كان التعليم وما زال إحدي أهم أدوات التنمية والنهضة علي مستوي الأفراد والمجتمع، ويقاس تقدم الأمم والشعوب بمدي تقدم التعليم وجودته وإتاحته أمام الجميع دون عراقيل أوقيود من أي نوع، إلا أن نظامنا التعليمي ومنذ عقود طويلة مضت يعاني من أزمة مزمنة وطاحنة، أزمة علي مستوي البني والوظائف، أزمة تحول دون قيامه بالدور المناط به، وهو نشر المعرفة والاستنارة والعقلانية في المجتمع. وتتلخص تلك الأزمة في ثلاثية «التلقين الحفظ التذكر» تلك الثلاثية التي تفرغ نظامنا التعليمي من محتواه وتحوله إلي مجرد طقوس شكلية نتوهم من خلالها أن هناك تعليماً يجري علي أرض الواقع. وأزمة التعليم تلك تُحول عقول طلابنا إلي خزائن ومستودعات تودع فيها المعرفة الثابتة اليقينية ويتم استردادها في الامتحان، والطلاب الذين يقومون برد تلك المعارف كما هي دون زيادة أونقصان، هم الطلاب المتفوقون والنابهون، أما هؤلاء الذين يملكون قدرات الإبداع والابتكار والخلق والمغايرة، فليسوا من وجهة نظر نظامنا التعليمي طلاباً متفوقين، بل هم طلاب عاديون جداً، من هنا يتحول المعلم إلي سلطة تملك الحقيقة المطلقة وتحول الكتاب المدرسي إلي مصدر وحيد للتعلم والمعرفة، من هنا تنامت ظاهرة الدروس الخصوصية بشكل يهدد كيان النظام التعليمي ذاته وكذلك المجتمع، ويتحول الكتاب الخارجي إلي بديل عن كتاب المدرسة بما يحويه من مغايرة في العرض واستخدام تقنيات أجود في عرض المادة الدراسية. ولقد نشأت في إطار ذلك سوق سوداء للكتاب المدرسي والجامعي أيضاً، وشكلت الدروس الخصوصية والكتاب الخارجي مصروفات دراسية خبيثة تضاف إلي تكاليف التعليم الرسمية، ولقد شكل كل ذلك عبئاً علي كاهل الأسرة المصرية وتحديداً الأسر الفقيرة وذات الاحتياج الأكثر. ومع تولي الأستاذ الدكتور أحمد زكي بدر وزارة التربية والتعليم، فاجأ الجميع ببعض الزيارات المفاجئة التي يتصور البعض أنها من مقتضيات إصلاح النظام التعليمي، وانشغل المجتمع بها كثيراً، ولكن في نهاية التحليل، تلك الزيارات وغيرها لن تقدم كثيراً في تطوير وتحسين نظامنا التعليمي. وكما أن كل جهود الإصلاح التعليمي منذ عقود طويلة قد باءت بالفشل الذريع وذلك لأنها لم تتوجه إلي قلب المشكلة وجوهرها وانشغلت بالعرض دون المرض، إن الإصلاح التعليمي المنشود لا يمكن له أن يتم إلا إذا انصب بشكل رئيسي علي تفكيك ثلاثية «التلقين الحفظ التذكر» وهدم تلك الثلاثية وبناء نظام تعليمي جديد قائم علي الابتكار والإبداع ونسبية المعرفة. من هنا فإن ما قام به وزير التربية والتعليم من تفكيك علاقات المصالح والقوي الاجتماعية صاحبة المصلحة في تأليف الكتب الدراسية كان أمراً جيداً، لقد استطاع أن يفكك ذلك في مركز تطوير المناهج حيث كانت هناك مصالح جوهرية بين بعض الذين يؤلفون الكتب الدراسية للوزارة وبعض المطابع ودور النشر التي تقوم بنشر الكتب الخارجية لأننا نعلم جيداً أن طباعة الكتب المدرسية تجارة رابحة تربوعلي ثلاثة مليارات من الجنيهات، استخدمها وزراء التربية والتعليم السابقون في مواجهة حملات النقد من المؤسسات الصحفية الحكومية، حيث تتوزع عليهم كل بحسب حجمه وقيمة ما يطبعه من كتب مدرسية ولكن ما أقدم عليه الدكتور أحمد زكي بدر من الدخول في معركة حقيقية في مواجهة مافيا