده ببغيته: الموسيقي، الجنون، الموت، النمسا الجاهلة التي لا تطاق، مدعو الأدب، جوائز السلطة وسلطة الجوائز، وصداقة بين مريضين، أحدهما مجنون والآخر مصدور، كلاهما لا يحتمل ما يحيط به، لا يطيق الزيف، وينتظر الموت بفخامة أوبرالية.
الموت والمرض في »‬صداقة» يشكلان الوعي والإطار الذي يري من خلاله المؤلف، هما أيضًا المنظار الذي يجبر قارئه علي النظر من خلاله، ليدرك أن الصورة الشائعة عن الحياة ليست إلا ظلًا لأخري أكثر عنفوانًا وجمالًا لكننا لا نراها وسط كم الأكاذيب التي يدفع إليها الطمع والرداءة وسجون المظاهر الاجتماعية، لكن هذا لا يمكن رؤيته إلا بشرط أساسي لا فصال فيه يكمن في التخلي، الترفع عن العالم وقوانينه الحاكمة: الشهرة، المال، الجوائز..
أفضل ما في توماس برنهارد أنه أحد هؤلاء الكتاب القلائل الذين يشجعونك علي أن تأخذ منهم موقفًا منذ الصفحات الأولي، ولا حل وسط، إما أن يصبح علي قائمة كتابك المفضلين أو أنك لن تلتفت لأعماله مجددًا، بالطبع الحالة الثانية، حالة التنافر، ستحدث مع قارئ يبحث عن كتب تمده بالأمل، تخبره أن الغد سيأتي والشمس ستشرق! هذا قاريء لا يريده برنهارد ويسعي للابتعاد عنه وعن كل ما يمثله.
»‬كل شيء يبدو سخيفًا إذا فكر الشخص بالموت!». هكذا يقول، وحالة الموت تلك تسيطر علي الكتاب، تحاصر المؤلف وصديقه، هو مصاب بالسل الذي ظل معه إلي أن مات به، وصديقه باول مصاب بالجنون الذي أودي به، يعيشان مع علتيهما عالمين إلي أين يذهبان، كل خطوة في حياتهما تقربهما إلي مصيرهما النهائي.
المرض عند برنهارد ليس مجرد حالة عابرة، حتي وإن طمع في معجزة للشفاء، ورفض الاستسلام، لكن المرض يتأصل ويعبر جسده وصولًا إلي الروح ليصنع ثنائية جديدة تضاف إلي ما يملأ العالم، عالم الأصحاء وعالم المرضي وكيف يري كل منهما الآخر، يقلب المعروف والمتداول »‬في أغلب الأحيان لا يكون للأصحاء رغبة في تقديم يد العون إلي المريض، إنهم في الحقيقة، ينافقون علي طول الخط متظاهرين برحمة لا يشعرون بها»، المرض هنا يصبح عقيدة تفرض نفسها ومع رغبة الخلاص تبقي عين الفنان والناقد والمتهكم واعية لوجودها المسيطر مانحة لها الفرصة الكاملة للتعبير عن نقائص عالم الأصحاء ونفاقهم الوحشي، رؤية لا تخص الصحة والمرض فقط بل يمكن سحبها ببساطة علي كل شيء، برنهارد وباول يمثلان عالم الفن المثالي الباحث عن الكمال الرافض للثروة والقصور الباردة التي تجد تمثيلًا لها هنا عند عائلة فيتغنشتاين بالغة القوة والعظمة والتي احتقرت، إلي النهاية، فلسفة لودفيج فيتغنشتاين ولم تفهم سبب اهتمام الغرب به، وبالتأكيد تصدت بعسف وقسوة لتبجحات ابن شقيقه باول ضدها.
لكن وسط العدمية الرهيبة، إلي جانب السل والجنون، مع رائحة الموت الطاغية، يمنحنا برنهارد وصفة لإعادة رؤية الحياة والفن بصورة مغايرة عما اعتدنا، المؤكد أنه لم يقصد هذا، ورأي كهذا كان ليكون كارثيًا بالنسبة له ولصديقه، كيف لا وهو الذي تحول الاحتفال بمنحه جائزة الدولة إلي مأساة بسبب كلمته الصريحة، أغضبت وزير الثقافة فانصرف من القاعة بعد أن حطم بابها الزجاجي غاضبًا وبعد أن »‬خرج عن طوره، ثم قفز مستاءً من مقعده، موجهًا إليّ بقبضته لكمة، ناعتًا إياي أمام كل الحاضرين بالكلب وهو يرغي ويزبد».
