أشرف عامر ينتمي المخرج المسرحي ناصر عبدالمنعم روحيًا إلي الجنوب، ومسرحيًا إلي الشارع، وفكريًا إلي البسطاء والمهمشين. منذ أن كان طالبًا بالجامعة عاش بين الناس وحاول مسرحتهم، جرجر خشبة المسرح إلي الشوارع والأزقة والميادين وحاول أنسنتها، مزق الستارة وكسر إيهام الخشبة وعانق قضايا وطنه وأوجاع أهله وناسه، كسر الحاجز الفاصل بين الحركة في الحياة والحركة في فضاء المسرح. كان زاعقًا وصاخبًا أحيانًا، ولكنه صادق، كان مباشرًا وصادمًا أوقاتًا، ولكنه مؤمن برسالة الفن وقدرته علي التغيير في الواقع. جارعلي الفن مرات، لحساب وضوح الموقف وإيصال الرسالة إلي أكبر قطاع ممكن من المتلقين،إلاّ أنه كان عارفًا بسر صناعة المسرح وخلطته السرية. ناصر عبدالمنعم يقدم الآن علي مسرح الغد تاريخ الأمس المظلم، واليوم الضبابي المرتبك، والمستقبل المفتوح علي الأسئلة الصعبة، وذلك من خلال عمل فني متميز، قام بتأليفه شاذلي فرح، واشترك في تجسيده علي خشبة المسرح عدد من الممثلين، من بينهم سيولد كبار نجوم المستقبل القريب. في مسرحية "ليل الجنوب" التي تأتي في إطار بحث ناصر عبدالمنعم الدائم عن تفجير قضايا الوطن الشائكة علي خشبة المسرح، نجد أنفسنا أمام تجسيد مسرحي لمفهومي الغربة والاغتراب في الواقع، علي نحو ما فعل في العديد من أعماله السابقة، ومنها "حكايات ناس النهر" و"نوبة دوت كوم"، وذلك سواء عاش الإنسان مطحونًا ومقموعًا بين أهله وناسه، أوعاش بعيدًا عنهم منسحقًا ومؤجلاً. منذ اللحظة الأولي نحن أمام حالة من الانتظار المميت .. الكل ينتظر (والمصير محتوم) ولا شئ يحدث سوي ما هو حادث ! لا شئ في الأفق سوي وقوع الجميع داخل شبكة عنكبوتية متشابكة ، بدأت بحبل واحد، وانتهت بعشرات الحبال. هناك شخص صامت طوال العرض كان يجلس في أعلي المسرح (كأنه الزمن) يجدل الحبال التي أخذت تتحول بالتدريج مع تدفق الأحداث، إلي شبكة عنكبوت ضخمة حاصرت الجميع، في تعبير رمزي عن التقاليد والأوضاع البالية. لقد حاول ناصر عبدالمنعم من خلال تيمة الراوي المشطور إلي نصفين (أحدهما طفل والآخر كبير) وهي تيمة سبقه إليها عدد من المخرجين، منهم يوسف شاهين، حاول بتلك التيمة أن يرصد لنا عددًا من قضايا المجتمع المصري الشائكة، والتي تبدو أكثر قوة ووضوحًا في جنوب الوطن. وهي قضايا وإن كانت قديمة، بل وتمت مناقشتها كثيرًا في أعمال مسرحية وتليفزيونية وسينمائية عديدة، كمواضيع غربة الإنسان عن وطنه (وفي وطنه)، بحثًا عن لقمة العيش، وانتظار الزوجة (المقتولة بالوحدة والعشق) لمصيرها المحتوم (الوقوع في الرزيلة)، وموضوع التهجير، والثأر، وختان المرأة، وقهرها وحرمانها من ممارسة حقها المشروع في الزواج ممن تريد وتحب .. أقول: إنه حتي وإن كانت الموضوعات قديمة ومكتوبة برؤية لا تخلو من التقليدية وغمقان الرؤية (إن جاز التعبير)، فإن ناصر عبدالمنعم استطاع أن يعيد انتاجها من جديد، كما نجح في توظيف عناصر الفضاء المسرحي، وفي خلق حالة من التوتر الفني وضبط الإيقاع السحري للعرض في جو فلكلوري مشبع بالشعر والموسيقي والغناء، وقد ساهم كثيرًا في تشكيل ذلك مجموعة من عناصر العمل المهمة ، ابتداءً من ديكور د. محمود سامي، وموسيقي جمال رشاد، وإضاءة عمرو عبدالله، مرورًا بأزياء نادية المليجي ومنحوتات أحمد عبدالله، والتعبير الحركي لرجوي حامد، وانتهاءً بمن قاموا بتجسيد العمل علي خشبة المسرح ومنهم كما قلت سابقًا عدد من كبار نجوم مصر في المستقبل القريب، وفي مقدمتهم الطفل الرائع حازم عبدالقادر، والطفل زياد إيهاب، والمتألقون: يحيي أحمد، دعاء طعيمة، نائل علي، وفاء الحكيم، عبده العجمي، مستورة، شريهان شاهين، محمد دياب، محمود الزيات، سامية عاطف،محمد نصر، معتز السويفي. كما ساهم في ضبط إيقاعه المخرجة المنفذة داليا حافظ. إنه عمل مسرحي جاد يدعونا جميعًا إلي المطالبة بعودة المسرح الحقيقي إلي شرايين الحياة الفنية بمصر، بعدما سدتها جلطات مستمرة من الأعمال المسرحية الرخيصة والتافهة !