المواد الدستورية هي إحدي المعارك علي طريق تحقيق أهداف الثورة, فهي مرجعية تُستلم منها القوانين, وبمقدور أعضاء مجلس الشعب من مناصري الدولة المدنية أن يقحموه في وجه أي رجعي. ولكن الحق أن التطبيق جزء من الدستور, صحيح أن جميع القوانين الوضعية مستلهَمة من الدستور كما هو مفترض ولا يجب أن تحيد عنها بأية صورة, ولكن ما يكمل الدستور هو الاحترام المجتمعي للحريات العامة وقيمة التعبير. وبمقدور الدولة الأمنية أن تلتف حول الدستور وتضع ما يروقها من القوانين. وضع الدستور إذن - الشغل الشاغل لنا منذ عام - ليس نهاية المطاف, ولا السبيل الوحيد إلي إرساء دعامة حقيقة تحمي الفنون والآداب. من حيث المبدأ ينبغي أن يكون الدستور جماعاً مانعاً دون ابتذال, ثمة عبارات تطيح بجدواه من الأساس, مثل - "بما لا يخالف النظام العام" - وتجعله في مثل قيمة ورق اللحم. أي "نظام عام" علي وجه التحديد؟ ما هذه العبارة الفضفاضة؟ إن مثل تلك العبارات تفتح الباب علي مصراعيه للتلاعب والالتفاف. أشك أن دساتير الدول المحترمة تأتي علي ذكر عبارة تامة ثم تأتي باستدراك لها مريب مهلهل. وإلي جانب ذكر "الأديان السماوية", ينبغي أن نضيف أن المجتمع يكفل للاديني التعبير عن آرائه وحمايته من الأذي والضرر. كما يجب أن نضيف إلي جملة "ويجوز استثناء في حالة إعلان الحرب أن يفرض علي الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة" عبارة "فيما يخص الشئون العسكرية". وحين يذكر واضع الدستور, "للمواطنين حق تكوين الجمعيات والأحزاب بمجرد الإخطار ما دامت الغايات مشروعة", فإن عبارة "ما دامت الغايات مشروعة" تنتمي هي الأخري إلي تلك العبارات سيئة السمعة التي قد تلطخ أي دستور. ومعها ولا شك العبارة الشهيرة, "وبما لا يتعارض مع الأمن القومي للبلاد".لا أتوقع علي الإطلاق حتي لو تم إقرار قانون بصيغة علمانية تلتزم بتوقير الآداب والفنون والعلوم أن يتم احترامه في ظل حكم إخواني يتاجر بالدين. الواقع هو أن الحرص الحالي علي كتابة الدستور في ظل حكم الإسلاميين هو أيضاً من قبيل العبث, مداواة لجرح ثورة فشلت في تحقيق أهدافها, مواساة لثوار وسياسيين كانوا يحلمون بالمزيد. أنت في حاجة إلي ثورة أخري, لا إلي كتابة دستور. مأساة الثقافة والفنون في مصر أنها ليست قضية شعبية يمْكنك أن تحشد لها مئات الآلاف. نظرة بسيطة إلي العمال حين يغضبون, عندك عمال المحلة, أو النقابات أو حتي المحامون , سوف تشعر ولا شك بالضآلة كمثقف. الواقع هو أن المثقف مفعول به, حائط مائل يطيح به النظام كلما استعرض عضلاته. وما لم يكشر المثقف عن أنيابه وينتزع حريته ومساحة أكثر من وافية للتعبير, لن يتعطف عليه أحد بها, أو عله يراهن علي انتظار سنوات حتي يأتيه رئيس آخر ليبرالي أو يساري يحترم قيمته, هو رهان للآسف محفوف بالمخاطر. نظِّم وقفة واثنتين وثلاثة وعشرة, ولن ينتبه إليك أحد, نعم, نبدو وكأننا كتلة متحدة الرأي والهدف, ولكن المحصلة صفر, سوف نبقي ريشة في مهب الريح. ادرس أدواتك وفكِّر في نقاط قوتك. لو تخطط لتوعية المواطن, ابدأ بموظفي وزارة الثقافة, أو تحالف مع أكبر دور النشر في مصر, الشروق والعين والمصرية اللبنانية وميريت مثلاً, لم لا تُصدر هذه الدور بياناً شديد اللهجة - وأعني شديد اللهجة - يحذر من المساس بحرية الرأي والإبداع؟ وتهدد بقطع أنشطتها مع الوزارة والحكومة بأكملها؟ لن تفعل الدور هذه الخطوة وتقف عارية, لا بد أن تنال دعماً كتابياً من مثقفي وفناني البلد كافة. ولِم ينبغي أن يصبح المثقف حائط صد للهجمات طوال الوقت؟ يتعرض الشهر تلو الشهر لحملات قضائية من هذا وذاك؟ ويكيل له كل من هب ودب الشتائم. المثقف المصري يصبر إلي أن تكون قدمه علي عتبة السجن! لقد ضجرت من السلبية والتهليل للانتصارات الوهمية الهزيلة. لم تعد الوقفات والمقالات تكفي, اكتب عشر مقالات تنم عن معارضة, سوف يترك النظام أربعاً دون مساس دليلاً علي "ديمقراطيته" وسيشتري ثلاثاً بمنصب أو مال علي حين ينال من سمعة الباقيين أو يجرجرهم إلي المحاكم. اقتراحي هو وضع خطة طويلة المدي لتوسيع حرية الإبداع والرأي. نبدأ مثلاً بنشر رواية مثل رواية أولاد حارتنا, وتكون من إصدارات هيئة قصور الثقافة - أو غيرها - بسعر رمزي وتُوزع في أنحاء الجمهورية, وهكذا تصير لديك معركة فعلية من أجل قضية واقعية. يتبع الكتاب ربما عرض مسرحي علي مستوي الجمهورية, لا توجد محافظة إلا وبها مسرح بلدية, "مأساة الحلاج" لصلاح عبد الصبور مثلاً, مسرحية ذات أبعاد سياسية وتتناول العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة. وهكذا وهكذا, سلسلة من الهجمات التي تفرض بها هيمنتك وتثبت أقدامك, إنما هذا الدستور - أياً كانت صيغته مع الوضع القائم - فنستطيع ببساطة أن نبله ونشرب ماءه!