باول صديقه قال له تعليقًا علي قبوله جائزة الدولة أنه أمر قمة الشذوذ، وقال له بينما يتركان احتفال منحه جائزة أكاديمية الفنون »‬أنت تركتهم يهينونك! لقد بالوا علي رأسك!». ولم يكن ما قاله في الحالتين مستهجنًا من برنهارد الذي يوجه نقدًا مرًا إلي الجوائز وسلطتها »‬الجوائز لا تُعلي من قدر المُكرم -كما كنت أعتقد قبل أن أُمنح أول جائزة في حياتي- بل هي تحط من قدره، وبطريقة مخجلة للغاية»، ونقدًا يطال كل شيء في عالم الأدب، أعلامه، ومؤسساته، ومقاهيه »‬الهواء في مقاهي الأدباء فاسد دائمًا، مزعج للأعصاب، وقاتل للذهن، لم أكتسب هناك أبدًا خبرة جديدة، كل ما شعرت به في تلك المقاهي هو الإزعاج والتشتت والاكتئاب العبثي الكامل».
الرفض الذي أسس عليه برنهارد حياته ورؤيته للفن التقي برفض مماثل من صديقه باول، الذي يدور حوله الكتاب، الذي أصابه الجنون منذ طفولته، مرض عقلي يعتبره برنهارد »‬مزعومًا» موجهًا نقدًا آخر تجاه الأطباء النفسيين »‬شياطين هذا العصر الحقيقيون»، ومع التعمق في القراءة والتعرف أكثر علي شخصية باول، الفيلسوف الذي رفض نشر فلسفته، والناقد الموسيقي النابه، لا تتفق فقط مع برنهارد علي أن »‬كل التسميات التي أطلقوها علي مرض باول العقلي المزعوم كان يتضح سريعًا أنها خاطئة وسخيفة» بل أن باول في الأصل ربما لا يعاني من علة ما إلا كراهيته لنمط حياة العائلة النمساوية بالغة الثراء التي ينتسب لها ما دفعه ليتحول من مليونير إلي فقير يجد قوت يومه بالكاد ويعمل في وظيفة متواضعة بعد أن وزع »‬ما يسميه الملايين القذرة علي الشعب الطاهر». ورغم الخلاف الذي لا يخفيه برنهارد مع صديقه علي مسألة الفقراء فإنه لا يبدي له وجهة نظره فيما يفعله منجذبًا إلي صفاته النادرة »‬لم يسبق لي أبداً أن تعرفت إلي إنسان حاد الملاحظة متوقد الذهن، ثري الفكر، وواسع الخيال ومرهف الإحساس مثله».
يحتفي »‬صداقة» بهذه القيمة، الصداقة التي »‬لم نجدها هكذا مبذولة علي قارعة الطريق، بل تعبنا طوال تلك السنوات إلي درجة الإنهاك كي ننميها معًا، ونحافظ عليها علي نحو نافع ومريح لنا، حذرين أشد الحذر لئلا تصاب بمكروه وهي الرقيقة الهشة»، صداقة تخرج من ردهات المصحات إلي عالم الموسيقي والأوبرا حيث المناقشات بالساعات، علي مقاعد المتفرجين حيث باول يمكنه أن يصنع النجاح لعرض بصيحات الإعجاب أو يساهم في فشله بصفير الاستهجان، صداقة أنقذت برنهارد من مزاج سوداوي مرضي، ومن هواجس الانتحار، ومن عالم المتأدبين.
يجبرك المؤلف علي التفكير، هذا بالطبع إن لم يسحبك في دوامة العدمية والتمرد، والحقيقة أن اليأس الذي يطبع كتابه »‬صداقة» يغلف رغبة جادة في إعادة الأمور لما ينبغي أن تكون عليه، هو لا يقول ذلك، لكنك بينما تقرأ ستجد نفسك مدفوعًا لأسئلة لم يطرحها، ربما لهذا رأي مترجم العمل سمير جريس في مقدمته وحول النقد العنيف الذي يوجهه برنهارد لوطنه النمسا معبرًا عن »‬حب جارف له»، وسواء صح ذلك أم لا يبقي »‬صداقة» رغم كآبة المرض والموت، وفيينا »‬السخيفة الجاهلة»، عملًا يحتفي بالإنسانية والفن ويعلي من قدرهما ما جعل الناقد الألماني مارسيل رايش رانيتسكي، وسمير جريس، يتفقان علي أنه »‬الأكثر عذوبة ودفئًا إنسانيًا من بين كل ما كتب برنهارد».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.