حالة المعلمين الثائرين علي المستوي المتدني لرواتبهم، وبالتالي مستويات معيشتهم البائسة، وأشياء أخري كثيرة.. شكلت الأسباب المنطقية لوقفاتهم الاحتجاجية شديدة الموضوعية، ومطالبهم العادلة جدا، والتي يتم تجاهلها باستمرار.. من أيام مبارك إلي أيام مرسي.. وإذا كنا نصدق جميعا، ما نتشدق به باستمرار من ان المعلم هو حجر الزاوية في نهضة الأمة، لأنه يبني العقول ويؤسس للوجدان، ويغذي الأرواح، ويكرس العلم والمعرفة في قلوب وعقول وأفئدة الناشئة والشباب الذين هم (دون مزايدة ولا مبالغة) العماد والاعتماد، ومناط مستقبل البلاد، وهم الذخيرة الحقيقية، والكنز الفعلي، والاحتياطي الصلب الذي هو دون مبالغات أكثر قيمة - بما لا يقاس - من احتياطي الذهب.. وفوائض النقد.. فالبشر المتعلمون تعليما ممتازا وعصريا ومبتكرا.. هم الميزان الحق بكل المعاني، وهم معقد الآمال - بدون شك - للقفز إلي المستقبل، وحرق المراحل باتجاهه، وهم القادرون علي سد العجز في الموازنات العامة والخاصة، وهم مربط الفرس عند الحديث عن القوة الاقتصادية، وعن معامل النمو، ومعدل النهوض، وأرقام التنمية، وعن مؤشرات التقدم ومقاييس التحديث.. الخ، الخ، الخ وبؤرة الفاعلية في كل ذلك (باختصار) هو التعليم..هذه الكلمة التي من كثرة تشدقنا بها، نكاد نكون أفرغناها من كل مدلول، لاننا مانفتأ نرددها ونكررها، كما هو الشأن في الكثير من جوانب (وكلمات ومصطلحات) حياتنا.. دون مضمون حقيقي، ومحتوي فاعل، وتصور شامل دينامي قابل للتطبيق والتحقيق، وتحويل الأماني والأحلام والمشاريع (وما أكثرها) والرؤي والافكار والتصورات (وما أغزرها).. إلي فعل وتنفيذ وتطبيق وخطط فارقة ومؤثرة لتحويل العملية التعليمية البائسة الصماء الروتينية الفقيرة الأفق، والمحدودة النتائج.. إلي وسيلة حقيقية للنهوض.. وإلي خلق العقلية الوثابة المتحركة القائمة علي التفكير النقدي، والاختيار بين البدائل، والابتكار لحلول جديدة، ولن يتم كل ذلك - ابتداء - إلا بالقضاء علي التعليم التقليدي الكلاسيكي (القائم حتي الآن) علي آليات الحفظ والصم والترديد والتلقين دون اعمال للعقل، ودون الترجيح بين بدائل متعددة، ودون الموازانات بين حلول شتي كلها ذكية وصالحة، وليس بين حل وحيد لا يوجد غيره، ورفض وحيد لا يوجد سواه.. في قصر للعملية (الفكرية) علي أسلوب عاجز في التفكير والتدبير (في جوهره).. ومنهج تقليدي قاصر في الحركة والتأثير (في لبه العميق).. نحن نحلم بهذا التعليم الجديد، الذي لا يخلق (قطعانا) من الحفظة المرددين الببغاويين.. بعد أن تم قتل قدراتهم الابتكارية والابداعية علي مدي سني الدراسة العامة بل والجامعية، دائما نحلم بهذا التعليم الذي يخلق عقولا تتباري، وأفكارا تتنافس، وحلولا يبز بعضها بعضا.. تعليم يحول (القطعان) إلي مبدعين، والحفظة إلي مبتكرين، والصمامين الآليين إلي امكانيات فكرية، وإلي احتمالات ابداعية، وإلي عقول تفخر بها الأمة، وتضيف إلي رصيدها من العمالقة والأفذاذ. .. ولنتذكر أن القفزة التي أنجزها مهاتير محمد وحزبه في ماليزيا، بدأت بالتعليم، وقد قال الرجل ذلك عند زيارته لمصر قبل الثورة، وأكد عليه مرارا بعد ذلك.. مربط الفرس في النهضة الشاملة - إذا كان الرئيس مرسي يعني ما يقول، وما طرحه كعنوان رئيسي لحملته الانتخابية.. هو التعليم والبحث العلمي.. ذلك الذي خصص له مهاتير محمد وحزبه - عند شروعهم في تنفيذ خطتهم لنهضة البلاد - ميزانية طواريء عاجلة وصلت إلي 25٪ من الدخل القومي، لأن الطفرة في تعليم وتحديث وترقية العقول الشابة للأمة ستقفز