كانت الخصخصة أحد عوامل تقدم الاقتصاد الهندي, حيث قامت الدولة بالانفتاح علي الاقتصاد العالمي, وبدأت في السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في بعض الصناعات والقطاعات المملوكة للدولة إن الدول التي سبقتنا من الدول النامية التي نقارن أنفسنا بها اتبعت سلسلة من السياسات المتشابهة أولاها الاهتمام بالتعليم وجودته مع القضاء علي الأمية بالطبع خلال القرن التاسع عشر, وخلال ما عرف بعد ذلك بعصر النهضة العربية, ساد السؤال الجامع عن أسباب تخلف العرب والمسلمين, وفي مصر كان السؤال منصبا علي المصريين: لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون حتي أنهم أقبلوا علينا غزاة ومستعمرين؟. وكان السؤال قاسيا لأن الاعتقاد السائد كان أنه طالما أننا أمة الحق والديانة الخاتمة للديانات والرسالات فلا بد أن لدينا مناعة خاصة تجاه هؤلاء القوم من الغربيين الذين باتت لديهم القدرة والمنعة حتي أنهم أصبحت لديهم القدرة علي تقسيم أراضينا وتوزيعها في معاهدات دولية. وإزاء هذا السؤال الصريح فقد جاءت إجابتان مانعتان; الأولي جاءت لأننا أي المصريين والعرب والمسلمين لم نفعل كما فعل الغربيون من امتلاك ناصية العلوم والتقدم, وتكوين المؤسسات وتغيير ثقافة الشعوب لكي تترك تخلفها وشعوذتها. والثانية جاءت لأننا لم نكن مخلصين لثقافتنا وأصولنا وخصوصياتنا وما فيها من حق الكنوز, وأكثر من ذلك انحرفنا بها بالبدع ونقص الاجتهاد. ومن هذين التيارين نبتت السياسة المصرية والعربية فكان السعي نحو الدولة المدنية الحديثة المقتربة من الغرب هو الترجمة العملية للإجابة الأولي, والسعي نحو الدولة الدينية المجاهدة للغرب هو تجسيد الإجابة الثانية; وكان لكل اتجاه جماعته من المفكرين والأحزاب السياسية معا. المناسبة الآن لا تبدو مختلفة كثيرا, ففي خضم الحديث عن الحالة المصرية يجري التنويه دائما بتهافت حالتها مقارنة بما أنجزته دول وأمم أخري باتت تسبقنا في التقارير العالمية التي تركز علي المؤشرات والمقاييس. والغريب في الأمر أن جماعة الإخوان المسلمين ومفكريها وكتابها لم تستبعد هذه التقارير من عملياتها للتعريض بالنظام السياسي المصري; وكان المدهش دائما هو أن محاولات النظام المصري للإصلاح كانت كثيرا ما يتم إجهاضها لأنها باختصار لا تتلاءم مع ظروفنا; أو هكذا كان يقال. ويبدو أنه لا يوجد حل لهذه المعضلة سوي وضع المسألة كلها علي استقامتها, فإذا كان الجمع من المفكرين والسياسيين المصريين يقارنون مصر بدول أخري, فإن الدرس الذي نتعلمه هو أن نسعي لكي تكون مصر مثل هذه الدول. فما نشاهده الآن ليس فشل مصر, وإنما إزالة ما تواجهه من قيود حطمتها دول أخري منذ وقت طويل, بل تبني الكثير من السياسات التي اتبعتها لتحقيق تلك الدرجة المذهلة أحيانا من التقدم, فقد نجحت مجموعة من الدول الصاعدة في تحقيق معدلات نمو كبيرة, لسبب أساسي هو أنها اعتمدت في تخطيطها للاقتصاد علي مبدأ أنه يجب دفع ثمن وتقديم تضحيات عديدة حتي يتحقق التطور والنمو الذي تبغيه دول العالم المختلفة. وبالطبع فإن ذلك لن يحدث دون إجراء تغييرات في أنماط التفكير والثقافة السائدة لدي المواطنين, وبالتحديد تجاه مسألة الحصول علي الخدمات المختلفة بالمجان. وقد كانت سياسات الخصخصة والاستثمار في المجالات المختلفة, لاسيما التعليم, أحد أهم العوامل التي ساعدت هذه القوي علي الوصول إلي هذه الدرجة من النمو الاقتصادي. وعلي سبيل المثال, عندما قررت المكسيك التحول من الاقتصاد المغلق إلي الاقتصاد الحر الذي يخضع لآليات السوق والعرض والطلب والمنفتح علي