شارع الفجالة. ولتلك القضية رواية، فمنذ أكثر من خمسة عشر عاماً حينما قام الدكتور حسين كامل بهاء الدين بإطلاق مصطلح «مافيا الدروس الخصوصية » علي بعض المدرسين، طالبه أستاذنا الدكتور مراد وهبة بأن يتصدي إن كان قادراً لمافيا شارع الفجالة، وهم الأولي بالتصدي لأنهم جزء أصيل من المشكلة والحل. إن الكتاب الخارجي في الأساس ضد العملية التعليمية، لأن هناك كتاباً للوزارة، هذا الكتاب هوالذي يجب أن يسود بجودة عالية وتقنية فنية وتربوية تحقق الأهداف التعليمية المنشودة وسيادته تعني في الأساس سيادة الوزارة علي العملية التعليمية. والوزارة هي التي تقوم بالتأليف لتلك الكتب وهي صاحبة المعرفة المقدمة للطلاب من خلال تلك الكتب ويجب ألا ينافسها أحد فيها لأن هذا شأن يخص إعداد الأجيال الجديدة للمستقبل والأمن القومي، ولكن أن يكون هناك كتاب مدرسي ذا جودة متدنية وتقنية منخفضة وكتاب خارجي أفضل، ناهيك عن أن بعض المدرسين الآن في مراكز الدروس الخصوصية يقومون بتأليف مذكرات وكتب أيضاً تطرح للطلاب وتباع لهم مع الدروس الخصوصية وكل ذلك يشكل عبئاً علي الأسر الفقيرة ويفقد العملية التعليمية أهميتها وجدواها. والسؤال ماذا سيفعل الطالب؟ وأيهما يختار؟ أليس في هذا تشتيت للعقل والجهد وتكريس لثلاثية «التلقين والحفظ والتذكر». إن تلك الفوضي التي نعيشها منذ زمن طويل قد آن الأوان للمواجهة ولحسم تلك القضية، مواجهة ظاهرة الاتجار بالمعرفة وخلق سوق سوداء للمعرفة المقدمة للطلاب. إن القضية ليست في المغالاة في حقوق التأليف والملكية الفكرية، وما تدفعه دور النشر للوزارة، القضية في جوهرها هوإلغاء ذلك النوع من الكتب وقيام الوزارة بدورها في تقديم كتاب مدرسي جيد وفق معايير محددة، القصة ليست في الأموال ولكنها في المبدأ، هناك ضرورة لإلغاء ذلك النوع من الكتب ومواجهة تلك المافيا التي تشكل عبئاً علي الطلاب وأسرهم. إن نجاح وزير التربية والتعليم في تلك المواجهة سيكون قد وضع يده علي بداية الإصلاح، الاهتمام بالكتاب المدرسي ذي المعرفة النسبية والكتاب المعتمد من الوزارة، إن نجاح الوزير في تلك المعركة سيجعلنا نخلع له القبعة علي أنه استطاع أن يخوض حرباً تراجع أمامها الكثير من وزراء التربية والتعليم. إننا لكي نفكك منظومة «التلقين والحفظ والتذكر »، سنكون في أمس الحاجة إلي كتاب مدرسي بديع وجميل فنياً وإخراجيا ومعرفياً، كتاب يعيد إلي المدرسة اعتبارها وإلي المعلم اعتباره أيضاً، إن القضية ليست فقط في الكتاب الخارجي ولكن في كتب ومذكرات أصحاب مراكز الدروس الخصوصية، لأنه في نهاية المطاف يقوم الطلاب بشراء كتاب ومذكرات المدرس الخصوصي الذي حل محل المدرسة واستولي علي دورها ومهامها بسبب الانشغال بقضايا ثانوية بعيدة عن أهداف الإصلاح التعليمي المنشود. إن المعركة الحقيقية التي يجب أن يواجهها وزير التربية والتعليم، هي إلغاء الكتاب الخارجي وتطوير الكتاب المدرسي وفق معايير تربوية وفنية تحقق الغاية منه، وقبل وبعد كل ذلك ضرورة إعادة الاعتبار إلي المدرسة والمعلم، لقد فقدت المدرسة دورها التربوي والتعليمي، مما أدي إلي وجود تعليم موازٍ في المنازل، وكتب موازية، إن القضية التي يجب أن يهتم بها وزير التربية والتعليم، هي عودة الحياة إلي المدرسة المصرية.