بالأمة كلها في غضون سنوات تعد، قفزة عظمي للأمام.. وعند نهوض ماليزيا، بناء علي هذا الفكر الاستراتيجي المستنير، الذي راهن علي التعليم أولا وثانيا وثالثا.. شكلت الصناعة الماليزية - علي سبيل المثال - 85٪ من صادراتها في زمن قياسي! واذا أردنا أن نترسم خطي هذا النموذج في التنمية الوطنية المستقلة، واقتنعنا بأن حجر الزاوية فيه هو التعليم، فلابد لنا - إذن - من الاهتمام بشتي مفاصل العملية التعليمية، من المراحل الباكرة الأولي وحتي المرحلة الجامعية.. والعماد الأساسي في هذه العملية، قبل الحجر والمباني والمعامل والملاعب والوسائط والوسائل والامكانيات المادية.. هو المعلم.. كيف نعد المعلم لهذه المهمة المقدسة الجليلة في مختلف النواحي التي تؤهله لذلك، وأولها.. حياته هو نفسه، وتحقيق مستوي المعيشة الانساني والكريم له ولأسرته، وتأمينه اجتماعيا وصحيا، وتحصينه في مأكله وسكنه ورعاية أولاده.. وكل ذلك يبدأ (بإقرار) المرتب العادل للمعلم، الذي يساعده علي الصمود عند مجابهته متطلبات الحياة، لا معني - علي الإطلاق - لأن أعطي المعلم مرتبا هزيلا لا يصمد لمدة اسبوع ازاء الأسعار المتوحشة والغلاء الفاحش ومتطلبات الحياة (الضرورية) التي لا ترحم.. وأطالبه بأي شيء ناهيك عن القيام بواجبه التعليمي الصحيح.. لا معني لأن تهدد حياته هو شخصيا، ومعه بيته وأولاده في مأكلهم وملبسهم وصحتهم وسكنهم وكل احتياجاتهم الانسانية المشروعة في كل الدنيا.. وأطالبه بأن يهتم بأولاد الناس، وأن يعطيهم من وقته وجهده وعقله وعنايته.. بينما هو مشتت الفكر علي أولاده، مبعزق الخاطر علي بيته، ممزق الوجدان علي حياته وظروفه الاجتماعية البائسة، يشرد كثيرا، ويسرح طويلا، ويحزن ويحمل الهم طيلة الوقت. .. وبالتالي، فلا يجب أن أعتب عليه، إذا تفتق ذهنه المكدود، عن هذا الأسلوب الفتاك للثأر لنفسه وأولاده من المجتمع والناس.. بالدروس الخصوصية.. وبانسحاب تركيزه من تفاصيل العملية التعليمية نفسها، ومن حقوق الطالب عنده.. إلي كيفيات التربح والتكسب من التلاميذ والمجموعات داخل المدرسة، أو من المراكز و(السناتر) الخصوصية خارج المدرسة، أو من المجموعات التي تنعقد في بيته أو في بيوت التلاميذ.. بما يصرفه، كليا، عن العناية بدروسه في المدرسة.. ويشجعه علي القيام - تدريجيا - بتحويل درس المدرسة إلي مجرد (سد الخانة).. حتي لا أستطيع أن أقول إلي مجرد (أداء الواجب) لأنه ينخفض عن مستوي (أداء الواجب) كثيرا! ثم لا نريد أن نشعر - كما يحدث في بعض المدارس الآن - أن كل ما أضافته حكومة الإخوان إلي موضوع التعليم، هو المزيد من التكريس لبعض الأفكار المتطرفة لدي بعض القائمين بالعملية التعليمية.. بحيث تتحول غاية غايات التطوير لهذه العملية التعليمية - في بعض المدارس وبعض السياقات - إلي التكريس للنقاب والحجاب واللحية والجلباب، وإلي التوقف عند هذه المظاهر وما يماثلها.. دون جوهر المسألة التعليمية التي نريد لها أن تحدث طفرة في المناهج باتجاه التحديث والتطوير والاعلاء من شأن العقل، وإذكاء روح البحث العلمي، وسباق الزمن في التجديد والابتكار والابداع.. لأتصور أن كل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة في النار.. الخ، وعلي التعليم في روحه الجديدة تلك - وبالمناسبة - أن يفرق بحسم بين (البدعة) وبين (الإبداع).. فالبدعة مسألة تخص العبث بثوابت العقيدة التي لا خلاف عليها.. أما (الابداع).. فطاقة انسانية مشروعة ومشرعة علي حرية التفكير، وحرية التجديد، وضرورة الابتكار، وحتمية البحث والتحديث بكل