التكتلات الاقتصادية الكبري والاستثمارات الخارجية, كانت الخطوة الأولي التي اتخذتها في هذا السياق هي إفساح المجال وتهيئة البيئة الداخلية, الاقتصادية والقانونية, أمام القطاع الخاص للاستثمار في القطاعات المختلفة مثل الكهرباء ومصانع الطاقة النووية وشبكة البث القومية, وعلي خلفية ذلك شهدت المكسيك عملية بيع واسعة لعدد كبير من الشركات المملوكة للدولة, أدت إلي تقليص عددها من أكثر من1000 شركة عام1982 إلي أقل من200 شركة عام2000. وبالتوازي مع ذلك, طورت الدولة نظاما حديثا للضمان الاجتماعي وفر تمويلا كاملا من خلال مدخرات لتمويل استثمارات طويلة المدي, وهو ما أنتج تداعيات عديدة علي المواطنين خصوصا للمتقاعدين الذين حصلوا علي مكاسب متعددة علي رأسها توافر حد أدني للمعاش يوازي الحد الأدني للأجر الذي يتعرض للتغير وفق حالة الصعود والهبوط لمنحني التضخم. وفي مجال التعليم, ورغم أن القانون المكسيكي يلزم الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين6 و14 عاما بالالتحاق بالمدارس, إلا أن ذلك لم يؤد إلي تأسيس نظام تعليمي نمطي, ولم يحل دون طرح سياسة تعليمية متطورة قامت علي إحداث تغييرات جوهرية في نظام التعليم من خلال تأسيس عدد كبير من المدارس ومعاهد التدريب المهني لتخريج كوادر متخصصة في مجالات مختلفة, وزيادة ميزانية التعليم, فضلا عن تحسين إنتاج واستخدام المواد التعليمية, وجعل العمل هو القيمة المحورية التي يدور حولها نظام التعليم, أي أن ضمان فرصة عمل مناسبة مرتبط في المقام الأول بمدي استفادة الفرد من العملية التعليمية. كذلك كانت الخصخصة أحد عوامل تقدم الاقتصاد الهندي, حيث قامت الدولة بالانفتاح علي الاقتصاد العالمي, وبدأت في السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في بعض الصناعات والقطاعات المملوكة للدولة, في ضوء قناعة مفادها أن القطاع العام أصبح عاجزا عن قيادة قاطرة الاقتصاد الوطني, بعد أن فشل في تقليص نسبة الفقر ومعدل التضخم والبطالة. وعلي خلفية ذلك, منحت الدولة حوافز متعددة وهامشا واسعا من حرية العمل أمام رأس المال الأجنبي, مثل منح حق التملك الكامل للمستثمرين الأجانب في مشروعات توليد الطاقة والسياحة والنقل وغيرها, أو الحق في تملك49% من قطاع الاتصالات, و51% في الصناعات الدوائية. وفي أكتوبر1999 قامت الدولة بإلغاء جميع الإجراءات البيروقراطية التي مثلت قيدا علي الاستثمار الأجنبي, بالتزامن مع منحه رخصة العمل في قطاعات النقل والبريد والفحم وغيرها. أما علي صعيد التعليم, فتتبني الدولة سياسة تعليمية تهدف إلي تحسين نوعية الخدمة التعليمية ووصولها إلي أكبر عدد من المواطنين, إلي جانب منح الأولوية لتعليم الفتيات باعتبار أنهن أكثر الفئات حرمانا من التعليم, فضلا عن وضع برنامج لتفعيل قدرة المؤسسات والمنظمات التعليمية لإدارة وتخطيط العملية التعليمية. كما وضعت الهند ميزانية كبيرة لبناء المدارس وتدريب المعلمين وتوفير الكتب المدرسية والوسائل التعليمية, وأقرت مجانية التعليم للأطفال من عمر6 أعوام إلي14 عاما. ورغم أن الاقتصاد التركي كان أحد الاقتصادات التي تعرضت لخسائر كبيرة علي خلفية الأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم في بداية القرن الحادي والعشرين, إلا أنه استطاع التخلص من تبعاتها بسرعة علي خلفية السياسة التي انتهجتها الدولة التي اتجهت إلي إعادة هيكلة البنية التحتية للاقتصاد بهدف تفعيل قدراته التنافسية, وتهيئة المجال أمام المستثمرين الأجانب, وإزالة العوائق البيروقراطية بهدف إعادة اكتساب ثقة التكتلات