المعاني، وأخيرا.. حرية التعبير لأن هذا هو (باختصار) الطريق الوحيد السليم الذي سارت فيه الأمم من قبلنا لكي تمسك بأول الخيط في النهوض والنهضة، إذا كان الرئيس مرسي وحزبه يعنون ما يقولون، ليس هذا فقط، وانما يفعلون ما يقولون أيضا.. وهو الأهم! وطبعا، بالاضافة إلي كل ما ذكرنا، اذا صدقت النوايا وصح العزم، فلابد من إعادة تأهيل لهذا المدرس، تتواكب مع إعادة التخطيط الاستراتيجي لمسار وأهداف وغايات العملية التعليمية، وإعادة التحديث - بشكل انقلابي ليس أقل - للمناهج والأسس والمعايير القائمة - وما تزال حتي الآن في كل مفاصل العملية التعليمية - علي الحفظ والصم والتلقين و(اللاتفكير) واستبعاد العقل والتكريس لعقلية ببغاوية تكرارية اجترارية محدودة الأفق تفتقد لحرية البحث والتفكير، وإعمال العقل، والحس النقدي، والضرورات المنهجية للبحث العلمي، كما استقر في كل الدنيا التي لها علاقة بمفهوم (البحث العلمي). إذن، لابد من احداث انقلاب مدروس وموعي به، لكل ذلك، في اطار تخطيط شامل ورؤية واضحة، ونظرة بانورامية استراتيجية كاملة باتجاه المستقبل. إذن - وباختصار - فلينظر المسئولون عن هذا الوطن، بمنتهي الجدية الي «ثورة المعلم» بالذات.. وإلي تحقيق (جذري) لمطالب المعلمين وأكاد أغامر بالقول (مع تعدد فئات أصحاب المطالب والمطالبين في المجتمع) ومع تقديري الكامل لكل هؤلاء وحقوقهم المشروعة ومطالبهم العادلة بدون أي شك.. إلا أنني أري أن للمعلمين أولوية.. لأن تربية الأجيال، وتعليم رصيد المستقبل من الناشئة والشباب التعليم الصحيح.. هو معقد الرهان العاجل الذي لا يقبل التأجيل.. بل لابد أن نوفيه فورا مطالبه وضروراته واحتياجاته.. لأننا تأخرنا بما فيه الكفاية، ولم يعد ثمة وقت نضيعه مجددا، ثم أن نهضة التعليم ، مهما تكلفت علي كل المستويات، هي القاطرة الحقيقية للنهضة، التي ستجر معها مختلف عربات المجتمع الي الأمام وبسرعة لابد منها! .. السيد الرئيس مرسي، والسيد رئيس الوزراء، وحكومة الإخوان برمتها، مطالبون بحلول عاجلة في هذا الخصوص، لا أن يعيدوا ترديد نفس حجج وأعذار الحزب الوطني السابق والفاسد، أو إعادة الانتاج البائسة لمقولات حكم مبارك في هذا الشأن.. لأنهم بذلك يخونون أنفسهم فيما وعدوا، ويخونون الناس فيما انتخبوهم علي أساسه، ويخونون المستقبل في تعويق وتعجيز صانعيه! حققوا مطالب المعلمين في كادر حقيقي أعيدوا تكليف خريجي كليات التربية ثبتوا المؤقتين والعاملين بالحصة حددوا الحد الأدني للأجور بثلاثة آلاف جنيه (يا دوب). وتعهد المعلمون في مقابل ذلك بالامتناع عن - بل وتحريم - الدروس الخصوصية التي تكلف الأسرة المصرية في كل عام حوالي 17 مليار جنيه!! وبالمناسبة، ليس كل المعلمين بقادرين علي ممارسة هذا النهب المنظم المسمي بالدروس الخصوصية.. مثل مدرسي الأنشطة والهوايات وغيرهم.. لقد وعد السيد الرئيس مرسي، ووعدتم يا حكومته الرشيدة بالنهضة.. و«التعليم».. هو المدماك الرئيسي في هذه النهضة، إذا كنتم صادقين وجادين في الأخذ بأسبابها. أما إذا كان كلامكم ووعودكم للاستهلاك، وللوصول إلي كراسي الحكم فنحن معذرون - حتي الآن - في ألا نري فارقا حقيقيا بين دعاوي وطنطنات مبارك ونظامه علي كل صعيد، وبين ما نسمعه ونراه منكم الآن! تختلف الأسماء، وتختلف الرايات، وقد تختلف العناوين، ولكن الجوهر واللب هو هو لا يتغير! ولذلك، لا نملك إلا أن نردد - في هذه الحالة مع أمير الشعراء أحمد شوقي، ومع تغيير طفيف يتناسب مع ما تفعله الحكومة الحالية بالمعلم (وتصر عليه).: (قم للمعلم وفه التنكيلا)!