الاقتصادية الكبري ورأس المال الأجنبي في الاقتصاد التركي. وقد نجحت الدولة في الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي الذي ربط مساعداته المالية لتركيا بسلسلة من الشروط مثل القضاء علي القيود القانونية التي تعوق النمو الاقتصادي وتوفير بيئة أفضل للاستثمار, إلي جانب تفعيل عملية خصخصة القطاعات المملوكة للدولة. وقد بلغت قيمة بيع هذه الشركات خلال الفترة من عام1985 إلي عام2005, حوالي9 مليارات و437 مليون دولار. وفي مجال التعليم, انتهجت تركيا سياسة المواءمة بين المهارات والتعليم وهو ما دفعها إلي تأسيس هيئة للمعايير المهنية أعدت مشروع قانون لدعم التعليم والتدريب المهني, وهو المشروع الذي حصل علي دعم مالي من جانب الاتحاد الأوروبي بلغ50 مليون يورو, وقد تطورت هذه الهيئة لتصبح الهيئة الوطنية للمؤهلات المهنية التي تمثلت مهمتها الأولي في تفعيل الأنشطة التعليمية وضمان الوصول إلي أعلي درجات الكفاءة في إدارة العملية التعليمية. كذلك شكلت تايلاند نموذجا مهما للقوي الاقتصادية الصاعدة علي مستوي العالم, حيث اعتمدت سياسة الخصخصة وجذب الاستثمارات الخارجية لتنمية اقتصادها الوطني, بشكل زاد من معدل النمو الذي وصل في عام1995 إلي8.4%, مع احتفاظ معدل البطالة بمستواه دون ال5%. فيما وصل معدل نمو الصادرات إلي16% في الفترة من1990 حتي1996 وقد شجعت هذه التطورات رأس المال الأجنبي علي الاستثمار في القطاعات المختلفة لاسيما قطاع العقارات. وقد كانت تايلاند إحدي الدول التي تأثرت بأزمة الأسواق المالية الآسيوية عام1997, إلا أنها نجحت بعد ذلك في معالجة السلبيات التي واجهتها تدريجيا, بشكل أدي إلي ارتفاع معدل النمو إلي4.4% عام1999, بسبب زيادة معدل الصادرات إلي نحو20%. لكنها تعرضت مرة أخري لتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي شهدها العالم عام2008, وهو ما أدي إلي انخفاض معدل النمو إلي حوالي3.5%. ورغم أن الحكومة التايلاندية تقوم بالإشراف علي التعليم بمراحله المختلفة, إلا أنها حريصة في الوقت ذاته علي السماح للقطاع الخاص بمشاركتها في إدارة العملية التعليمية, بشكل أدي إلي رفع كفاءتها وساهم في النهاية في رفع منحني التنمية البشرية وكان أحد أسباب انتعاش الاقتصاد التايلاندي في العديد من الفترات. واعتمدت إستراتيجية التعليم التايلاندية علي مبدأ أن التعليم يبني الأمة, ويمكن الأفراد ويخلق فرص العمل, ومن هنا سعت الحكومة إلي تأسيس شبكة تعليمية تقدم خدمة علي أعلي مستوي بشكل متساو بين جميع المواطنين, وتأسيس إدارة فعالة وعادلة للتعليم العام لخدمة كل المواطنين في المناطق الحضرية والريفية, وتعزيز مشاركة جميع الفئات في تحمل المسئولية الجماعية في إدارة التعليم والتدريب, مع التأكيد علي أن الحكومة سوف تتكفل بتعبئة الموارد وإنشاء نظام لمراقبة الجودة, ومشاركة المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص, والشبكات العائلية في هذا الإطار. وهكذا فإن الدول التي سبقتنا من الدول النامية التي نقارن أنفسنا بها اتبعت سلسلة من السياسات المتشابهة أولاها الاهتمام بالتعليم وجودته مع القضاء علي الأمية بالطبع; وثانيتها الخصخصة واستكمال كافة شروط اقتصاد السوق; وثالثتها جذب الاستثمار الأجنبي لإقامة صناعات من أجل التصدير دون عوائق بيروقراطية; ورابعتها تخفيض سياسات الدعم لصالح مساعدة المواطن لكي يكون مشاركا في صنع الثروة ومستهلكا لها أيضا. فهل نريد أن نكون جزءا من السباق؟ إذا كانت الإجابة بنعم فإن علينا أن نفعل ما فعلوا. تلك هي القضية!!. [email protected]